الفرق بين مفهومي الجمهورية والدولة فرق شاسع، فالأولى تعتمد على الإختيار من قبل المجموع الذي يُشكل المجتمع بكل تبياناته الأيدلوجية والديموغرافية، فالنظام الجمهوري لا يتشكل إلا في إطار من الديمقراطية أو الحكم الشعبي لهذا النظام، أما الحالة الثانية فهي تؤسس للدولة بصرف النظر عن المجموع، أي الدولة ثم الشعب وليس العكس كما في الجمهورية، وفي حالة الدولة، يتم الاعتماد على نخبة معينة ذات أيدلوجية واضحة تضع التصور الكلي للدولة وتطبقه بكل الوسائل الممكنة، أي أن أيدلوجية النخبة هي الأساس في بناء الدولة، بصرف النظر عن أي أفكار بديلة أو موازية للطابع النخبوي.
المشكلة في النظام الإيراني الحالي تكمن في الشطر الثاني من التركيب (إسلامية)، أي أن التوجه الديني هو الحاكم للنظام، وبالتالي كيف يمكن أن تتكون جمهورية في ظل تنميط فكري مُعد سلفاً؟!، فمن الأسس الأولى لمفهوم الجمهورية هو الشعب، فهل الشعب الإيراني كله مسلم، أو حتى ديني من الأساس!، وهل كان قيام الثورة الإيرانية وصولاً لوصول الخميني لإيران بعد عودته من باريس 2 / 2 / 1979، تجلي نهائي لنهاية معاناة شعب بكل طوائفة الدينية واللادينية، الإسلامية والغير إسلامية، أم بداية لمعاناة جديدة؟!، وكيف تطور مفهوم الدولة والإسلامية تحديداً من داخل المفاهيم الثورية؟، كل تلك الأسئلة لن يكفيها من المؤكد مقال أو عدة مقالات، ولكني سأحاول طرح ملامح الصراعات الأيدولجية بعد الثورة الإيرانية، من خلال متابعة رؤساء الجمهورية الإيرانية، على مدار ثلاثين عاماً هي عمر الثورة لللأن، في محاولة لفهم طبيعة التنافس على هذا المنصب رغم قدراته المحدودة بالدستور، بوصفه ساحة الصراع الوحيدة المسموح بها في ظل النظام الإيراني الحالي.
الخوميني والثورة الإيرانية:
لم يكن الخوميني هو صاحب الثورة الأول والأخير، ولكنه أكثر المستفيدين من الثورة بعد إندلاعها، واضعين في الإعتبار أن الحركة الثورية لم تبدأ بشكل محتدم فعلاً إلا قبل قدومه بشهرين فقط، وكذلك كون الخوميني كان منفياً لخارج إيران لما يزيد عن 14 عاماً، (8 أشهر بتركيا، 13 عاماً في النجف بالعراق، 4 أشهر في فرنسا )، وكان ذلك نتيجة لموقفه من محاولات (رضا شاه بهلوي) لإقرار تعديلات دستورية تزيد من سلطته المطلقة أمام الحد من سلطة رجال الدين من قبيل حذف شرط الإسلام للمترشح للإنتخابات البلدية، وكذلك إلغاء القسم على القرآن والسماح للنساء بالترشح، وكل الطموحات ذات الطابع العلماني التي عجز عنها والده (رضا شاه بهلوي)، ورغم أن الخوميني في هذه الفترة لم يكن من مشاهير رجال الدين، ولكنه بموقفه المعارض مثّل الحوزة الدينية في (قم) وعودتها للساحة السياسية ثانية، بعد بعدها النسبي عن السياسية في عهد (أية الله البروجردي) أحد كبار رجال الدين في قم، والذي فضل الإلتفات لإنقسامات وضعف الحوزة الداخلي، بعد العديد من المصادمات مع الشاه، ثم وفاته ومحاولات الشاه في هذا التوقيت نقل الثقل الديني إلى (الحوزة الدينية بالنجف ـ العراق)، ثم وفاة (آية الله البروجردي) فكان موقف الخوميني إشارة لعودة الحوزة في قم إلى ممارسة السياسية، فوُضع تحت الإقامة الجبرية ثم تم نفيه إلى تركيا، والغريب في الأمر أن الخوميني، لم يذكر شيئاً طوال فترة إقامته في تركيا أو إيران، عن الثورة أو مبدأ (ولاية الفقيه)، بل على العكس كان كل إعتراضاته منحصرة على التغير في ظل الملكية وليس إزاحتها، بشكل كامل. ولكن منذ ذهابه للعراق بناءاً على طلب الحكومة التركية، بدأ يُدّرس لطلابه مبدأ ولاية الفقيه، في محاضرات تم جمعها في كتاب تحت مسمى (حاكمية الإسلام، ولاية الفقيه) الذي يُعد المرجع الأصيل للثورة الإسلامية وللآن، والذي تم دخوله إيران تحت إسم (الحكومة الإسلامية: سلطة القاضي الشرعي وخطاب من الإمام موسوي الكاشف)، في محاولة لخداع أجهزة الأمن الإيرانية، ـ واضعين في الإعتبار أن لقب عائلة الخوميني هو موسوي من أصول هندية، جاء جده الثالث إلى النجف ثم (خمين) في وسط إيران واستقرت الأسرة هناك، وإن كانت الدوائر الإيرانية تربطة بالإمام موسى الإمام الخامس في المذهب الشيعي ـ وتحدث الخوميني في هذه المحاضرات عن سلطة القاضي على المجتمع، وسلطة الولي الفقيه ولكن المحدودة برأي الناس، وذات الطابع الإرشادي، وليست الولاية المطلقة. وحينما إنتقل لباريس متصاحباً ذلك مع بداية الإندلاع الحقيقي للثورة الإيرانية وملاحقة أجهزة الأمن العراقية للخوميني في العراق نتيجة لتغيرات السياسية في العراق، وقيام حزب البعث، وعقد إتفاق بين نظام الشاه والبعثيين يُفيد بقمع كل أشكال المعارضة هنا وهناك بشكل تعاوني، في باريس تحدث الخوميني عن جمهورية إسلامية، والتي على حد تعبيره (مثلها مثل أي جمهورية أخرى)، أي تطبق كل مواصفات الجمهوريات الديمقراطية، ولكن بضمير إسلامي، أي لم يذكر مطلقاً فكرة (الولاية المطلقة للفقيه) حتى هذه المرحلة.
المهم أن الثورة في إيران كانت في أوجها ليس بسبب الخوميني وكتبه وشرائطه المهربة فقط، فدوره الأعظم ينحصر في محاولاته الناجحه لإخراج ثورة رجال الدين من الحوزة الدينية بـ(قم) إلى شوراع طهران وغيرها من المدن فقط كفل أرضية شعبية جيدة لرجال الدين تمكنهم من التحرك مع الناس، ولكن هناك أسباب داخلية لقيام الثورة كذلك، بإختصار، الثورة في هذه المرحلة كانت معتمدة على التيارات الليبرالية و الماركسية واليسارية بشكل قوي، مع الإتجاه الديني كذلك، نتيجة لتردي الأوضاع الإحتماعية والإقتصادية فحصل تلاحم بين المعارضة السياسية، المتمثلة في (حزب توده)(ترجمته الحرفية:حزب التجمع) الشيوعي، ومنظمة (مجاهدي خلق) الإيرانية التي أسست عام 1965 بهدف مقاومة وإسقاط الشاه، وكان لها دور بارز في هذه المرحلة بزعامة (مسعود رجوي)، وقد عانت المنظمة من رد فعل عنيف من قبل نظام الشاه من إعدام وسجن إلى غير ذلك، وكان لها كذلك دوراً بارزاً بعد ذلك كما سنرى، وكذلك حزب (نهضت آزادي إيران) (النهضة لحرية إيران) الليبرالي بقيادة (مهدي بزرگان) والذي كان على علاقة جيدة مع العديد من رجال الدين مثل (آية الله