زيارة البابا الأردنية: تأكيد على دور الأردن في التعايش وخدمة السلام
قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم، سيحل ضيفا على المملكة الأردنية الهاشمية (8 ndash; 11 مايو الحالي)، وهي زيارة لها أهمية خاصة من زوايا ثلاث:
الأولى: هي أن المملكة الأردنية الهاشمية بموضوعية مجردة تعتبر من بلدان التسامح والتعايش الحقيقيين في العالم العربي، حيث أن الشعب الأردني يتمتع بميزة حضارية تتمثل في التعايش المتسامح للغاية بين مسلميه و مسيحييه، فمن المستحيل أن يسأل شخص عن ديانة شخص آخر، فالكل إخوة متساوون في الحقوق والواجبات، يحملون لبعض من المشاعر الطيبة والأخوية الإنسانية ما يحسد عليه الأردن مسيحيو ومسلمو دول أخرى. وفي هذا الشأن يقول الأب نبيل حداد المدير التنفيذي للمركز الأردني لبحوث التعايش الديني: (إن التعايش والتواد بين المسلمين والمسيحيين هو ميزة تجسد العلاقة بين الأردنيين جميعا. إن تعايشنا طاعة وخضوع لأمر السماء التي أوصتنا مسلمين ومسيحيين بأن نحترم الجار والقريب ونهتدي بالوصية في تعاملاتنا اليومية، فتعايشنا شاهد على إيماننا وتقوانا وعبادتنا واستحقاق للمواطنة في هذه الأرض الأطهر التي بارك الله حولها...إنّ حالة التعايش بين أبناء الشعب الأردني حالة إعجاز إنسانية، تتحدى قدرة الغريب أن يميز بين مسلمهم عن مسيحييهم عند دخوله إلى بيوتهم، أو يجد علامة فارقة في سلوكهم أو عاداتهم وتقاليدهم).
الثانية: التأكيد البابوي على أهمية المملكة الأردنية الهاشمية لوجود موقع عماد السيد المسيح على الضفة الشرقية لنهر الأردن، حيث سيزور قداسة البابا هذا الموقع ويضع حجر الأساس لكنيسة اللاتين والروم الأرثوذكس، وإقامة قداس ديني بمشاركة ألاف من الزوار والمدعوين المحتفين بزيارة قداسته الذين يزيدون عن ألف شخصية عالمية.
الثالثة: أهمية المملكة الأردنية في خدمة السلام في المنطقة بسبب جهود قيادتها ومحاذاتها لفلسطين محور الصراع في المنطقة، حيث تؤكد القيادة الأردنية دوما في كافة المحافل على أنه لا سلام في المنطقة دون قيام الدولة الفلسطينية المستقلة ضمن الحدود التي تحددها وتقبل بها القيادة الفلسطينية وهي حدود عام 1967. والدليل على هذا الدور الأردني أن زيارة قداسة البابا الحالية هي الزيارة الثالثة لقيادة الفاتيكان للملكة حيث كانت زيارة البابا بولس السادس عام 1964 هي الأولى، وزيارة البابا يوحنا الثاني عام 2000 هي الثانية، وزيارة البابا بنديكتوس السادس عشر الحالية هي الثالثة .
وهي زيارات لم تحظ بها غالبية دول العالم، مما يدلل على أهمية المملكة الأردنية ودورها في خدمة التعايش والسلم القائمين على العدالة، وهذا ما أكدته رسالة عمان التي أطلقها الملك عبد الله الثاني عام 2004 التي هدفت إلى توضيح الصورة الحقيقية للإسلام، التي قال الملك عبد الله الثاني عنها في إحدى لقاءاته الصحفية: quot; أعتقد أننا نسعى إلى توضيح الصورة الحقيقية للإسلام، والمشكلة التي واجهناها في العقود الماضية هي أنّ البعض سار على نهج مختلف وأساء كثيرا لسمعة الإسلام. إنّ الهدف من رسالة عمّان هو أن يعرف الناس في العالم الإسلامي وفي الغرب بأنّ هذا هو الإسلام الحقيقي وهذا ما يعنيه وهذه هي معتقداتنا. إنّ كل الذين يزهقون أرواح الأبرياء والذين يعيشون على الدمار و الكراهية لا علاقة لهم بالإسلام. وبطريقة ما فإن كلمة متطرف كلمة خاطئة حيث لا يمكن أن تكون مسلما متطرفا أو مسيحيا متطرفا أو يهوديا متطرفا، لأنك إذا كنت يهوديا أو مسيحيا أو مسلما فإنك تؤمن بتعاليم الله التي لا تسمح لك بارتكاب الجرائم التي يقوم بها أولئك المتطرفون. لذا ما نحاول القيام به هو حث الغالبية المعتدلة من المسلمين على القول بأن هذا هو الصواب وهذا هو الخطأ quot;.
