تقوم هذه المقالة على حيثيات فكرة قابلة للنقاش فحواها أنه ضمن معطيات الواقع الحالي من المستحيل قيام دولة فلسطينية حسب شروط ومواصفات الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية. ومن المعروف أن فكرة قيام أو إعلان قيام دولة فلسطينية، كان في دورة المجلس الوطني الفلسطيني التي انعقدت في الجزائر عام 1987 التي أعلن فيها الرئيس ياسر عرفات قيام الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967، وهذا يعني أن المجلس الوطني ومنظمة التحرير الفلسطينية، اعترفا بدولة إسرائيل علنا وصراحة قبل توقيع اتفاقية أوسلو بستة سنوات، في حين أن دولة إسرائيل كانت في ذلك الوقت تمنح أي اتصال بمنظمة التحرير الفلسطينية، وتجرّم وتحاكم من يقوم بذلك من مواطنيها.
لماذا هذه الاستحالة؟
هذا السؤال من طرفي ليس تشاؤما أو رفضا لفكرة قيام الدولة الفلسطينية، بقدر ما هو دراسة منطقية عقلانية للظروف وموازين القوى السائدة التي أرى أنها تحول دون قيام هذه الدولة، وهذا يكمن في الأسباب التالية :
أولا: عدم وجود اتفاق فلسطيني واضح صريح
الدولة الفلسطينية المقترحة لا يوجد توافق فلسطيني صريح على مواصفاتها وحدودها، فمنظمة التحرير الفلسطينية التي تسيطر عليها بشكل من الأشكال حركة فتح، رغم تمثيل منظمات فاعلة فيها مثل الجبهتين الشعبية والديمقراطية، ومن خلفها المجلس الوطني الفلسطيني الممثلة فيه المنظمات الفلسطينية (ما عدا حركة حماس)، يؤيدان صراحة قيام تلك الدولة ضمن حدود عام 1967، كما أعلن المجلس الوطني الفلسطيني عام 1987 دون معارضة أي تنظيم آنذاك إذ لم تكن حماس موجودة حتى ذلك العام. هذا بينما حركة حماس التي اصبحت موجودة وفاعلة الآن، وتسيطر على كامل قطاع غزة عقب فوزها بأغلبية المجلس التشريعي الفلسطيني في انتخابات 2006، وتشكيلها الحكومة الفلسطينية برئاسة اسماعيل هنية، هذه الحركة لا موقف واضح لها من مسألة قيام الدولة الفلسطينية، فهي في إعلامها وعلى لسان بعض الناطقين باسمها في الفضائيات، يطرحون التحرير (من النهر إلى البحر)، وبعض القادة فيها مثل المرحوم الشيخ أحمد ياسين واسماعيل هنية وخالد مشعل وغيرهم، يطرحون دوما مسألة عقد هدنة مع دولة فلسطين أحيانا يقترحون لها عشر سنوات، وأحيانا هدنة طويلة لمدة ستين عاما. بينما خالد مشعل طرح أكثر من مرة مع وسائل إعلام أمريكية تحديدا موافقة حركته على قيام دولة فلسطينية ضمن حدود عام 1967، وضمن هذا التذبذب وعدم الصراحة في موقف حماس، لا يستطيع أحد بما فيهم أعضاء الحركة العاديين معرفة حقيقة ما هو برنامج حماس السياسي؟. وهذا التذبذب والتناقض في الموقف الفلسطيني من فكرة قيام الدولة وحدودها، وما يتبعه من الاعتراف بدولة إسرائيل، تستعمله إسرائيل سببا لعدم تقدم المفاوضات على قاعدة : أي من الأطراف الفلسطينية نفاوض وهي غير متفقة على الاعتراف بدولة إسرائيل؟.