منتظري)و(آية الله مطهري) وغيرهم، وعلى الجانب الديني، عملت منظمة (فدائيان إسلام) بقيادة أحد أبناء الحوزة (نواب صفوي) الذي تم إعدامه بعد ذلك، وكذلك العديد من آيات الله، من أمثال (آية الله طالقاني) مُنظّر الثورة، (وآية الله علي منتظري) الذي صار نائباً للخوميني ثم أقاله من منصبه، ووضعه تحت الإقامة الجبرية للخلاف حول مفهوم ولاية الفقيه بعد مرحلة إعلان الخوميني للولاية المطلقة، وكذلك (آية الله هاشمي رفسنجاني)، (وآية الله علي خامنئي) وكانا من تلامذة الخوميني ومن المقربين له في مرحلة نفيه، بل والمسؤولين عن الوساطة بينه وبين حركة فتح وقائدها ياسر عرفات أنذاك، في محاولة لتدعيم الثورة والإستفادة من القضية الفلسطينية، تلك العلاقات التي امتدت بشكل جيد مع فتح إلى الحرب العراقية الإيرانية، ووساطة ياسر عرفات التي كانت لصالح نظام صدام بشكل ما، مما استتبع غضب الخوميني، وتخليه الجزئي عن الدعم المادي والعسكري لفتح، ثم تلى ذلك تكوين (حزب الله) بواسطة نفس الشخصيات المذكورة.
أي أن الحركات اليبرالية واليسارية والإتجاه الثقافي بشكل عام كان قادراً في ذلك الوقت على تحريك الشارع، الشارع الذي كان في أشد الإحتياج لشرعية دينية، فكانت الحوزة، فالشارع من حرك الحوزة وليس العكس، إلا أن العلاقة التي حكمت التيار الديني، والتيارات الثقافية بشكل عام كانت علاقة تنافسية أكثر منها علاقة تكاملية وهذا ما سيتضح فيما بعد.
وتتطورت الأحداث إلى مقتل ما يزيد عن أربعة آلاف شخص متظاهر ضد نظام الشاه من مختلف التيارات بأمر من محافظ تهران، وذلك في نهاية عام 1978، ثم عدم تمكن الشاه من السيطرة على الأمور وخروجه من إيران ـ على ما كان يظن ـ بشكل مؤقت، تاركاً خلفه (شاهبور بختيار) رئيساً للوزراء وكان أخر رئيس وزراء في إيران الملكية، في نفس المرحلة كان الخوميني في فرنسا على علاقات جيدة بالمثقفين والليبراليين وغيرهم، على رأسهم ( أبو الحسن بني صدر)، وبعد علمه بما حدث في إيران قرر العودة ثانية لطهران، وهو على شك من إمكانية دخوله ثانية إلى إيران خاصة مع تصريحات (شاهبور بختيار)، التي أعلن خلالها أنه لن يسمح (لآية الله الخوميني) بأخذ كرسي الحكم مطلقاً، وبالفعل ركب الخوميني طائرة (إيرباص) خاصة أجرها له أحد الإيرانيين في باريس، وتمكن من النزول بإيران، وهناك أستقبله من داخل الطائرة إثنان من رجال الدين، وكانت تلك إشارة واضحة أن رجال الدين سيكون لهم شأنهم من الزعيم الجديد، وصراعهم مع المثقفين والذي كان يمثلهم على نفس طائرة الخوميني (أبو الحسن بني صدر).
وبعد مصادمات عنيفة وصلت إلى حد حرب العصابات بين قوات بختيار، ومناصري الخوميني، هرب بختيار، وترك الأمر للثوار الجدد، بكل تبيانهم الأيدلوجي، ومن هذه المرحلة تحول الخوميني إلى الزعيم المطلق للثورة، وأعلن بعد فترة ليست بكبيرة عن (ولاية الفقيه المطلقة) وأصبح الحديث عن دولة إسلامية وليست جمهورية كما أعلن في البداية، وبالتأكيد كانت لها صدامها مع طبقة المثقفين على إختلاف توجهاتهم.