مواقف متشنجة لا تعي أهمية الزيارة
لذلك فإن موقف جماعة الإخوان المسلمين في الأردن وتحفظاتهم بشروط على الزيارة هي مواقف (خالف تعرف) فقط، مع أنه في هذه المناسبة يكون السياق (خالف تجهل). فقد أعلن زكي بني ارشيد أمين عام حزب جبهة العمل الإسلامي (الإخوان المسلمون) في رسالة بعث بها لرئيس الوزراء نادر الذهبي quot;ضرورة أن يطلب الأردن اعتذارا علنيا من البابا على التصريحات المسيئة لديننا الحنيف quot;. والمقصود في رسالته هي التصريحات التي وردت في خطاب للبابا في الحادي عشر من سبتمبر 2006 في جامعة ألمانية استشهد خلالها بأقوال امبراطور مسيحي كان قد انتقد بعض تعاليم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ووصفها بأنها quot; شريرة وغير إنسانية quot;. ومن المهم هنا ملاحظة أن هذه الأقوال ليست للبابا بنديكتوس السادس عشر ولكنها منسوبة لإمبراطور مسيحي، وفي التراث الإسلامي يقولون (إن ناقل الكفر ليس بكافر)، ورغم ذلك فقد اعتذر البابا عن ورود هذه الأقوال التي لغيره في محاضرته، وتعمد تنظيم لقاء مع سفراء الدول الإسلامية في الفاتيكان عبّر فيه عن احترامه للدين الإسلامي وسعيه الدائم من أجل التعايش الحضاري بين كل الديانات السماوية. وتأسيسا على هذا الخط سيكون من ضمن زيارته للملكة الأردنية تنظيم لقاء مع قيادات إسلامية في مسجد الحسين بن طلال، وهذا وحده دليل على إصرار البابا أن يؤكد للجميع احترامه للدين الإسلامي والحوار السلمي بين الأديان، و quot; أنّ الدين أساس لخدمة السلام العالمي والعدالة خصوصا في الشرق الأوسط quot;.
لو فكّرت قيادة الإخوان المسلمين
في الأردن جيدا بما يخدم سمعة الإسلام والمسلمين وتأكيد أهمية وطنهم الأردن من خلال هذه الزيارة، لتذكروا أن البابا سبق أن اعتذر في مناسبتين عن أقوال غيره التي وردت في محاضرته، وتوقفوا عن أسلوب المناكفة هذا،ورحبوا بزيارة قداسة البابا للمملكة وحضروا اللقاء معه في مسجد الحسين بن طلال، وأسمعوه ملاحظاتهم الخاصة بالتعايش السلمي بين الأديان،وضرورة دعم مسيرة السلام خاصة المتعلقة بحقوق الشعب الفلسطيني. إذ أنّ لقاء البابا هذا مع القيادات الإسلامية مهم للغاية كما أكّد الأب رفت بدر الناطق باسم الكنيسة الكاثوليكية لأنه quot; سيشكل دفعا جديدا للحوار الإسلامي المسيحي في الأردن والوطن العربي والعالم أجمع والتأكيد على دور الأديان في تعاونها وتجاوبها في صنع السلام quot;. ويؤكد هذه النظرة المحلل السياسي الأردني الدكتور مصطفى الحمارنة في تعقيبه على موقف الإخوان المسلمين الأردنيين: (إن ردة فعل الإسلاميين جاءت طبيعية نتيجة لفهمهم لتصريحات البابا. على كل حال يجب طي الصفحة الآن والعمل على بدء حوار الأديان الذي يقود إلى التسامح وقبول الآخر).
