كثرت في الأسابيع القليلة الماضية المطالبات الفلسطينية ومن مستويات قيادية متعددة، لإعلان دولة فلسطينية مستقلة ضمن حدود عام 1967 من طرف واحد، أي من الطرف الفلسطيني بدون انتظار موافقة الطرف الثاني الشريك في العملية التفاوضية وهو الطرف الإسرائيلي. واتخذت هذه المطالبات في بعض الأحيان شكل التهديد للطرف الإسرائيلي في حالة استمراره في المماطلة المصاحبة بتصعيد بناء المستوطنات الجديدة وتوسيع القائم منها تحت مسمى (النمو الطبيعي)، متناسيا أن هذا النمو غير شرعي ولا قانوني لأنه قائم من الأساس على بنيان غير قانوني ولا شرعي. ولو قام الطرف الإسرائيلي بتنفيذ كافة التزاماته التي نصّت عليها اتفاقية أوسلو الموقعة عام 1993 لقامت الدولة الفلسطينية المستقلة نهاية عام 2005. لذلك فإن المطالبات أو التهديدات الفلسطينية بإعلان الدولة من طرف واحد، تبدو من خلال هذا السياق منطقية وضرورة وطنية فلسطينية. وحسب رئيس دائرة المفاوضات الفلسطينية صائب عريقات فإن الجانب الفلسطيني سوف يلجأ إلى مجلس الأمن في محاولة لإصدار قرار من المجلس بالاعتراف بالدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران لعام 1967. وجاءت هذه الخطوة الفلسطينية وكأنها تصعيد جديد لمضمون المطلب الفلسطيني على اعتبار أن مجلس الأمن الدولي صاحب الصلاحية العليا في فض الخلافات الدولية.
ولكن ماذا تعني هذه الدولة في أرض الواقع؟
تستطيع أية مجموعات وطنية تعيش في أرضها أن تعلن دولتها الخاصة بها طالما هي تسيطر على مساحة من الأرض بشكل كامل وقادرة على حمايتها، وحسب هذا المفهوم نستطيع اعتبار أنه في مساحة من الأرض اسمها (الصومال) توجد الآن حسب هذا المفهوم للدولة على الأقل ثلاثة دويلات، وفي الوقت ذاته تشنّ على بعضها حروبا لم تتوقف منذ سنوات. وضمن حالة (الصوملة) هذه نستطيع القول أن هناك فعلا دولتان فلسطينيتان قائمتان من طرف واحد هما (إمارة حماس) في قطاع غزة و (دويلة عباس) في الضفة الغربية، ولكن لا توجد دولة في العالم تعترف بهما كدول مستقلة، حتى الدول العديدة التي وافقت منذ سنوات طويلة على فتح ممثليات فلسطينية فيها لا تعترف بأنها سفارات لدولة بل (ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية)، ما عدا الدول العربية التي فيها هذه المكاتب فهي تطلق عليها تسمية (سفارة دولة فلسطين)، في حين أن الدولتين الفللسطينيتين القائمتين على الورق فقط لا تعترفان ببعضهما البعض، ف (إمارة حماس) تعتبر وجود الرئيس (محمود عباس) غير شرعي وبالتالي لا اعتراف بدويلته من طرف حماس، و (دويلة عباس) لا تعترف بحكومة اسماعيل هنية في القطاع فهي حكومة مقالة وبالتالي فهي غير شرعية ولا قانونية، ورغم ذلك فكلتاهما قائمتان على الأرض رغم ديكورية هذا الوجود الذي لا يملك اصدار أية قرارات بدون موافقة الجانب الإسرائيلي الذي يسيطر على حدود الدويلتين، ويتحكم فيهما برا وبحرا وجوا وماء وكهرباء وهواء.