ـ أولاً: الصراع بين المثقفين ورجال الدين:
كان لهذا الصراع جذورة منذ ثورة (مصدق) وتأميم البترول الإيراني في عهد الشاه، وتحالفه القوي من الحوزة المتمثلة في (آية الله كاشاني)، ثم الخلاف على فكرة السلطة بين رجال الدين والإتجاه الليبرالي لمصدق كرئيس وزراء لإيران، الذي جاء لتحالف قوى الشارع والمثقفين مع رجال الدين، مما استتبع بعد تجلي القوى الدينية عن مصدق، والتآمر الأمريكي إلى فقدان مصدق الشرعية الدينية رغم الشعبية، وإنهارت حكومة مصدق. فدائماً المصلحة واحدة بين الطرفين (الثقافي و الديني)، ولكن الخلاف ينشأ على السلطة بعد تلك المرحلة، هذا ما كان يعيه الخوميني بشكل جيد، وكذلك الإتجاهات الثقافية، فأي صراع في بداية الثورة ستكون نتيجته إنهيارها، ولذا أعلن الخوميني أن رجال الدين ليس لهم في أمور السياسة ولكن فقط التوجيه والإرشاد، فكلف (مهدي بازرگان) بتأسيس أول حكومة تحت ريادة (مجلس الثورة) والذي كان أغلبه رجال دين، وفشلت المحاولة الأولى لصدام مهدي مع رجال الدين وسعيهم الدؤوب للسلطة، وكذلك ظهرت أزمة إحتجاز الرهائن في السفارة الأمريكية لمدة 444 يوماً، فكانت مرحلة إنتخاب (أبو الحسن بني صدر) كأول رئيس جمهورية لإيران.
1 ـ أبو الحسن بني صدر: (رئيساً من يناير 1979 إلى يوليو 1981)
من مواليد 1933 في همدان، له العديد من مواقفه المعارضة للشاه مما استتبع هربه إلى فرنسا وهناك قابل الخوميني، كان ذا توجهات ليبرالية، فاز في الإنتخابات الإيرانية بـ10 ملايين صوت، بنسبة مشاركة 67 %، وفي عهده تم تأسيس أول مجلس شورى إسلامي (برلمان)، تحت وصاية مجلس الثورة، في عهده تم الإفراج عن الرهائن الأمريكان، و بداية العرب العراقية الإيرانية، تمت إقالته من قبل البرلمان بتهمة عجزه عن إدارة البلاد في هذه الفترة الحرجة، وصدق الخوميني على ذلك بلا تردد.
المشكلة الحقيقية تبدأ من لحظة رفض بني صدر لسلطة رجال الدين في ذلك الوقت، ومحاولة صد رغبات الخوميني بتحويل الثورة إلى رجال الدين بشكل كامل، وتفاقمت الأزمة مع منظمة مجاهدي خلق ورفض بني صدر مهاجمتهم بوصفهم شركاء للثورة، خاصة بعد رفض الخوميني ترشيح (مسعود رجوي) لرئاسة الجمهورية، وخروج أنصار الإتجاه اليساري والليبرالي للشوارع في مصادمات عنبفة، وطالب الإتجاه اليساري بحل الجيش لأنه من بقايا العهد البائد، فرفض الخوميني، وأسس نظام (الباسدران) (الحرس الثوري)، وفي النهاية أتهم بني صدر بإشعال الفتنة، وعدم قدرته على صد الجيوش العراقية، وأُقيل تبعاً لصلاحيات الخوميني في الدستور بعد سحب الثقة منه من قِِبّل البرلمان، ومن ثّم أطلق الخوميني يده في مجاهدي خلق ووصفهم بالمنافقين، الخارجين عن الملة، وأعتقل منهم الآلاف وقتل منهم الكثير، مما استتبع هروب بني صدر و(مسعود رجوي) إلى فرنسا ثانية، ولكن مسعود عاد للحرب ضد النظام في الصفوف العراقية مع من تبقى من منظمته (مجاهدي خلق) في حين رفض بني صدر ذلك، وما زال للأن مقيماً في فرنسا تحت حراسة مشددة. وكان هذا أول صدام بين التيار الديني والتيار الثقافي في إيران وكانت النصرة للتيار الديني الخوميني. والجدير الذكر أن أشد مؤيدي بني صدر كان (آية الله منتظري).
