تابعت أبنتي الصغيرة ذات الثلاث سنوات أثناء لعبها بدميتها التي تضاهيها طولاً والمهداة لها بواسطة أحد المقربين، لفت نظري الملابس الطويلة وغطاء الرأس، فلا يظهر من الدمية غير الوجه والكفين، وتعجبت من رغبة ابنتي الملحة في نزع غطاء الرأس الذي يغطي شعر الدمية.
السؤال الملح الذي تبادر إليّ في هذه اللحظة، هل لو ظلت اللعبة على حالها الأول، أي بدون تلك المسحة الدينية المفتعلة بالطبع فهذه مجرد دمية سترجم مثلاً أم سيقام عليها الحد أم سيتم نفيها بعيداً عن السياق الاجتماعي؟!. ولن تباع ولن تشترى!!. هل مجتمعنا في حاجة حقيقية لأسلمة عرائسنا؟! وإن أفترضنا جدلاً أن أحد متبعي الديانات الأخرى أراد أن يشتري لعبة، هل سيشترط أن تكون لعبته بصليب، أو بنجمة البهاء!! لا أعلم، لكنه في النهاية مجرد سؤال أفتراضي. فعلى حسب علمي، في تاريخ دخول الإسلام لبلاد العرائس، لم تدخل بلادنا تلك الألعاب بحجاب، وإنما كانت لعبة طبيعية خالية من كل رمز ديني أو سياسي، لا تحمل سوى هوية مصنعها، ونتيجة لعشرتها معنا، قررت أن تحيا حياتنا، وتفكر مثلنا، وعلمت جيداً، أنها لن تستطيع العيش أو أكل العيش في مجتمعاتنا العجيبة، دون أن تكون لها هوية دينية، تمييزية تحاسب عليها، فقررت أن تختار الهوية الدينية للأغلبية، بل أنها قد غيرت أسمها من (باربي)، إلى أخر عربي، وأتذكر جيداً أن الدنيا قامت ولم تقعد في حينها، عندما كانت تلك العروسة الأفرنجية تظهر لنا في إعلانات بملابس قصيرة، تظهر بعض من مفاتنها اللعوبة، ولكن الأن أطفالنا في أمان منها ومن شرها الأجنبي. بعد أن أعلنت هويتها الدينية الجديدة، وأصبحت ملابسها وشكلها متشابه إلى حد بعيد، مع أغلب البنات والسيدات في شوراعنا الجميلة. فلم تصبح غريبة عنا، أو عن مجتمعنا. والله يكون في عون بقية العرائس الأخرى التي لم تعلن هويتها بعد. فالحياة في بلادنا دون تمييز وتميز مستحيلة تقريباً.
دعنا نمد الخيط لأخره في مساحات التخيل، والتي ليست بمستحيلة علينا، فمن خلال متابعتي لأزمة النقاب التي أثارها شيخ الأزهر في الآونة الأخيرة، والصراع حول حجية النقاب الدينية، وتجرؤ البعض منا في الربط بين النقاب والحرية الشخصية، كموقف من الدولة المجسدة في شيخ الأزهر، ومحاولاته المستميتة في الدفاع عن موقفه، من حيث موقعه المؤسسي، ووصايته الدينية. حالة من العبث القكري والسياسي والديني. وكأننا كنا في حاجة حقيقية لمن يخرج علينا من جديد ليعلم مجتمعنا صحيح الرداء الإسلامي لنسائنا، وهل كان الحجاب لوحدة يكفي، أم لابد من النقاب. وما هي مواصفات الملابس الإسلامية. وصفحات الصحف وأحبار الجرائد، وأهم الكتاب والمفكريين، وكأن الإسلام جديد على مجتمعنا، وما زلنا في حاجة لمن يوضح لنا الأسس الدينية، وكأن شيخ الأزهر أول مرة يرى النقاب في جامعة الأزهر الشريف. ولكن برأيي أن المهم هو الإلحاح على الهوية الدينية، من قبل المجتمع والدولة، والمزايدة عليه من قبل بعض الأقلام الموالية والمتبرئة من كلا السياقين. وتخيلت أن النقاب أصبح هو الزي الأكثر رواجاً في مجتمعنا، هل ستقرر السيدة باربي أن تردي النقاب، وأني ذاهب مع ابنتي لتختار لها لعبة جديدة، والعرائس كلها ترتدي زياً واحداً أسود اللون، كيف لها أن تختار؟!، وهل يحق لي شرعاً في هذه الحالة أن أرفع النقاب لأرى وجه العروسة التي لا أدري ماذا سيكون أسمها، أم أن هذا من حق السيدات فقط؟!، الأهم ما هو مصير إبنتي بل أن تعوددت أن تلعب بألعاب ذات هوية دينية، هل ستتحول هي الأخرى إلى لعبة، يرفع عن وجهها شيخ الأزهر النقاب ليحاسبها عليه، ويأتي لها بملابس جديدة مناسبة للعروسة الجديدة؟!. أسئلة أصابتني برعب حقيقي.
