لم يكن مفاجئا ولا غريبا أن يخرج الدكتور برهم صالح عن صمته، ويقدم لنا نقاطه الفاقعة على حروف العملية السياسية التي فرضت مخاوف قادة الأحزاب الشيعية والكردية من عودة شبح صدام حسين ولادة نظام المحاصصة الذي حقق لهذه الأحزاب، ولمن يقف وراءها من القوى الخارجية، كل ما تريد، وتحرم الشعب العراقي من الحياة الحرة الكريمة، ومن الدولة العاقلة العادلة التي كان يأمل في تحقيقها بعد عهود طوية وثقيلة من الديكتاتورية وآلامها التي لا تنسى.

وحين يعلن الرئيس برهم صالح حكمه على العملية السياسية، ويقرر عدم صلاحها، وعدم إمكانية استمرارها، ويطالب بعقدٍ سياسي جديد، من أجل الخلاص من المحاصصة والفساد، فإنه لا يفعل ذلك اليوم فقط، وهو قد أصبح خارجها، بل كان قد قال عنها نفس الشيء، وعمل على تغييرها، وهو في داخلها.

ولا أصدق في الاعتراف بفشل النظام السياسي الحالي من رئيس جمهورية سابق، كان ينبغي أن يكون رئيسا لاحقا، أيضا، لو كان ما يُحرك بعض قادة الأحزاب الشيعية والكردية بحثُهم عن الأصلح والأكفأ والأكثر وطنية وخبرة وثقافة ونزاهة.

ففي المقال المطول الذي نشره الدكتور برهم صالح أخيرا في الشرق الأوسط اعتراف صريح بأن الحسنة الوحيدة للغزو الأمريكي للعراق في 9 نيسان/أبريل 2003 كانت تخليصَ العراق "من نظامٍ مستبد أجرمَ بحق العراقيين والمنطقة لا يمكن الاستهانة به".

ورغم أنها كانت "فرصةً فريدة لبناء منظومة سياسية تتدارك مآسيَ الماضي، وتنطلق لبناءِ مستقبل يحقّق التعايشَ والأمن والاستقرار لمواطنيه، ويعيش فيه الوطنُ بأمان مع جيرانه"، إلا أن ذلك لم يتحقق. ثم يعدد مآسي الاستبداد والهواجس القومية والمذهبية المستحكمة، ويؤكد أنها هي التي أوجبت قيام نظام المحاصصة الذي أفرز توتراتٍ طائفية وقومية انعكست على أداء النظام السياسي. ويحذر أصحابَ نظام المحاصصة من أن المراهنة على صبرٍ أطول للعراقيين لم تعد غير ممكنة. ثم يعترف، بشجاعة، بأن 50 في المائة من الناخبين لم يشاركوا في الانتخابات الأخيرة، وهو ما "لا ينبغي أن يمرَّ مروراً عادياً، بل لا بدَّ من وقفة تأمّل في تداعياته على أزمة شرعية الحكم". ويصر على "أن من غير الممكن معالجة ضعف الحكم الرشيد بإصرار على المسارات الخاطئة المجربة".

فلا الشيعة ولا السنة ولا الكرد، ولا باقي المكونات راضون عن الوضع الراهن، ويقرّون باستحالة استمراره. ويؤسس على ما تقدم ضرورة "إعادة النظرِ في الدستور، وتعديله، وفق السياقات الدستورية والقانونية، وبما يؤمّن التفاهم والوئام الوطني".

وبشجاعة يعترف بأن "هناك اعتراضات واسعة من المواطنين الشيعة على السلطة، لما يعتبرونه إجحافاً بحق مناطقهم في الجنوب، بسبب الفساد وسوء الإدارة، ناهيك عن المعارضة الشعبية الكردية المتصاعدة لمنظومة الحكم في الإقليم، بسبب الفساد، والاستئثار بالسلطة، والمحسوبية".