2 ـ محمد علي رجائي: (رئيساً من 24 يونية إلى 28 يوليه 1981)
ولد 1933 في قزوين، وكان والده يبيع الإبر، وكان يعمل معه أحياناً، تعليمه كان دينياً، وعمل بائع في العديد من المحال في تهران ثم عمل بمؤهل متوسط في القوات الجوية، وانضم بعد ذلك للمقاومة الإسلامية ضد الشاه وتعرض للعديد من مرات الإعتقال والتعذيب، وكان معروفاً لدى العديد من رجال الدين مثل آية الله طالقاني ثم تعرف على (نواب صفوي) وجمعية (فدائيان إسلام) ثم ترك الجيش وعمل معلماً ثم انضم إلى (نهضت آزادي إيران)، وعرفه الخوميني في مرحلة لاحقة، ووصل إلى منصب رئاسة الوزراء في عهد بني صدر، ثم ترشح بعد ذلك للإنتخابات، وفاز بـ12 مليون صوت. ولم يلبث إلا أن تم إغتياله على يد (مجاهدي خلق) هو ورئيس وزراءه (محمد جواد با هنر) في نفجير مجلس الوزراء. وهنا كانت نهاية المرحلة الأولى من الصراع الداخلي للثورة، فرغم ولاء رجائي للخوميني إلا أنه ليس من رجال الحوزة الدينية، بل نتاج إجتماعي وثقافي مختلف تماماً.
ثانياً: الحكم المطلق لرجال الدين:
مع التخلص من بني صدر بالعزل، ثم رجائي بالإغتيال، ومجاهدي خلق بالقمع، أصبحت الساحة خالية تماماً أمام رجال الحوزة الدينية، للسيطرة المطلقة على السلطة، وتطبيق ولاية الفقيه المطلقة كما أعلنها الخوميني في نهاية حكم بني صدر، أي أن الثورة كانت تحتاج لعامين كاملين قبل أن تقع تحت طائلة رجال الدين كلية. وكانت بداية هذا العهد بإنتخاب (علي خامنئي) كثالث رئيس للجمهورية الإيرانية.
3 ـ علي خامنئي: (رئيساً لفترتين من 1981 إلى 1989):
ولد في 1939 في مشهد، كان تعليمه الديني في حوزة قم، وتتلمذ على يد (آية الله بروجردي)، و(آية الله الخوميني)، وكانت له إنتماءات دينية واضحة أثناء فترة المقاومة للشاه، وإنتمى (لفدائيان إسلام) بقيادة نواب صفوي، وكان مسؤولاً عن توصيل رسائل الخوميني في منفاه بالعراق إلى الحوزة الدينية بقم، وتم إعتقاله عدة مرات، وبعد الثورة كان نائب وزير الدفاع، وقائد الحرس الثوري، فيتعتبر هو مؤسس الحرس الثوري الفعلي مما سهل عملية إنتخابه بعد ذلك، ولدى إنتخابه فاز في الفترة الأولى بمجمل أصوات 12 ميليون من 14، والثانية 15 ميليون من 16، ثم تعرض في 1981 لمحاولة إغتيال من مجاهدي خلق باءت بالفشل، وشارك بنفسه في الحرب العراقية الإيرانية، وكان له الدور الأساسي على الحالة النفسية لقوات الحرس الثوري التي تدين له بالولاء. وفي عهده تم وقف إطلاق النار بين العراق وإيران، وتوفي الخوميني في عهده، وكان مصاحباً له إلى لحظة وافاته، وبعدها اجتمع مجلس الخبراء، وهو المجلس المنوط بإختيار المرشد الجديد، وتم إختياره بعدد 47 عضواً من إجمالي 85 هم أعضاء مجلس الخبراء. ويمثل خامنئي أول ملامح السلطة الدينية في تاريخ الثورة الإسلامية بعد الخوميني.