لذلك فإن المطلب الفلسطيني الحالي الذي يتطلع إلى إعلان الدولة الفلسطينية من طرف واحد، عمليا وواقعيا حسب مفاهيم الدول المستقلة ذات السيادة لا معنى له، ولن يغير من واقع الشرذمة والضبابية الفلسطينية أمرا ملموسا حتى وإن تمّ اصدار قرار من مجلس الأمن الدولي بهذا الصدد وذلك للأسباب التالية:
أولا:كيف ستكسب الدولة الفلسطينية المزمع اعلانها من طرف واحد صلاحيات الدولة المستقلة ذات السيادة، طالما الطرف الإسرائيلي يتحكم في كافة أمورها الحالية، ويقفل قطاع غزة برا وبحرا وجوا، وتكاد لا تتوقف توغلاته في الضفة الغربية يوما واحدا في كافة مدن وقرى الضفة مصاحبة باعتقالات أيضا شبه يومية، مما أوصل عدد السجناء والمعتقلين الفلسطينيين إلى ما يزيد على ثلاثة عشر ألفا. ومن الملاحظ أنه لا تصدر عن السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية أية تعليقات أو إدانات لهذا التوغل الإسرائيلي اليومي، وذلك بسبب أنه يومي مما جعله روتينيا رغم مصاحبته للاعتقال والمطاردة وإطلاق الرصاص. فهل مجرد إعلان الدولة الفلسطينية من طرف واحد هو الفلسطيني سيوقف هذه التوغلات؟ أو سيعطي السلطة الفلسطينية صلاحية وحق منح الفلسطيني جواز السفر والدخول من المعابر والجسور بدون الموافقة الإسرائيلية؟ أو سيعطي السلطة صلاحية الاستيراد والتصدير بدون المرور عبر الموانىء والمطارات الإسرائيلية؟. وأسئلة كثيرة ضمن نفس سياق الاستقلالية والسيادة المعدومة الآن، لن تتحقق بمجرد إعلان دولة على ورق دون موافقة الجانب الإسرائيلي، بدليل أن هذه الدولة الشكلية من طرف واحد قائمة منذ نوفمبر عام 1988، عندما أعلن ياسر عرفات قيامها في جلسة المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر.
ثانيا: استحالة تعزيز الطلب الفلسطيني بقرار يصدر عن مجلس الأمن الدولي، لأن مجلس الأمن تسيطر عليه الدول العظمى التي تتمتع بحق الفيتو (النقض) وحتى الآن هناك رفض من ثلاث دول عظمى في المجلس هما الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وروسيا.
فالولايات المتحدة الأمريكية، أعلنت أن التفاوض بين اسرائيل والفلسطينيين هو أفضل وسيلة للحصول على دولة فلسطينية، وقد قالها صراحة ىإيان كيلي المتحدث باسم الخارجية الأمريكية (ندعم قيام دولة فلسطينية تكون نتاج مفاوضات بين الطرفين)، أي ليست من طرف واحد وليست عن طريق الحرب بل (مفاوضات بين الطرفين).
وفرنسا، أعلنت بوضوح أشد معارضتها لمساعي السلطة الفلسطينية استصدار قرار من مجلس الأمن يعترف بدولة فلسطينية على حدود العام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. وكأنه مقصود إعلان وزير الخارجية الفرنسية برنار كوشنير أنه سيلتقي الرئيس محمود عباس في العاصمة الأردنية عمان وليس في مقاطعته برام الله.
وروسيا وريثة الاتحاد السوفييتي التي يعتبرها بعض العرب حليفة استراتيجية لقضاياهم، أعلنت صراحة قيام دولة فلسطينية من طرف واحد، كما ورد في تصريح الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الروسي أندري نيستيرينكو يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من نوفمبر 2009، (أن روسيا تعارض الإعلان من جانب واحد عن قيام دولة فلسطينية مستقلة..إن السبيل الأمثل هو الحوار والمحادثات والبحث عن حلول مقبولة من كلا الجانبين ومضمونة من جانب المجتمع الدولي).
وأيضا ليس هناك توجه عربي لتحدي إرادة الدول العظمى، فكما أعلن دبلوماسي عربي في الأمم المتحدة (أن تقديم طلب الاعتراف بالدولة الفلسطينية إلى مجلس الأمن سيتم في الوقت المناسب). وبالتالي حسب رفض الدول العظمى وتهديدات اسرائيل فهذا الوقت المناسب لن يدخل الأجندة العربية الرسمية.
ولو افترضنا أن مجلس الأمن الدولي،
وافق على بحث الطلب الفلسطيني، وأصدر القرار الخاص بذلك مع موافقة كافة أعضاء المجلس عليه بالاجماع، فماذا سيعني ذلك في أرض الواقع؟. فكم من القرارات صدرت عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن وبقيت حبرا على ورق منذ عشرات السنين؟ ماذا عن قرار رقم 194 الخاص ب (حق العودة أو التعويض) الذي صدر في ديسمبر من عام 1948 أي قبل ستين عاما الذي ربما يكون حبره قد تلاشى وورقه قد تمزق؟. وماذا عن قرار 242 الصادر في نوفمبر من عام 67 عن مجلس الدولي نفسه، أي قبل أربعين عاما ونصّ على الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي التي تم احتلالها في حرب هزيمة حزيران 1967 ولاقى نفس المصير؟ والعديد من القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن الدولي بصدد قضايا عالمية عديدة ولم تجد طريقها للتنفيذ والتطبيق في أرض الواقع.
