الأتراك والحرب العالمية الأولى
مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، والتي کان من أهم ما تمخض عنها سقوط الدولة العثمانية وتلاشيها (إقرأ الحلقة الأولى والحلقة الثانية من هذه الرباعية) ودخول الأتراك في مرحلة جديدة وضعت حداً لغرورهم وغطرستهم التي جالت في الآفاق، لا سيَّما أن العالم قد تغير، ولم يعد معتمداً على الأسلحة التقليدية القرووسطائية، خصوصاً أن الثورة الصناعية في أوروبا قد غيرت من معادلة کانت بين الدولة والعثمانية وأوروبا تلعب كثيراً لصالح الأخيرة، فلم يکن أمام المتنورين الأتراك غير الاستسلام للأمر الواقع والسعي للعمل من أجل النهوض مرة أخرى من خلاله.
المتنورون الأتراك، وفي طليعتهم کمال أتاتورك، سعوا کل ما بوسعهم من أجل محاکاة الأوروبيين والوصول إلى ما قد وصلوا إليه، لکن أوروبا التي مرت بتجربة مريرة ودامية مع الدولة العثمانية لم تثق بأسلافهم بما يکفي لجعلهم ينحون نحوها، ذلك أنها ارتابت من أحفاد دولة مثلت الرعب وجسدت الهلع لأطفال عموم أوروبا من المارد الترکي الذي قد يدخل عليهم في أي لحظة ويسلبهم کل شيئ.
التروي الأوروبي الملفت للنظر في منح تركيا عضوية الاتحاد الأوربي، لم يکن جزافاً، بل کان قراراً عقلانياً ومنطقياً، لأنه بعد ما يقرب من 60 عاماً، بدأت حالة الحنين والنوستالجيا الترکية للدولة العثمانية، والتي کان نجم الدين أربکان من أهم الوجوه الترکية التي لفتت الانتباه الأوروبي إلى هذا الأمر، وله أهميته الخاصة والمؤثرة لأنَّ الأوروبيين لم ينسوا ما عانوه من الدولة العثمانية، وکانوا يريدون من أحفاد هذه الدولة ألا يفکروا يوماً بالعودة إلى هذه الدولة وأفکارها ومفاهيمها، فکيف الأمر مع إعادة إحيائها؟!
العثمانيون الجدد
ولم يکن الشك والارتياب الأوروبي من عودة الأتراك لحلمهم العثماني عبثاً، وخصوصاً بعد تأسيس حزب العدالة والتنمية من قبل المنشقين من حزب الفضيلة الذي کان يرأسه نجم الدين أربکان، والذي تم حله بقرار صدر من المحکمة الدستورية الترکية في 22 حزيران (يونيو) 2001، وکانوا يمثلون جناح المجددين في حزب الفضيلة. ويطلق البعض على الحزب وسياساته لقب العثمانيين الجدد، وهو ما أقره الحزب من خلال أحد قادته وزير الخارجية أحمد داود أوغلو، حيث قال في 23 تشرين الثاني (نوفمبر) 2009 في لقاء مع نواب الحزب: "إن لدينا ميراثا آل إلينا من الدولة العثمانية. إنهم يقولون هم العثمانيون الجدد. نعم نحن العثمانيون الجدد. ونجد أنفسنا ملزمين بالاهتمام بالدول الواقعة في منطقتنا. نحن ننفتح على العالم كله، حتى في شمال أفريقيا. والدول العظمى تتابعنا بدهشة وتعجب. وخصوصاً فرنسا التي تفتش وراءنا لتعلم لماذا ننفتح على شمال أفريقيا. لقد أعطيت أوامري إلى الخارجية التركية بأن يجد (الرئيس الفرنسي نيكولا) ساركوزي كلما رفع رأسه في أفريقيا سفارة تركية وعليها العلم التركي، وأكدت على أن تكون سفاراتنا في أحسن المواقع داخل الدول الأفريقية". أتى ذلك في إطار تخصيص أوغلو بالذكر لفرنسا وساركوزي لرفض الرئيس الفرنسي بشدة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.
عودة براغماتية لا تخفى على أحد
من الضروري جداً التمعن في الظروف والأوضاع التي نجمت عن تأسيس أحزاب ترکية ترکز على الإسلام من خلال الماضي العثماني، أو کما يسمونه في ترکيا أمجاد بني عثمان. فقد مرت على ترکيا فترات شهدت فيها صراعات وانقلابات عسکرية تتعلق معظمها بسبب أو آخر بسوء الأوضاع الاقتصادية وإخفاق الأتراك في تحسين وضعهم أوروبياً، وتراجع الدور الترکي عالمياً، وقد کانت العقود الأربعة الأخيرة من الألفية الماضية حافلة بأحداث وتطورات أثرت على ترکيا کثيراً، لا سيما بعد تأسيس حزب العمال الکردستاني في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 1978، والذي لم يتوانَ العراق في عهد صدام حسين ومن بعده إيران ولاية الفقيه عن استغلاله وتوظيفه لخدمة أهداف وغايات تمنحهما نوعاً من الغلبة والقوة أمام ترکيا، لکن من الضروري هنا الاقرار بأن هذا الحزب قد شکل أکبر عقدة لترکيا بمختلف الاتجاهات السياسية ـ الفکرية ومن ضمنها الاتجاه الاسلامي.