وفي عهده تزامل مع زميل رحلة كفاحه (آية الله هاشمي رفسنجاني)، في الحكم، فقد نال رفسنجاني رئاسة مجلس الشورى في نفس التوقيت، وشكلً منافساً قوياً له على منصب الزعامة والإرشاد، وفي نفس الفترة كان ظهور (مير حسين موسوي) كرئيس للوزراء والمدعوم من هاشمي رفسنجاني، والخوميني شخصياً، وهذا ما قد يفسر لنا موقف النصير الذي لعبه رفسنجاني مع موسوي في الفترة الأخيرة. مع العلم أن (موسوي) كان رئيس تحرير جريدة (جمهوري إسلامي) الناطقة بإسم حزب بنفس الإسم، وهو الحزب الذي أسسه الخوميني ومجلس الثورة، أمام الأحزاب العديدة اليسارية في بداية الثورة، ثم تم حله بعد ذلك، وأشتهر موسوي بمسانتده لنظام الثورة ضد معارضيه بمنتهى الإخلاص، في محاولة لإثبات ولاؤه خاصة أنه لم يشارك في مرحلة الثورة ذاتها.
4 ـ هاشمي رفسنجاني:( رئيساً لفترتين من 1989 إلى 1997)
يطلق على رفسنجاني (ثعلب النظام)، فهو من المقربيين للخوميني، وتلميذه كخامنئي، وله نفس الدور ويزيد في مرحلة الثورة الإيرانية ولكنه تمكن في فترة وجيزة أن يحوز على الثقة الكاملة للخوميني، تعليمه دينياً في حوزة قم، فهو (آية الله علي أكبر هاشمي رفسنجاني)، له دوره الحيوي في تصفية المعارضة الإيرانية في بداية الثورة، يُجسد النظام الديني بكل قوته، والنظام التجاري بكل نهمه، فهو من كبار التجار في إيران ورث تجارة الفستق ـ بوصفه أهم السلع في إيران ـ عن أبيه، وهو الداعم الأول للبازار (السوق الإقتصادي في إيران)، نال رئاسة مجلس الشورى قبل تولي خامنئي رئاسة الجمهورية، ويعود له الدور الأكبر في قبول وقف إطلاق النار في الحرب العراقية الإيرانية. ورغم ذلك له العديد من الأفكار التي تتسم بالتغيير خاصة فيما يتعلق بالمفاهيم الإقتصدية، وهو الآن يجمع بين رئاسة أهم مجلسين في النظام الإيراني، وهما (مجلس الخبراء)و، (مجمع تشخيص مصلحة النظام). ويشكل منفرداً تهديداً قوياً على منصب المرشد، أو على خامنئي بشكل مباشر.
ثالثاً: الإتجاه الإصلاحي لصالح بقاء النظام:
مع مرور السنوات على الثورة الإيرانية عانى الشارع الإيراني من قبضة رجال الدين القوية مما أنتج حالة من التبرم التي كانت من الممكن أن تفتك بالنظام بشكل عام، فكان لابد وأن يُغير النظام مظهره ليتمكن من كشف الغطاء عن الراغبين في التغيير أو الطامعين في الحكم، ولإمتصاص غضب الشارع بشكل عام، فكان الوجه الأخر للنظام وهو الوجه الإصلاحي.