ففي مجتمع تتحول فيه الألعاب إلى أشخاص، والأشخاص إلى دُمى، والدين إلى عروسة يقوم بالوصاية عليها هذا أو ذاك، لابد وأن يصيبنا القلق. خاصة بعد مشاهدة أخرى كانت مدهشة بالنسبة لي على الأقل، ففي أحد البرامج الطبية التي تذاع على إحدى القنوات الفضائية الدينية، شاهدت سيدتان تجلسان في مقابل بعضهما البعض، الإثنتان منقبتان، ولأول وهلة لم أعلم من منهما يقدم البرنامج ومن الضيفة، فالحديث دائر بين الإثنتان حول إحدى القضايا الطبية العلمية، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن القناة واضعة لشعار يروج للنقاب بوصفة من أسس جمال ودين المرأة، كرد فعل على الحملة الشرسة ضد النقاب. فاعتقدت أن نبوئتي قد تحققت، فبالفعل نحن أمام عرائس قررت أن تحول هذا الزي إلى شئ طبيعي.
حقيقة لست ضد النقاب أو معه، ولا أتحامل على عرائسنا المحلية أو التي تأكل عيش في بلادنا، حتى لا يختزل بعض القراء فكرتي في هذا السياق الإفتعالي، ولكن القضية بالنسبة لي تتجاوز تلك الفكرة، وهنا يمكن اختصار الفكرة في سؤال واحد نحتاج له العديد من الإجابات، وهو هل بالفعل يستطيع مجتمعنا أن يعيش ويتعايش دون رمز ديني؟، هل يحتاج إلى هذا بالفعل؟، أمن الممكن أن يتقبل سياق علماني مدني يحكم تصرفاته وقوانينه وحياته الاجتماعية، حتى ألعابه وعرائسه، دون أن يحاول تديين كل شئ، بداية باللعب وصولاً للعلم؟!. هل تستطيع نساءنا أن يسرن في الشوراع، دون ارتداء حجاب أو نقاب أو صليب، أو أي شئ يدل على هويتهم الدينية؟، والأهم كيف السبيل لإلغاء خانة الديانة في البطاقة مثلاً؟. بمعنى، هل سيتقبل مجتمعنا العربي والإسلامي، أن تكون العلمانية هي السبيل الوحيد للحرية المجتمعية، ويتخلى عن كل الرموز والأوصياء ؟!.
دعني اطرح إجابتي، والتي ليست بالضرورة أن تكون سليمة أو موضوعية بشكل كاف، برأيي أن لا سبيل إلى علمانية مكتملة في السياق الاجتماعي الإسلامي بشكل عام، والعربي خاصة، مع الاعتذار لكل التنويريين، ومن يدعون العلمانية، ومروجي الحرية الفردية. وذلك لأسباب أراها منطقية.
العلمانية في أساس نشأتها في السياق الغربي، قامت كما هو معلوم ضد تكلس الحياة الكنسية والدينية المسيحية، وفساد الكهنوت الكنسي في إدارة شئون المجتمع، مما حتم موقف اجتماعي استمر أكثر من ثلاثمائة عام في فرنسا مثلاً، راح ضحيته الألاف من عامة الشعب، وليس فقط النخب المثقفة أو التنويرية، أي أن العلمانية الأوربية، حرية لها ثمن باهظ، دفعه المجتمع ككل، حين شعر بخطورة فساد القائمين على الدين على الحياة الاجتماعية. فقرر بعد طول مقاومة، أن يفصل بين الدين والدولة المدنية، فلا يصح التداخل أو التمازج بينهما، بوصف أن الدين قد يتسبب في فساد، يبدوا مقدساً بحيث يستحيل تغييره، وبالتالي تقلص دور الرموز الدينية إلى الداخل، مع تعاظم دور الفرد وحريته وقيمته في المجتمع.
