يقول صديقي صاحبُ القصة: منذ نعومة أظفاري .. كملايين مثلي من الأطفال .. ينهالُ عليّ وابلٌ من اللاءات كل صباح! وتوضيحاتٌ مُكرّرة للمُحرّمات والمُنكرات والممنوعات.. دون توضيحٍ لأسباب التحريم والمنع!
ومن التكرار الفظيع بَدَت لي الدنيا كطريقٍ بشع كله محُرّمات مُفخَّخة يجب علينا تفاديها كي نصل للجنة! وقبل أن أصل للعمر الذي يمكنني فيه ارتكاب المعاصي .. عرفتُ من المواعظ أنني عاصٍ وتجبُ عليّ التوبة! وأنه شتّان بيني وبين الأتقياء الذين كانوا يخافون النار رغم أنهم فعلوا من الخيرات الكثير والكثير .. فأيقنتُ أني مهما تفاديتها .. فمصيري "جهنم" لا محالة !
سألته متشوّقاً: أكمل .. مالذي حدث بعد ذلك؟ فأجاب: لقد عرفتُ وحدي .. لاحقاً .. أن الله لم يخلقنا كي يخوّفنا ثم يعذّبنا .. بل هو يحبنا ويحب لنا الخير ويحبّنا أكثر إذا كنّا سفراء للخير .. وعرفتُ أيضاً .. وحدي .. أن ثمن الجنة غالٍ ومجرد الاجتناب أو التفادي لأي شيء .. مبدأٌ رخيص .. وعندما تبحّرتُ أكثر وأكثر في السِيَر والتجارب والتفاسير وقصص التاريخ والحاضر ونظام الكون .. عرفتُ أن ثمن الجنة ليس تفادي المعاصي .. بل العمل .. أن تستحق الجنة بأن تكون خير خليفةٍ لله في الأرض .. تتركُ أطيب الأثر وتبني وتُصلح وتعمل على تعزيز التوازن والوسطية والتسامح ومحاربة التفلّت والتشدّد معاً، وتتحمّل مسؤولية أسرتك وأبناءك بكل شجاعة.
قاطعتهُ (هذا رائع .. أكمل أرجوك) فتابع: مع الوقت بدأتُ أشغفُ ببلاغة اللغة العربية من الكتب الموجودة في منزلنا، ذلك أن والديّ متخصّصانِ باللغة دراسةً وعملاً. وكشابٍ في مقتبل العمر كنتُ أميل لشعر الغَزَل كونه يخاطب المشاعر التي تحظى بأولويةٍ لدى أي شابٍ طبيعيّ، ثم بدأت موهبة الكتابة تتفتّق لديّ .. فكنتُ أعرضُ كتاباتي الوليدة عليهم أملاً في التقدير والتشجيع والنصيحة المفيدة، الردود كانت في منتهى البرود! الذي أغرقني في خيبات الأمل .. وغَرَسَ في أعماقي الشكّ والريبة في موهبتي بدلاً من الثقة.
أثرُ ذلك يبدو جليّاً حتى الآن .. فلا كتابَ مطبوع لديّ أو ديوان شعر .. كل إبداعاتي مبعثرة .. إحساسي الانهزاميّ كان أعمق من قدرتي على خلعهِ كاملاً .. استعدتُ بعضاً من ثقتي مع تتالي الأعوام والتجارب ومن خلال ولوجي عالم الصحافة . حيث انهالت عليّ شهادات التقدير والإعجاب ككاتبٍ وشاعرٍ وصحافيّ أيضاً .. وبقي البرود السابق كما هو .. يجرحني ويؤلمني مع كل درجة أتقدّم فيها لغوياً وبلاغياً .. أشعرُ بالذهول حقاً .. فهناك من يعتبرني أفضل من يزخرف المعاني في الخطابات .. وهناك من يعتبر كتاباتي أروع ما قرأ وأني أصدق من يُعبّر عن مكنوناته!! وهناك من الشخصيات الهامة من يصرّ على التعاون الإعلامي معي منذ سنوات!! .... هناك الكثيرين غيري فلِمَ كل هذا المبالغات معي ؟؟
شعرتُ بكمٍ هائل من الاستغراب .. فبقيتُ مشدوهاً .. صامتاً .. فتابع صديقي: هنا أتاني الهاتف من السماء .. (أهلك اعتبروها مبالغات .. لكنها ليست كذلك .. يستحيل أن يجاملك كل هؤلاء معاً) .. هنا أشعرُ أن سؤالاً يقتلني .. ماذا لو منحني أهلي الثقة مبكراً .. أين كنتُ الآن؟ لماذا حرموني من التقدير .... لماذا يرفضون الافتخار بي؟ يجاوبني الهاتف (لقد أبدعتَ غَزَلاً .. وهذا مكروهٌ عند هذه العقليات .. ربما لو أبدعتَ في الدعوة لله والتخويف من النار والشعور بالتقصير والذنب .. لكان الأمر مختلفاً).
صَمَتَ صديقي وشعرتُ أن بركاناً داخله على وشك الانفجار .. لكنه سيطرَ على مشاعره .. وأكمل: إذا مَنَحَ الله أبناءك مواهب تنفعهم في حياتهم .. فعليك كأب أو أم دعمها وصقلها وغرس ثقتهم بها .. كي يكبروا واثقين بأسلحتهم لمحاربة تقلّبات الزمان وقسوة الأحوال .. أقل ما يجب عليك منحه لهم .. المحبة المطلقة والتقدير والثقة.. وإذا حرمتهم منها .. فأنت لستَ مؤهلاً للأمومة أو الأبوّة..!! لأنك ظالمٌ بحقهم وبحق كل فردٍ من ذرّيتهم.
تأثّرتُ كثيراً بقصته .. وبقوة شخصيته وعُمق جراحه ودقة تشخيصه .. قلتُ له بصوتٍ آتٍ من حبال القلب الصوتية (كم أنا فخورٌ بك) .. فتجاهلني وأكمل بصوتٍ يحاول كتم الصراخ: إذا بَرَعَ ابنكَ في نفس تخصّصك.. فأخبرته أن قيمة إبداعه 2 من 10.. سيصدّقكَ تماماً .. وتنهار ثقته بنفسه في هذا المجال .. ماذا إذا استمر فيه وبعد 20 عاماً أخبرته كل الدنيا أن قيمة إبداعه قديماً وحديثاً 9 من 10؟ بأي نظرةٍ سينظر لك؟ بأي وجهٍ أو منطقٍ ستجاوبه؟ هل تعتقد حقاً أنه سيصدّق محبتك له؟ والسؤال الأهم: مالذي يمكنك فعله لجبر خاطره المكسور.. وتعويضه عن سنوات الخذلان؟!
بعد فيضان الأسئلة الحادة تلك، خَيَّم الصمت علينا... وما زال!!