5 ـ محمد خاتمي ( رئيساً لفترتين من 1997 إلى 2005)
لم يكن لخاتمي نشاطاً ملحوظاً في فترة قيام الثورة الإيرانية، ولا في الفترة الأولى للثورة سوى كونه رئيس الحرب الإعلامية في فترة الحرب العراقية الإيرانية، وذلك لقربه من أحمد الخوميني، إبن آية الله الخوميني في بداية الثورة، ثم لم ينل العديد من المراكز في هذه الفترة، قد يعود هذا لتعليمه الخارج عن الحوزة إلى حد ما، رغم أنه نال درجة (حجة الإسلام) من حوزة قم لكنه نال الدكتوراه كذلك في الفلسفة مما قد يشير لبعده النسبي قد عالم رجال الدين.
في عهده حدثت العديد من المتناقضات في السياق الإيراني، فرغم دعواه الإصلاحية، إلا أنه كان من أكثر الداعمين للمشروع النووي الإيراني، كما حدثت في عهده مجموعة كبيرة من الإغتيالات وإغلاق الصحف، ومحاكمة(كرباسجي) محافظ طهران، و(عطا الله مهاجراني) وزير الإرشاد (الثقافة)، بتهمة الفساد، رغم كونهما من الوجوه الإصلاحية المتميزة، مما يدل على ضعفه أو إتساقه مع النظام بشكل كامل رغم إدعاءاته.
رابعاً:صراع العسكر ورجال الدين:
في الفترة الأخيرة ونتيجة لما حدث من مصادمات قوية في الشارع الإيراني بعد أزمة الإنتخابات من الممكن الوصول غلى نتيجة مفادها، أن الصراع الأصيل الأن ليس بين إصلاحييين ومعتدليين ومتشددين، بل بين كل أولئك والمؤسسة العسكرية، حينما جاء نجاد للسلطة بعد منافسة عنيفة مع هاشمي رفسنجاني، مما استتبع إعادة التصويت ثانية لتساوي النتائج في المرحلة الأولى، أتى (محمود احمدي نجاد) محملاً بفكرتين، وهما مفهوم الدولة الدينية، ولكن تحت قوة العسكر، والدليل على ذلك صمت الحوزة الدينية في الأزمات السابقة، والتي كانت مستحيل أن تصمت في أي مرحلة سابقة، نجاد من الحرس الثوري، ومشارك في الحرب العراقية في بداياته، ومنتمي للفكر الديني المتشدد، وأستطاع أن يتعامل مع قوات الحرس الثوري والباسيج بسيطرة تامة، بحيث تخلى تماماً عن طبقة التكنوقراط، وكذلك غير من صورة البازار العادي الذي يرعاه رفسنجاني، وحل محلهما بشيئين، رجال الحرس الثوري في كل مكان، وطبقة من رجال الأعمال العائدين من الخليج ذوي الأموال الطائلة مجهولة المصدر، فلم يعد هناك بطل ديني كما سبق، فالحوزة منقسمة على ذاتها ولكن للداخل فقط، حتى الإتجاه الإصلاحي عاد لأصوله التي نبع منها، ولم يعد له دوره الحقيقي، فالدولة هي المهيمنة الأولى على كل شئ رغم كل مظاهر الإعتراض التي شاهدناها، خاصة أنه قد أجاد وضع الأمور كلها في يد المرشد، وغَيّب الشارع أمام خرافات المهدي، والتي تتسق مع طبيعة نجاد الفكرية، والتي رفضها رفسنجاني شخصياً في محاولة منه لرفض نجاد.
وفي النهاية فإن النظام الديني في إيران دائماً ما كان ينتصر لصالح الدولة عن مفهوم الديمقراطية، ذلك النظام الذي أصبح يعاني الأن مما أبدع من أيدلوجيات مغلقة، فمع غياب دور رجال الدين بشكل واضح إلا الموالين للناظم الجديد، سيؤدي هذا إلى تغيير شكل الدولة الإيرانية خلال السنوات المقبلة فهل ستقدم تلك المرحلة إجابة عن سؤال الإنتقال من الثورة إلى الدولة في إيران؟!، هذا ما قد تسفر عنه الفترة الحالية لنجاد.
التعليقات