أثبت حزب العمال الكوردستاني في تركيا بقيادة المناضل عبد الله أوجلان السجين في جزيرة أمرالي التركية المعزولة منذ فبراير 1999، أن هذا الحزب الذي قاد النضال من أجل الحقوق المتساوية والكاملة لأكراد تركيا، لم يعلن العصيان والكفاح المسلح ضد الجيش التركي رغبة في العنف والإرهاب، ولكن بعد أن فاض به الكيل أمام غطرسة الحكومات العسكرية التركية طوال نصف القرن الماضي، التي كانت على الدوام تتغاضى عن أبسط الحقوق الإنسانية للقومية الكردية، ومصادرة كافة حقوقهم التي نصّت عليها الشرائع السماوية والأرضية بما فيها حقهم في استعمال اللغة الكردية، والقيام بحملات تطهير عرقي من خلال توزيع الأكراد على المحافظات والأقاليم التركية وتوطين الأتراك في أقاليمهم الكردية. وقد سمعت أثناء عدة زيارات لمدينة ديار بكر الكردية ما لا يمكن تخيل حدوثه من ممارسات قمعية ضد القومية الكردية في تركيا، إلى درجة أن مواطنا كرديا اعتقله شرطي تركي وأخذه لمركز الشرطة، فسأل الضابط الشرطي: ما هي الجريمة التي ارتكبها؟ فأجابه: كان يمشي في الشارع ويصفر بفمه لحن أغنية كردية!!!.

مبادرات سلمية متكررة
ورغم ذلك لم تتوقف المبادرات السلمية لحزب العمال الكردستاني، خاصة من قبل المناضل عبد الله أوجلان وهو في سجنه، وقد تقدم الحزب بمبادرات سلمية تمثلت في وقف اطلاق النار ضد الجيش التركي من طرف واحد، وذلك عدة مرات متتلية أعوام: 1993، 1995، 1998، 1999، 2005، 2006. وكانت قوات الدفاع الشعبي الكردية التابعة للحزب قد أوقفت إطلاق النار من جانب واحد عدة مرات عامي 2008 و 2009، كمبادرات حسن نية لحل القضية بالطرق السلمية والحوار الذي يضمن حقوقا متساوية لكافة القوميات والأعراق المكونة لنسيج المجتمع التركي. وفي السابق كانت ردود فعل الحكومات التركية المتعاقبة دوما سلبيا على هذه المبادرات، رغم معرفة هذه الحكومات بأن هذا الصراع المسلح المندلع منذ عام 1984 قد أودى بحياة ما يزيد على 45 ألف مواطن من الطرفين، كما أنه شوّه صورة تركيا لدى الأوساط الأوربية، وهي تسعى حثيثا بكل ما تستطيع لدخول الاتحاد الأوربي، وكان وما يزال ملف حقوق الإنسان والحريات في كافة الميادين أحد أهم الملفات التي تعوق انضمام تركيا للوحدة الأوربية. خاصة أن مصادرة الحريات وسياسة القمع والسجون لم تقتصر على مؤيدي حزب العمال الكردستاني كمنظمة محظورة في تركيا، ولكنها طالت وتطال المواطنين الكرد من أعضاء quot; حزب المجتمع الديمقراطي quot; الذي فاز في الانتخابات البلدية التركية في مارس 2009 برئاسة 89 بلدية، وهو حزب يدعو علانية لرفض العنف وضرورة حل المشكلة الكردية بالطرق السلمية والحوار الديمقراطي، ورغم ذلك تم اعتقال ما يزيد على 300 شخص من أعضائه ومؤيديه، من بينهم 15 رئيسا للبلديات ممن تم انتخابهم ديمقراطيا في انتخابات نظمتها الحكومة التركية نفسها.

تنامي الديمقراطية في مواجهة الفاشية العسكرية
وكغيرها من البلدان هناك تيارات فاشية في المجتمع التركي خاصة ذات النزعة الطورانية، المدعومة من العسكر والجيش التركي، الذي لا نقاش في أن لبعض قياداته مصلحة في استمرار التوتر العسكري الكردي التركي، لاستعماله ذريعة وحجة لديمومة سيادتهم وسيطرتهم على كافة أمور الحياة التركية، بما فيها تشكيل الحكومات وتوجية سياساتها، وإن كان حزب العدالة والتنمية قد تمكن في السنوات الأخيرة من تحقيق خروج نسبي من سيطرة هذه التيارات وعسكرها. لذلك فقد لوحظ أنه للمرة الأولى في تاريخ الحكومات التركية المتعاقبة، أعلن الرئيس التركي عبد الله جول أكثر من مرة عن ضرورة ايجاد حل للقضية الكردية. ومما لا شك فيه أن دعوات الرئيس التركي الخجولة هذه، التي لم تطرح سياسات ميدانية محددة خاصة ما يتعلق بتعديل دستور عام 1921، لها علاقة بالتطورات العسكرية الأخيرة بين الجانبين التي تكبد فيها الجيش التركي خسائر ملحوظة في مواجهاته مع قوات الدفاع الشعبي الكردية، ومن بينها أسر ثمانية جنود أتراك ومقتل ما لايقل عن 15 جنديا في مواجهات في 21 اكتوبر 2007، وكبادرة حسن نية وبتدخل من النائب الكردي في البرلمان التركي أحمد تورك عن حزب المجتمع الديمقراطي، ثم الافراج عنهم في الرابع من نوفمبر 2007، ورافق يومها الجنود الأسرى المطلق سراحهم إلى مدينة دهوك ثلاثة محامين أكراد من تركيا، ورئيس منظمة quot;تسامح الدوليةquot; حسين سنجاري. وأعقب هذه الخطوة السلمية أن طالب النائب أحمد تورك من تحت قبة الرلمان التركي الحكومة التركية، إلى اظهار نية الحوار والعمل الجاد من أجل حل ديمقراطي عادل للقضية الكردية، مؤكدا أن حزبه سيواصل النضال من أجل حل ديمقراطي سلمي وجذري للقضية الكردية.