ولا ينسى العراقيون أن الدكتور برهم صالح كان مؤيدا لانتفاضة تشرين ومؤمنا بعدالة مطالبها، وداعيا إلى احترامها، رغم علمه بأنه، بهذا الموقف الجريء، إنما يغامر بفرص التجديد له بالرئاسة، وهذا ما حصل.

"لقد كنتُ واضحاً وصريحاً، وفي مواقفَ عديدة معلنة ورسمية، من موقعي كرئيس للجمهورية في الدورة السابقة، بالدعوة إلى عقدٍ سياسي جديد، انطلاقاً من أنَّ الوضعَ الحالي يستوجب إصلاحات بنيوية".
"وقمنا، في حينها، بتشكيل لجنة قانونية من الخبراء من كل مناطق العراق في رئاسة الجمهورية لمناقشة التعديلات الدستورية، بعد مظاهرات تشرين التي تمثّل حراكاً شعبياً مجتمعياً جاء على خلفية المظالم والشعور العام بحاجة الوطن للإصلاح".
"وفي خضم النقاشات حول تعديل الدستور كانت هناك مطالباتٌ بالعودة إلى النظام الرئاسي، حيث يجادل البعض في تحميل النظام النيابي سبب الأزمة".

ثم يؤكد أن طيفا واسعا من قادة العملية السياسية الحالية يرفض النظامَ الرئاسي، خصوصاً الكرد، خشية من "عودة الاستبداد والتفرد بالحكم المركزي الشديد". وعن العلاقة الكردية مع الحكومة المركزية في بغداد، يؤكد أنها، منذ تأسيس الدولة العراقية ولا تزال قائمة حتى اليوم، هي أبرز التحديات.
"فلم يستطع العراق، منذ تأسيس الدولة، احتواءَ كردستان في مشروع واضح يحترم الخصوصيةَ الكرديةَ ويحفظها في إطار الوطن الواحد. كما لم يتخلَّ الكردُ عن طموحاتهم القومية، واتخذوا مساراتٍ اعتبرتها حكومةُ بغداد غيرَ مقبولة".
"وفي عام 2003، أتيحت فرصة مواتية لبناء ثقة متبادلة، لكن التخادمَ المصلحي الضيق بين النخب السياسية الشيعية والكردية والسنية، أعاقَ ولادة نموذج حكم سياسي وأمني واقتصادي واجتماعي رصين يستوعب الاختلاف، ويمهد لبناء مشتركات وطنية يجتمع حولها العربُ والكرد".

ثم يصل إلى وضع هذه المعادلة المنطقية المؤكدة التي لا مهرب منها، فيقرر "إمَّا أن يتَّفقَ العرب والكرد، مع الاحترام الكامل لحقوق المكونات الأخرى، على مشروع مواطنة حقيقية كاملة تضمن حقوق الجميع، وتؤمّن الشراكة الفعلية الحقيقية في حكم الوطن، أو البقاء في دوامة الوضع القائم المشوَّه".

ثم يدعو إلى "توحيد حقيقي لهياكل المؤسسات السياسية والأمنية والاقتصادية، وإدارة رشيدة موحدة لقوات البيشمركة، والموارد الطبيعية، والأموال، تنهي المحسوبيات والإقطاعيات الضيقة، والفساد، وترسخ العدالة". "إنَّ ظاهرة الفساد الخطيرة أضحت جداراً منيعاً أمام الحكم الرشيد، وباتت خطراً يهدّد كيانَ الدولة، بل إنَّها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمحاصصة والأزمة السياسية المستدامة".

والحل، في رأي الدكتور برهم صالح لا يتأتَّى إلا من خلال حوار وطني في بغداد، لا في واشنطن، ولا في طهران، ولا في أنقرة. وإذا لم يتحقق ذلك فقد نطوي عشرين سنة أخرى من الأزمات والانتكاسات التي سيدفع ثمنها العراقيون، كلُّ العراقيين، بجميع المذاهب والقوميات.