اختيار أسماء نظير "الرفاه" أو "العدالة والتنمية" والتي کما يبدو واضحاً ترکز على الجانب الاقتصادي والمعيشي في ترکيا أکثر من غيره، أوحى من البداية بأن ترکيا تفکر في الکعکة العربية أکثر من الإسلام نفسه، لا سيَّما أن البلدان العربية والإسلامية لم تتمکن من أن تکون بالوضع والمستوى الذي يؤهلها لکي تستفيد من مواردها وإمکانياتها المختلفة، ناهيك عن أنها، وبسبب قصورها ذلك، کانت تعتبر سوقاً کبيراً لتصريف المنتجات الترکية.
لكن من المهم جداً ملاحظة أن الدولة العثمانية، وبقدر ما اهتمت بثروات ومقدرات الشعوب التي خضعت لها والعرب من بينها، لم تهتم بأي شئ آخر بذلك القدر.
تغيير البوصلة الترکية بإتجاه الاسلام
الرغبة الترکية الجارفة في الانضمام الى الاتحاد الاوربي، والتي واجهتها الکثير من المعوقات الى الحد الذي صار الامر يبدو معقدا أکثر من اللازم، حيث يظهر الاتحاد الاوربي في شروطه المعلنة، لا سيما في ما يتعلق بقضيتي الديمقراطية وحقوق الانسان، أنه يمسك ترکيا من موضع الألم، ذلك أن ترکيا التي ارتدت ثوباً علمانياً، ونضت عن نفسها الرداء الاسلامي، أصابتها کبوة کبيرة بسقوط الدولة العثمانية، وتجلى ذلك في عدم قدرتها على مواصلة دورها کدولة قائمة على أساس من الاسلام، وقد أثبتت تجارب العقود الماضية التي أعقبت إلغاء الخلافة العثمانية أنها لم تتمکن من تحقيق النجاح المطلوب والمرتجى من نظامها العلماني، فصار حالها كالغراب الذي سعى لتقليد مشية طائر آخر، فلم يفلح ونسي مشيته الأصلية. ولا غرو في أن العودة الترکية من خلال حزب العدالة والتنمية للإسلام، ليس من أجل أمجاد الاسلام والامة الاسلامية، وإنما من أجل مجد بني عثمان والدولة العثمانية، ولکن الذي لا يفهمه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ومن سبقه أن البحث عن هذا المجد والسعي من أجل إحيائه في ظل ظروف وأوضاع هذا العصر، يبدو أمراً ليس صعب المنال فحسب، بل هو المستحيل بعينه.
هل الأمة الاسلامية مستعدة لمبايعة العثمانيين الجدد؟
ليس المهم ما يحلم ويطمح إليه دعاة إعادة أمجاد بني عثمان، فالسؤال الاهم هل الشعوب العربية والاسلامية مستعدة لقبول العودة إلى کنف دولة إسلامية يقودها الاتراك؟ من الواضح أن التجربة التأريخية المرة وما لاقته خلالها الشعوب العربية والاسلامية من ضيم وظلم الدولة العثمانية، تجعلها تنأى بنفسها عن دولة تعتبر إمتداداً لها، خصوصاً أن الهدف الاساسي لهذه الدولة هو جعل هذه الشعوب وما تمتلك من إمکانيات ومقدرات في خدمة مشروع العثمانيين الجدد.
السعي من أجل لوي الذراع السعودي
لقد مرت ترکيا العدالة والتنمية بفترة طويلة نسبياً حاولت خلالها لوي الذراع السعودي عبر مراهنتها على حرکة الاخوان المسلمين واحتضانهم بعد الضربة القاسية التي تلقتها الحرکة في مصر، وإنتهاء حلمها بالسيطرة على هذا البلد، وتحقيق حلمها من خلال ذلك بالسيطرة على العالم الاسلامي، إذ إن الهدف لم يکن مصر، بقدر ما کان السعودية، والسعي من أجل زعزعة دورها ومکانتها في العالمين العربي والاسلامي، وخصوصاً بعد أن شارکت تركيا في اللعبة المکشوفة للتشکيك بإدارة السعودية لمراسم الحج، والدعوة لجعلها مناطة بمجموعة من الدول الاسلامية، وهو أمر رافقته أيضاً محاولات مستميتة من أجل الطعن بالقيادة السعودية ولکن، العودة التي لا يمکن وصفها بغير عودة الندم لترکيا لسابق علاقاتها مع السعودية وبعدها مع مصر، کان مٶشراً يدل على الفشل الترکي الذريع في لوي الذراع السعودي.
ملاحظة أخيرة
ليس من السهل أبداً على المسلمين قاطبة أن ينسوا الصراع العثماني ـ الصفوي على زعامة الامة الاسلامية، ومن أنه لا زال مستمراً لحد الآن، وسر الاستمرار يکمن في الرداء الديني الذي تغطى به الطرفان، ومن دون شك فإن هذا الصراع يخفت وحتى يمکن أن يتلاشى عندما لا يکون هناك من غطاء ديني للطرفين، ولذلك فإن السعي الترکي الايراني من أجل زعامة الامة الاسلامية في الوقت الحاضر، لا يمکن له أن ينجح مع وجود الطرف الآخر، وسيکون المسلمون بانتظار "جالديران" أخرى من أجل حسم هذا الامر، وبطبيعة الحال فلا أحد يرغب بذلك، لا سيما أن المنطقة متخمة بالحروب، وزعامة إيرانية أو ترکية على الامة الاسلامية سيظل مجرد مشروع لا يمکن أن يکتب له النجاح.
التعليقات