قوافل حزب العمال للسلام

وفي مبادرة سلام جريئة وشجاعة بدأ حزب العمال الكردستاني منذ أيام قليلة، يرسل قوافل السلام من بين أعضائه وكوادره وأنصاره، حاملين أغصان زيتون وسلام ومحبة للأراضي التركية، وكانت القافلة الأولى قد وصلت لمعبر الخابور يوم التاسع عشر من أكتوبر 2009، وكانت مكونة من 34 شخصا تعاملت معهم السلطات التركية بايجابية واضحة، أذ تم اخلاء سبيلهم بعد الانتهاء من بعض الاجراءات القانونية في المعبر الحدودي. وينوي الحزب استمرار غزوه السلمي لتركيا عبر ارسال مجموعة ثانية من عناصره وكوادره من المقيمين في أوربا خاصة ألمانيا ليصلوا إلى مطار استانبول من مطار دوسلدورف الألماني.
وكانت مجموعة السلام الأولى قد استقلت باصا عائدا لحزب المجتمع الديمقراطي، و كان في استقبالهم حشود كردية بالزغاريد والأغاني والأهازيج الكردية، ومن المعبر إلى مدينة ديار بكر الكردية حيث جرى لهم استقبال حافل، بينما احتشدت الجماهير الكردية في غالبية المدن الكردية معبرة عن فرحتها بهذه الخطوة المؤمل أن تكون بداية النهاية لصراع امتد طويلا، كانت خسائره فادحة بين الطرفين بسبب غياب الديمقراطية والمساواة.


موقف رجب طيب أردوغان

ومما يبشر باستمرار هذا الغزو السلمي لحزب العمال الكردستاني، هو الموقف الايجابي المرحب لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، حيث أعلن في كلمة أمام مجموعته البرلمانية quot; أن خطوة دخول وفد سلام حزب العمال الكردستاني تطورا ايجابيا وأنها استجابة لمشروعه في توحيد الأمة، وليس استجابة لنداء عبد الله أوجلان quot;. وليس مهما أن تكون قوافل السلام له هذه استجابة لدعوة من؟ المهم أن الخطوة تمت بمباركة من أوجلان وحزبه وترحيب من أردوغان وحكومته، وهي في النهاية لمصلحة الأمة التركية بكافة قومياتها وأعراقها، وتحديا للقوى الفاشية اليمينية في تركيا، بدليل مهاجمة زعيم حزب الحركة القومية اليمين المتطرف quot;دولت باخجليquot; هذه الخطوة السلمية من حزب العمال والحكومة، مستنكرا الاستقبالات الجماهيرية الحاشدة لقوافل السلام قائلا: quot; هؤلاء ليسوا حجاجا قادمين من مكة المكرمة بل خونة quot;. وقال أيضا منتقدا الحكومة quot; ليس حزب العمال الكردستاني هو من استسلم للحكومة، بل إن حكومة العدالة والتنمية هي المستسلمة لحزب العمال الكردستاني quot;. وقياسا على الحرص على مستقبل الأوطان وبنائها ووحدتها، نستطيع القول إن الخونة هم الذين يحرصون على استمرار القتال والنزاعات، والتفريق بين مواطني الدولة واضطهاد بعضهم ومصادرة حرياتهم.

الدرس المستفاد من قوافل السلام هذه،
وخاصة للدول التي توزع عليها الوطن القومي الكردي (تركيا، العراق،إيران، وسوريا)، هو أن منتسبي القومية الكردية في هذه الأقطار الأربعة، لا يطمحون ولا يفكرون في الاستقلال والانفصال، وكل ما يطمحون إليه هو المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات، من خلال الدولة الواحدة الموحدة أو الفيدراليات السائدة في العديد من الدول القوية المتقدمة (كندا وسويسرا مثلا)، دون أن تخل هذه الفيدراليات واستعمال كل قومية للغتها الوطنية بوحدة هذه الدول ومناعتها. من يتخيل أنه في جمهورية سويسرا تستعمل رسميا أربعة لغات هي: الألمانية، الفرنسية ،الايطالية، والرومانية. بينما تستعمل في كندا لغتان الإنجليزية والفرنسية. فلماذا العرب والأتراك والإيرانيين معقدين ومتخوفين من استعمال مواطنيهم الكرد لغتهم الوطنية؟. إن الأوطان لا يدافع عنها ويبني وحدتها القوية سوى أحرارها ومواطنيها المتساوين في الحقوق والواجبات.
إن استمرار هذا الغزو السلمي من قبل حزب العمال الكردستاني مدعوما بقوة من الأحزاب الكردية الرسمية الممثلة في البرلمان التركي، وهذا الترحيب الايجابي من حكومة العدالىة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان، إن ترافق مع تشريعات جديدة تلغي التمييز والتفرقة بين مواطني الدولة التركية، من شأنه أن يعزز الوحدة التركية، ويعطي حضورا أكبر للقوة التركية إقليميا ودوليا، وسوف تتعزز قوافل السلام هذه بقوة تدل على جدية الحكومة التركية، إن ترافقت سريعا بالإفراج عن المناضل السجين عبد الله أوجلان، الذي يحظى بشعبية وجماهيرية في الشارع الكردي التركي لا يجادل فيها أحد، كما أن مبادراته وحزبه السلمية سوف تتعمق اكثر جماهيريا في حالة الإفراج عنه.
[email protected]