تهديدات إسرائيلية عنيفة
ورغم معرفة الجانب الإسرائيلي بأنه لا قيمة لقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، إلا أنّ المسؤولين الإسرائيليين أصدروا تهديدات علنية وعنيفة للجانب الفلسطيني إن هو أقدم على هذه الخطوة الشكلية الورقية. فقد اتهم وزير البيئة جلعاد أردان القادة الفلسطينيين باللعب بالنار، وأن الفلسطينيين سيخسرون الكثير إن أقدموا على هذه الخطوة، مهددا بقطع التحويلات المالية التي تعود للسلطة الفلسطينية بموجب الاتفاقات الموقعة بين الطرفين المتعلقة بالتعرفة الجمركية. أما وزير البنى التحتية عوزي لاندو فقد هدّد بأن الجيش الإسرائيلي سيعيد احتلال مناطق خاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية.
وحماس ترفض وتدين
وكذلك حركة حماس المسيطرة على قطاع غزة، فقد أدانت توجه السلطة الفلسطينية هذا، ومن منطلقاتها ورؤيتها الخاصة، رأى صلاح البردويل أحد قياديي حماس أن حركته تقلل من أهمية هذا التوجه، واعتبره (مجرد إعلان دولة في الهواء)، مطالبا بدلا من ذلك ب (تحرير الأرض وانهاء الإنقسام)، وكعادة ضبابية مواقف حماس لم يحدد أية أرض يريد تحريرها، وما هي مسؤولية حركته عن الانقسام الذي بدأ بانقلابها العسكري في يونيو
2007.
لذلك أعلنت السلطة الفلسطينية تعليق توجهها
الخاص بإعلان الدولة من طرف واحد، ولكن بطريقة لا تكسبها الاحترام والمصداقية في المجتمع العربي والدولي، لأن أكثر الذين أصدروا تصريحات عن التوجه لمجلس الأمن الدولي بهذا الصدد هو صائب عريقات رئيس دائرة المفاوضات في السلطة الفلسطينية، التي أعلنت رسميا (أنها تقدمت بطلب رسمي من دول الاتحاد الأوربي لدعم توجهها لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي للاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة). وكرّر ذلك صائب عريقات نفسه في تصريح يوم الحادي عشر من نوفمبر الحالي، قال فيه: quot; إنّ الفلسطينيين يعتزمون الذهاب إلى مجلس الأمن الدولي لاستصدار قرار بالاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس...استطعنا أن نأخذ قرارا في الجامعة العربية خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي عقد يوم الخميس الماضي (الخامس من نوفمبر) بأن نحصل على قرار دعم وتأييد عربي بالذهاب لمجلس الأمن لاستصدار قرار بالاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس على حدود الرابع من حزيران 1967 quot;.
وبعد كل زوبعة التصريحات الكلامية الفارغة،
و إزاء التهديدات الإسرائيلية التي أشرنا اليها، قامت السلطة الفلسطينية بلحس كافة تصريحاتها السابقة بخصوص اعلان الدولة من طرف واحد، وعلى لسان صائب عريقات ذاته الذي أعلن يوم الأربعاء الثامن عشر من نوفمبر الحالي لوكالة الأنبتء الكويتية: (لا تنوي السلطة الفلسطينية الاعلان قريبا عن اقامة دولة من طرف واحد، واساء الأوربيون فهم ما قيل بهذا الصدد حيث أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قام بتضليلهم). ويمكن أن نتخيل مستوى الجهل في هذا التصريح، فهو يلحس كل تصريحاته السابقة بهذا الخصوص، وفي الوقت ذاته يتهم الأوربيون كافة بعدم فهم تصريحاته وتصريحات مسؤولي السلطة، ويعطي شهادة امتياز لرئيس الوزراء الإسرائيلي بأنه قادر على تضليل حكومات 27 دولة أوربية.
دولة من جانب واحد، كانت مجرد همروجة للتسلية لعدم وجود موضوعات مهمة يتسلى مسؤولو السلطة بإصدار تصريحات فضائية بصددها، وعندما صدرت التهديدات الإسرائيلية كان أول ما فكروا فيه هو تنقلاتهم عبر المعابر والجسور وبطاقات (في آي بي) التي تمنحها لهم السلطات الإسرائيلية، فسارعوا للحس تصريحاتهم..وبالتالي فحتى المعارك السياسية لا يجيدون بدئها وإدارتها....ويبقى الموضوع السائد والحاضر للنقاش هو: استحالة الدولة الفلسطينية المستقلة...ففكروا ما البديل؟.
[email protected]
التعليقات