ثانيا: تناقض الخطوط الحمر للطرفين
هذا السبب من العوامل الحاسمة التي أطرحها لاستحالة قيام دولة فلسطينية ضمن أية مواصفات، لأن هناك ثلاثة قضايا يعتبرها الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي خطوطا حمراء. الفلسطينيون يقولون لا دولة فلسطينية بدون تحققها، والإسرائيليون يرفضونها جملة وتفصيلا ويرفضون مجرد طرحها للنقاش وهي:
1. قضية عودة اللاجئين الفلسطينيين الذين تم تشريدهم من أرضهم وبيوتهم عام 1948 بعد قيام دولة إسرائيل، ويبلغون اليوم في الشتات العربي والأوربي والأمريكي على الأقل ستة ملايين، مضافا إليهم أربعة ملايين ونصف يعيشون في القطاع والضفة، أي أنه في حالة عودتهم المستحيلة سيكون عدد الفلسطينيين حوالي عشرة ملايين ونصف مقابل أقل من خمسة ملايين إسرائيلي، وهذا في حد ذاته تهديد لوجود وبقاء واستمرارية دولة إسرائيل، وهو الخطر الذي اطلق عليه باحثون إسرائيليون (خطر القنبلة المنوية) ويقصدون التزايد المتسارع لنسبة الولادات في المجتمع الفلسطيني.
2. قضية القدس كعاصمة للدولة الفلسطينية المقترحة، وهي مسألة يصرّ عليها الجانب الفلسطيني ويرفضها بشكل قاطع الطرف الإسرائيلي لأنه في عرفه أن القدس التي تم توحيد شطريها الشرقي والغربي بعد احتلال الضفة عام 1967، أصبحت (عاصمة دولة إسرائيل) ولا يمكن النقاش أو التفاوض حول هذه المسألة، وهذا ما يفسر الجهود الإسرائيلية السرية والعلنية لتهويد المدينة وتخفيض الوجود الفلسطيني فيها إلى أقصى درجة ممكنة.
3. مسالة المستوطنات في الضفة الغربية التي تلتهم ما لا يقل عن ثلاثين بالمائة من مجموع مساحة الضفة الغربية، بالاضافة لتقطيعها أوصال الامتداد الجغرافي لأراضي الضفة، مما حولها إلى جيتوات مقطوعة ومعزولة بالمستوطنات والحواجز العسكرية، ونتج عنه استحالة التنقل الطبيعي الحر بين مدن وقرى الضفة، مضافا إلى ذلك التنقل الحر للجيش الإسرائيلي في كامل مدن وقرى الضفة وكأنه لا وجود للسلطة الفلسطينية وقواها الأمنية، مما نتج عنه اعتقال 4500 فلسطني في القطاع والضفة منذ بداية عام 2009 فقط، وهذه السياسة هي التي جعلت عدد الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية يرقى لحدود 12 ألف فلسطيني وهو رقم قياسي في تاريخ كافة الاحتلالات. وقد كانت وما زالت مسألة الاستيطان والمستوطنات مركز خلاف حتى بين الإدارة الأمريكية التي تطالب بوقف الاستيطان وإزالة بعض المستوطنات ودولة إسرائيل التي ترفض ذلك. وقد أعلنت السلطة الفلسطينية منذ أيام قليلة رفض العودة للمفاوضات مع الجانب الإسرائيلي قبل وقف الاستيطان والبدء بتفكيك بعض المستوطنات، بينما ترفض إسرائيل ذلك واعتبره نيتنياهو (مجرد ذريعة فلسطينية لوقف التفاوض) مطالبا الإدارة الأمريكية بالضغط على الجانب الفلسطيني وليس الإسرائيلي. هذا الظرف الشائك زاد تعقيدا بطلب إسرائيل الجديد الاعتراف الفلسطيني والعربي الرسمي العلني ب (يهودية الدولة الإسرائيلية).
إزاء هذا التناقض الواضح والصارخ في بين الموقفين الإسرائيلي والفلسطيني في كافة القضايا الرئيسية، يتوصل تحليلي إلى استحالة قيام دولة فلسطينية حقيقية في أرض الواقع، تمارس صلاحياتها باستقلالية كباقي دول العالم. وبالتالي فلا معنى لتهديد مسؤول فلسطيني قبل أسابيع قليلة بإعلان الدولة الفلسطينية من طرف واحد إذا تعثرت المفاوضات، فمن حيث الإعلان الكلامي الشكلي فالدولة الفلسطينية معلنة وقائمة من طرف واحد منذ عام 1987 في المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر كما أشرت سابقا، ولكن لا دولة ولا صلاحيات على الأرض، حتى إصدار جواز السلطة الفلسطينية وتأشيرة دخول لأي فلسطيني وتنقل الفلسطينيين بما فيهم وزراء السلطة يحتاج لموافقة إسرائيلية، ودولة إسرائيل تتحكم في المعابر والمياه والكهرباء وشبكة الاتصالات الأرضية والفضائية.
