أحد على وجه الأرض لم يكن يتصور أن يحدث على الأرض ما حدث بكل جوانبه وامتداداته، فلم يدر بخلد أحد مثلاً أن يتمكن فصيل فلسطيني، مهما كانت قدراته وإمكانياته، من أن يفعل بأهم دول الشرق الأوسط ما فعلته حركة حماس بدولة الاحتلال، ولا بأي حال من الأحوال، وقبل أن يلتقط العالم أنفاسه هرعت كل جهات الأرض للتضامن مع الضحية قبل أن تستعيد رشدها، فلساعات أصاب العالم الغربي دوار شديد وشعر بأن ما حاول أن ينتهي منه طوال قرن بعد الحرب الاستعمارية الأولى ها هو يعود إليه من جديد.

اذا لم نحم ما بنيناه فسينهار على رؤوسنا، وما فعله الغرب بعد الحرب الاستعمارية الأولى أنه أسس للتخلص من اليهود بإبعادهم إلى فلسطين عبر ما سمي وما زال يسمى بوعد بلفور، وأتم جريمته بعد الحرب الاستعمارية الثانية بمحاولة بناء عالم جديد بأن اقام دولة الاحتلال وقدم لها كل الدعم والحماية لتتحول إلى دولة تحوي يهود العالم وتحمي مصالح الغرب في المنطقة الأخطر في العالم، وهي منطقة الشرق الاوسط.

ليس حباً باليهود ولا عطفاً عليهم منحتهم بريطانيا أرض فلسطين ليبنوا عليها دولتهم، بل لسببين مختلفين عن الفعل الأول أن الغرب لا يريد لقوة عربية أو اسلامية أن تشكل كتلة في مواجهته، ولذا لا بد من جسم غريب يشغله وينشغل به، والثاني أنه يريد حقاً أن يتخلص من اليهود وعقدة كراهيتهم والتكفير عن الجريمة النازية بحقهم كآخر الجرائم لا كأولها، بأن يبعدهم ليقتتلوا مع أمة أخرى لا يرغب الغرب برؤيتها قوية، فإذا انتصر العرب عليهم يكونون قد تخلصوا منهم، وإذا انتصروا على العرب يكونون قد أبعدوهم عنهم وألغوا أية احتمالية لوجود قوة عربية أو اسلامية تقف في مواجهة أطماعهم، وبهذا تتحول المنطقة إلى أداة في يدهم.

قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، كانت أميركا تعد العدة لتعميد مولودها الذي انتظرته ثمانية عقود تقريباً؛ شرق أوسط جديد يتحول إلى ناتو صغير بقيادتها وبإدارة دولة الاحتلال التي كانت على عتبة أن تصبح مكوناً رئيسياً ومهماً من منطقة الشرق الأوسط في مواجهة إيران ومشروعها المقاوم في المنطقة، إلى أن جاء السابع من تشرين الأول (أكتوبر) وحطم كل شيء... كل شيء وهم حتى اللحظة ومع دخول الشهر السادس من الحرب ما زالوا عالقين بصبيحة ذلك اليوم.

الولايات المتحدة ومشروعها الشرق أوسطي هي المهزوم الأكبر في يوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) وما بعده، وأخطر ما يقلق الولايات المتحدة هو أنها لم تتمكن من إلحاق الهزيمة بالمقاومة في غزة، بل وقعت في ورطة لم تتمكن حتى الآن من إيجاد مخرج لها، وهي أنها وجدت أن ما كان الجميع يتحدث عنه لغة بعنوان وحدة ساحات محور المقاومة قد صار حقيقة واقعة، وأن لا حل ممكناً لهذه الورطة الا بالإبادة لغزة سيدة السابع من تشرين الأول (أكتوبر) أو قبول الولايات المتحدة ودولة الاحتلال وطاقم العصابة بإعلان الهزيمة أمام فصائل المقاومة وفي مقدمتها حماس والجهاد الاسلامي التي تمنحهم التقديرات 50 – 60 ألف مقاتل ويمكن أن يصل المجموع إلى مئة ألف مع باقي الفصائل، وأفضل سلاح لهم لا يزيد عن صاروخ بعيد المدى لا يتجاوز مداه 250 كيلومتراً، ومع ذلك تدخل الحرب الشهر السادس ولا زال الحال على ما هو عليه، فعلى غزة مقتلة لا تتوقف ضد أهلها ومنها صمود ومقاومة لم ترفع إلا راية الإصرار ومن الجبهات المشاركة من أحزاب الله وأنصار الله وآيات الله كل إصرار على المساندة والمشاركة والمواصلة وكل محاولات شق الصف بكل السبل فشلت.