يريدون تفصيل العالم على مقاسهم وفكرهم
وهذه مشكلة غالبية القوى ذات الصفة الإسلامية، فهي ترفض قبول الآخر أولا ثم مناقشته وصولا لقواسم مشتركة تخدم أهدافهم ولو بنسبة من النسب، فالمسألة عندهم لا تحتمل الوسطية التي هي صفة الإسلام (إنا خلقناكم أمة وسطا)، فهي إما أبيض أو أسود، أما محاولة اشتقاق لون بين اللونين أو يجمع القاسم المشتركة بين اللونين فهو غير وارد في قاموسهم. لذلك فهم يريدون تفصيل زيارة البابا الأردنية على هواهم إذ يشترطون ماذا سيزور من أماكن في فلسطين المحتلة، وبناءا على ذلك يحددون هل سيحضرون اللقاء مع البابا في مسجد الحسين بن طلال. هذا رغم أنهم يعرفون أن قداسته سوف يزور بعد المملكة الأردنية القدس والناصرة وبيت لحم، وهذا يكفي كي يطلع على الأوضاع الصعبة التي يعيشها الفلسطينيون مسلمون ومسيحيون، وهذا ما أكده بيان سفارة الفاتيكان في الأردن،إذ ركز على أن قداسته يبدي quot; اهتماما بالغا بالمسيحيين في الأرض المقدسة والذين يعانون مع إخوتهم وأخواتهم من مختلف الديانات غياب السلام، وبالتالي فإن هذه الزيارة تظهر تعاطف قداسته ودعمه للساعين لتحقيق السلام وبناء عالم أفضل يحكمه السلام والأمن والازدهار quot;.
وعن مكانة الأردن يقول البيان:
quot; الأردن كجزء من الأراضي المقدسة متأصل بعمق في كامل الإرث الروحي للكنيسة في الشرق الأوسط، حضارته وتاريخه تنتمي إلى الإرث الثقافي للجنس البشري. الأردن لهذه الأسباب وكل الأراضي المقدسة والكنيسة الكاثوليكية أولا معنية بتناقص أعداد المسيحيين في الشرق الأوسط. إن زيارة البابا سوف تشجع الوجود المسيحي والاستمرار لحياة الكنيسة في الأراضي المقدسة quot;. وهذه مسألة مهمة ليت الإخوان المسلمون في الأردن يولونها الاهتمام الخاص للإجابة على سؤال: لماذا يتناقص عدد المسيحيين الفلسطينيين سنويا في كافة الأراضي الفلسطينية والقدس؟. أليس هذا الموضوع أهم من المناكفات الشكلية حول زيارة البابا التي من ضمن أهدافها دعم الوجود المسيحي في فلسطين والشرق الأوسط؟. إن أهمية المملكة الأردنية في دعم الوجود المسيحي وعملية السلام والسعي الدؤوب لتعميق ثقافة الحوار ونبذ العنف هي التي جعلت الأردن المحطة العربية الأولى التي يزورها قداسة البابا منذ توليه منصبه البابوي عام 2005.
زيارة بابوية مهمة،
تحث كل المؤمنين للسعي من أجل سلام عادل يستحقه الشعب الفلسطيني بعد معاناة ستين عاما، وهي المعاناة التي سيسمع بعض جوانبها قداسته من المسيحيين في فلسطين والأردن، فالمعاناة طوال العقود الستة الماضية لم تستثن أحدا مسيحيا أم مسلما. وفي هذا السياق نتذكر ومن المؤكد أن قداسته يعرف أن التسامح والعدل هو فقط ما يحقق السلام في هذه المنطقة، ودعم العدالة والإخوة والمساواة ورفع الظلم سمة الأديان السماوية، بدليل أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عندما اشتد أذى وعنف بني قومه من قريش ضد المؤمنين من أتباعه، كان الفرج الوحيد أمامه أن نصح أصحابه بالهجرة إلى الحبشة التي يحكمها النجاشي شديد الاعتقاد بالسيد المسيح، ومما قاله الرسول (ص) لأصحابه: quot; إنّ بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه quot;، فكانت هجرتهم الأولى والثانية لحبشة الملك المسيحي النجاشي، الذي رفض بإباء وشهامة السماع لطلبات رسل قريش وبعض مستشاريه لطرد هؤلاء المسلمين المستجيرين بعدله هربا من ظلم وجور بني قومهم ، وقال النجاشي لهم كلمته المشهورة: (والله ما أحب أن لي جبلا من ذهب وأني آذيت رجلا منكم).
هذه الزيارة البابوية تحتم علينا جميعا دعم التآخي الإسلامي المسيحي اليهودي القائم على العدل والمساواة وردع الظلم، وهذا ما تسعى له المملكة الأردنية الهاشمية وأكدته رسالة عمان منذ عام 2004، وهذا ليس مستحيلا بتضافر الجهود ودعم القواسم المشتركة بين كافة الديانات والبشر، فالظلم لا يدوم لأن أساس الديانات هو العدل والعدالة.
[email protected]