إذن ما الحل؟ ما البديل؟
يتداول الفلسطينيون في مجالسهم وجلساتهم الخاصة بعض الأفكار البديلة التي لا يجرؤ كثيرون على مجرد الحديث فيها، كي لا تطالهم تهم الخيانة والعمالة وقلة الوطنية وعدم المشاركة في النضال والتحرير والاستشهاد...إلخ هذه المعزوفة الكلامية الخطابية و من هذه الأفكار :
أولا : العودة لمصر والأردن
أي أن يعود قطاع غزة للإدارة المصرية والضفة الغربية للمملكة الأردنية الهاشمية كما كان الوضع قبل هزيمة عام 1967. وهذا البديل مستحيل لأنني أعتقد أن جمهورية مصر العربية والمملكة الأردنية الهاشمية ترفضان ذلك بوضوح وصراحة، لأنه لا توجد أية دولة تقبل أن تكون المسؤولة عن تبعات الاحتلال ونتائجه، فمصر لن تقبل أن تعود لإدارة القطاع وهو في هذا الوضع البائس لأنها ستكون مسؤولة عن هذا البؤس، ناهيك عن إدارة شؤون شعب نحو غد مجهول ستتحمل مصر عندئذ نتائجه المجهولة هذه. وكذلك الأردن يرفض كما أرى أن يعود لضم الضفة للملكة الأردنية الهاشمية في وضعها مقطع الأوصال، لأن هذا الضم يعني الموافقة على الاستيطان والمستوطنات الإسرائيلية، والاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة لدولة إسرائيل وهو مرفوض أردنيا وعربيا وإسلاميا. وهذا الحل أيضا سيكون مرفوضا من حكومة حماس المقالة في عرف السلطة الفلسطينية، ومن السلطة الفلسطينية التي تعتبر غير شرعية ولا دستورية في عرف حماس، لأن السنوات الماضية أوجدت امتيازات سلطوية للطرفين يتمتع بها عدد محدود من قياداتهم، من المستحيل التنازل عنها حفاظا على هذه المصالح الشخصية التنظيمية وليس غيرة وطنية وشعبية.
ثانيا : عودة الاحتلال الإسرائيلي المباشر
أي كما كان الوضع في القطاع والضفة منذ عام 1967 وحتى اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1988، حيث كانت أوضاع الحياة اليومية للمواطنين على الأقل تسير بيسر وسهولة، وهذا البديل أرى أنه سيكون مرفوضا بصراحة وقوة من الطرف الإسرائيلي أولا، لأن هناك شروط وتبعات دولية للاحتلال لن يقبل الطرف الإسرائيلي في تلبيتها والقيام بها، كما أن الوضع الحالي حيث الانقسام والاقتتال الفلسطيني أفضل خدمة لدولة إسرائيل، فلماذا تريح إسرائيل الفلسطينيين من قتالهم وصراعاتهم الداخلية التي وصلت حد التصفية واستعمال السلاح، وحملات إعلامية وفتاوي تكفير شرعية لم تصدر بهذه الشدة ضد الاحتلال ذاته.
إذن ما هو المتوقع؟
المتوقع هو أن يستمر الوضع الحالي حيث (إمارة حماس) في القطاع المحاصر البائس، و (دويلة عباس) الكرتونية التي لا تملك ولا تحكم في الضفة لسنوات طويلة قادمة، والمبكي أن القيادتين في القطاع والضفة لا يعانيان أبدا، فمن يتحمل البؤس والفقر والحصار والاعتقالات هم الغالبية المسحوقة من الشعب الفلسطيني، لذلك وحسب اتصالاتي وما يأتيني من اتصالات، فلو أنه فتحت أبواب الهجرة لسكان الضفة والقطاع، لما بقي هناك إلا نسبة بسيطة من الشعب وعلى رأسهم هذه القيادات التي أثرت على حساب الشعب، وهذا ما يفسر تراجع القضية الوطنية يوما وراء يوم.
[email protected]
التعليقات