الأخطر أن العالم انقسم إلى عدة جبهات، الأولى غزة ومحور المقاومة والثاني الإدارة الأميركية وعصابتها، وهاتان الجبهتان في مواجهة مفتوحة وحرب عض على الأصابع لن تنتهي إلا بإعلان الآخر الاستسلام التام، وجبهة بقايا الخجل الإنساني والتي تمثلها دول أخذت إجراءات لحفظ ماء وجهها وفي المقدمة منها جنوب أفريقيا ومن دار في فلكها، لكن الأخطر من كل هذا هي الجبهة الرابعة الصامتة عن كل المقتلة والجريمة الأبشع في التاريخ الإنساني، مهما كان حجم ما سبقها أكثر وأكبر، فما يميز مقتلة القرن الواحد والعشرين في غزة أنك ترى الرصاصة وهي تقتل وترى الصاروخ وهو يزرع الناس في الأرض ثم تولول كفرد في بيتك قليلاً وتغلق شاشة التلفاز وتغفو لتعاود نفس السيناريو في اليوم التالي، وهذاالشيء نفسه يفعله القادة والزعماء كل في بيته ولا شيء أكثر، بالرغم من أنهم يعرفون أكثر ويشاهدون أكثر ويملكون القدرة على الفعل.

إن ما يجري على أرض غزة أعلن نهائياً سقوط العالم الذي انقسم بين مشارك في المقتلة علناً وبين راض عنها وبين رافض عاجز وصامت عن الحق كالشيطان الأخرس، وهذا لن يؤتي ثماره إلا مع الزمن، ولا أحد يدري حجم التأثير الذي ستحدثه مقتلة غزة على الفكر الانساني ومستقبل البشرية غداً، حين يصبح الجيل الذي يعيش الكارثة الآن ويراها ولا يستطيع أن يفعل شيئا سوى الولولة هو نفسه من يدير هذا العالم غداً. وسيبقى السؤال فيما إذا كانت شظايا هذا العالم المنهار بقوانينه وقيمه ونظمه واتفاقياته وأخلاقه لتشكل المادة الأولية لبناء عالم جديد أم أن السقوط الأخلاقي المدوي سيجعل من سقط سيداً ويحول العالم علناً إلى شريعة الغاب، بعد أن تمكن من تغليفها ما يقارب القرن بغلافات سقطت بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر) كلياً، ونحن نرى شعباً لا يقتل بالرصاص والمدافع والصواريخ فقط، بل بالحرمان العلني من الغذاء والدواء والماء والغطاء والرداء والكهرباء، ويعلن العالم عجزه الكلي عن فعل شيء. وبالتالي، فهل أصبح العالم جاهزاً ليحول القرن 21 إلى العصر العلني المنظم على قاعدة شريعة الغاب وننتظر القرن 22 لعل وعسى، أم أنَّ العالم وشعوبه لن تقبل مواصلة العيش على هذا المنوال، وأن اليوم الذي ستدرك به البشرية أن عليها أن تقوم لتحطيم مصانع السلاح وسادته وتنتصر عليهم وعلى مصالحهم وأن إمكانية بناء عالم الأخلاق وثروة الروح وثورتها بديلاً لثروة المال وسفالته.

ويبقى السؤال بأية أدوات يمكن لنا أن نبني عالم الغد وهل تصلح حجارة وشظايا هذا العالم بعد هدمه لإعادة صياغة عالم جديد بمعنى أن ما الأدوات التي تم استخدامها لهذا العالم الذي سقط لا يمكنها ان تكون مكوناً مناسباً لعالم بلا سطوة ولا سيطرة ولا لصوصية ولا قتل، فعالم ثورة الروح لا يتساوى مع عالم ثورة القتل.