ولكن في حالنا نحن، من يقوم بوصاية على الدين، رغم تعدد المؤسسات والرموز السياسية والدينية، هو المجتمع ككل، أي أن العقل الاجتماعي هو عقل منتج للمفاهيم الدينية من الأساس، وقادر على تحويل كل أنماط الحياة من حولة إلى رمز ديني، مجتمع يُحول ألعابه وعرائسه إلى هوية تتسق مع بنيته الدينية، لن يستطيع تجاوز ذاته مطلقاً. مهما تسبب له ذلك من معاناة. فالغريب في الأمر أنه على مستوى الدولة القانونية لا توجد مشاكل واضحة مع السياق العلماني أو حتى اللاديني، بالعكس، فأغلب القوانين والدساتير، مستمدة من أصول لا دينية، ولكن القضية ليست في القانون أو واضعيه، فحتى الدستور في بلادنا من الممكن تغييره في لمح البصر لو أرادت الحكومات. الفكرة تكمن في باطن المجتمع ذاته، عدم قدرته أو ثقة أفرادة في إمكانية الحياة بدون سقف مقدس، بل أنه يساهم بشكل فعال في إفراز النماذج والرموز الدينية الهدامة، فكل الحركات الإسلامية، نتاج البيئة الاجتماعية ذاتها. كما أن كل حركات الأسلمة والتنصير، أو التشيع والتسنن، وحتى الصراع المسيحي بين مختلف الكنائس، والتي تعمل على قدم وساق في حياتنا العامة والخاصة لهي نتاج البيئة الاجتماعية، والصراع على امتلاك الهوية الدينية الحقة. مما يؤكد ما ذهبت إليه أن المجتمع في طريقه غلى مزيد من الإنغماس في الهويات الدينية الخاصة، وليس في الإيمان ذاته، أي صراع على امتلاك الهوية الشكلية أمام تشتت القضايا الاجتماعية والسياسية. وبالتالي يظل السياق العلماني مدان، بوصفة ينادي بتوحيد الهوية المجتمعية و تخليصها من كل تمييز، ولا سبيل مطلقاً إلى تبرئته، فمجتمع لا يرى في الدين أو صراع الرموز الدينية أي مشكلة، كيف يمكن اقناعه بعكس ذلك!!.
ولا أريد أن أحصر مفهوم العلمانية خاصة في نتائجها على مجرد الصراع الديني، أو اللاديني. فهناك جانب أهم من هذا السياق، وهو جانب الحرية الفردية، أو الحريات بشكل عام، فالعلمانية في عمق تعريفها اللغوي يعني الشعبية، أو العامة، بديلاً عن النخبة. أي سطوة العامة على النخب وليس العكس، ولا أظن مطلقاً أننا قد وصلنا إلى هذا القدر من النضج لأن نعلي من قيمة الحرية، أما السلطوية. فدائماً ما نحتاج إلى نخبة ذات سمات أيدلوجية واضحة تُكّون سقف حياتنا السياسية أو حتى الفكرية. ونظل نحتاج دائماً إلى من يمنحنا حقنا دون أن نحرك ساكناً في الحصول عليه. فضلاً عن معرفتنا بحقوقنا من الأساس.
وللأسف فإن مجتمعاتنا المتدينة جدا ولو على مستوى الشكل لم تفرز بعد بدائل كافية للإختيار الحر، فمثلاً بعد كل ما شهدته إيران في الآونة الأخيرة، من أزمات أو صدامات شعبية وحكومية، لم يتغير الواقع خطوة واحدة، بسبب إنعدام البدائل، فما زال سياق الحكومة الدينية المقدسة هو الحاكم للعقل الاجتماعي والاختلاف فقط على أسلوب التنفيذ.
وكذلك رغم استغلال الحركات الدينية بشتى توجهاتها، الحياة الاجتماعية، والتكسب من وراء البسطاء وللأسف النخب كذلك، تظل لها سطوتها الواضحة على الشارع العربي بشكل عام، فلا مشاريع سياسية أو فكرية بديلة للنظم الدينية الفاسدة، أو حتى للأنظمة الأيدلوجية والسياسية. فالعلمانية في عمقها ضد أي أيدلوجيا مغلقة تحكم أو تتحكم في سياق الحياة دون اختيار الأفراد، إلا أننا لا نزال تابعين مخلصين شئنا أم أبينا لكل الانظمة الحاكمة.
في المنتهى لا أعتبر العلمانية الغربية هي جنة الإنسان على الأرض، ولكني أردت فقط أن أبرهن أننا أمام حالة لا تحتاجها مجتمعاتنا الان على الأقل، وإن كانت لا تحتاج كذلك إلى حكومات أو جماعات دينية تتاجر بالعقل الإيماني لحياتنا الخاصة. كما أنني لا أُقيم نفسي قيماً علينا. فهذا شكل آخر من أشكال الهيمنة في هذا السياق على الأقل. ولكن رأيي ينحصر في أن الحرية الحقة، ليست في الإنشغال بملابس النساء أو العرائس والدمى. وإنما في تجاوز حدود المظاهر الدينية إلى عمق الحرية الفردية والاجتماعية، والبعد عن صراع الهويات الدينية والسياسية. والإلحاح على البدائل الإنسانية التي من الممكن أن تجمعنا تحت مظلة المصالح الفردية والجماعية. فللحرية الحقة ثمن لسنا مؤهلين لندفعه الآن
أكاديمي مصري
[email protected]