فور حصول الهجوم الإرهابي على الحفل الموسيقي في قاعة الترفيه بـ"كروكوس"، إحدى ضواحي موسكو، سارعت واشنطن، ومن خلفها الغرب، الى اتهام الإرهاب الإسلامي، متمثلاً بتنظيم "داعش – خراسان"، بالمسؤولية عنه، حتى قبل إعلان الأخير تبني الهجوم.
سرعة إلصاق تهمة تنفيذ العملية بتنظيم "داعش" كان المُراد منه حماية أوكرانيا. فالتحقيقات الروسية كشفت عن ضلوع كييف في العملية، ولا سيما أن المنفذين كانوا يحاولون الفرار إليها قبل القبض عليهم. لكن الغرب بقي مصراً على مسؤولية الإسلام فقط، في محاولة منه لوضع "الإسلاموفوبيا" في مواجهة "الروس فوبيا"، وغسل يديه تماماً من دماء الأبرياء الذي سقطوا.
الجهة التي أمرت بالهجوم
في إحدى تصريحاته التي أعقبت الهجوم الإرهابي الدموي، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنَّ "الهجوم نفذه متشددين إسلاميين، لكنه يصب في صالح أوكرانيا، وربما لعبت كييف دوراً في تنفيذه". سارعت وسائل الإعلام الغربية الى تلقف هذا التصريح، واقتطعت منه ما يناسب سرديتها، وعملت على ترويجه لتوكيد مسؤولية الإرهاب الإسلامي.
فقد انتشر الشطر الأول من التصريح أعلاه على نطاق واسع في كبريات وسائل الإعلام الغربية، تحت عنوان مفاده "بوتين يعترف أن الهجوم نفذه متشددون إسلاميون"، أو "إرهابيون إسلاميون". فيما أن كلامه كان واضحاً للغاية، بأن المتشددين الإسلاميين هم من نفذوا الهجوم، لكنهم ليسوا سوى بيادق حركها المخططون عن بعد. أو بمعنى آخر هم مجرد "مرتزقة" نفذوا العملية لقاء حصولهم على المال. وهذا ما يخالف منهجية التنظيمات الإرهابية التي اعتادت تنفيذ أعمالها بقوة الأيديولوجيا وليس بقوة المال. ومع أن الرئيس الروسي أكد في تصريحه نفسه أن "روسيا مهتمة بمعرفة الجهة التي أمرت بتنفيذ الهجوم، وهو أمر شديد الأهمية"، إلا أن وسائل الإعلام الغربية تجاهلت تماماً هذا الجزء.
وعلى النقيض من الاتهامات التي وجهها بعض المسؤولين الغربيين الى روسيا بأنها تسعى لإلقاء المسؤولية عن الهجوم على عاتق أوكرانيا بدون أدلة. فإن تصريحات بوتين وكبار المسؤولين الروس تستند الى وقائع التحقيقات مع المنفذين. وكذلك الى تصريحات سابقة لمسؤولين أوكرانيين، توعدوا فيها بتنفيذ عمليات نوعية في الأراضي الروسية. وأبرزها تصريح رئيس الاستخبارات الأوكرانية، كيريل بودانوف، بأنه "يجب قتل المواطنين الروس أينما وجدوا، سواءً داخل روسيا أو خارجها"، وتوعد بتنفيذ ذلك. وهو كلام خطير صادر عن شخصية تتولى منصباً رفيعاً وحساساً، وليس منسوباً الى مصادر، أو من اختلاق مدونين أو مؤثرين على شبكات التواصل الاجتماعي. فضلاً عن اتهامات مسؤولي الأمن والاستخبارات في كييف للسلطات الروسية بأنها كانت على علم مسبق بالهجوم، ومنذ أسابيع. هذه الاتهامات تحاول تصوير روسيا وكأنها تطلق النار على قدميها، وتزهق دماء مواطنيها الأبرياء. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا ستجني موسكو من وراء ذلك؟
تقارير جاهزة عن "أرض الإرهابيين"
حتى اللحظة، تستمر وسائل الإعلام الغربية في تجاهل كل المواقف والتصريحات التي لا تناسب سرديتها حول الهجوم الإرهابي، حيث تجاهلت تصريحاً شديد الأهمية لوزيرة الخارجية النمساوية السابقة، كارين كنيسل، قالت فيه أن "هجوم كروكوس ليس من تنفيذ تنظيم داعش، بل كان هجوماً سياسياً يستهدف روسيا". وأردفت رئيسة الدبلوماسية النمساوية السابقة "داعش ليس له علاقة بهذا الهجوم. هذا ليس عملاً إرهابياً تقليدياً، هذا قتل جماعي ممنهج ومبرمج ومنظم. لدي انطباع بأن هذه جريمة منظمة لها أسس سياسية، وإجراء ضد دولة معينة". وأشارت كنيسل الى أن الإرهابيين المنفذين لم يكونوا مدفوعين بقوة الأيديولوجيا، بل أرادوا كسب المال.
في المقابل، ما كادت السلطات الروسية تميط اللثام عن جنسية المنفذين الأربعة الطاجيكية، حتى سارعت وسائل إعلام غربية الى نشر تقارير حول ماضي طاجكستان الإرهابي. وطاجستان هي إحدى الجمهوريات السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى، ويبلغ عدد سكانها قرابة 10 مليون نسمة. على سبيل المثال لا الحصر، نشر موقع "فرنسا 24" تقريراً أسهب في الحديث عن كون طاجكستان أرضاً خصبة للجهاديين، وأنها تشكل أحد الروافد الرئيسية لتنظيم داعش. واستند التقرير الى معلومات من الاستخبارات الفرنسية، والى آراء باحثين متخصصين بـ"مجتمعات آسيا الوسطى" في مركز أبحاث تابع لجهاز الاستخبارات الفرنسي، من أجل توكيد النظرية الغربية حول مسؤولية داعش حصراً عن العمل الإرهابي.
بيد أن ما أغفلت وسائل الإعلام الغربية ذكره، هو التعاون الوثيق بين السلطات الروسية ونظيرتها الطاجيكية، خصوصاً في مجال مكافحة الإرهاب. في 29 آذار (مارس)، أعلنت مصادر أمنية طاجيكية عن "اعتقال 9 أشخاص في إحدى ضواحي العاصمة دوشنبيه، بتهمة ارتباطهم بمنفذي هجوم كركوكس الإرهابي، وذلك ضمن إطار التعاون مع الأمن الفدرالي الروسي". وفي 30 آذار (مارس)، كشفت نائبة وزيرة العمل والهجرة في طاجكستان، شاخنوزا نوديري، أن بلادها كثفت بعد هجوم "كروكوس" الإرهابي "جهود توعية العمالة المهاجرة الى روسيا، لمنع تورطها في الإرهاب والتطرف". وذكرت ديري أن "هذا العمل كان يجري دائماً، لكن تم تكثيفه في الوقت الحالي عقب الاعتداء الإرهابي، خاصة عندما يستخدم المتطرفون بنشاط شبكات التواصل الاجتماعي لتجنيد المهاجرين". الأمر الذي يعكس حجم العلاقة الوطيدة التي تربط روسيا بطاجكستان على كافة المستويات.
النفاق الغربي حول حقوق الإنسان
من الأسئلة المطروحة على هامش هذا الهجوم الإرهابي، والتي تعامت عنها وسائل الإعلام الغربية، لأنها تفضي الى نقاشات غير محبذة: لماذا جرى تجنيد شبان من طاجكستان فقط لتنفيذ العملية، علماً أنهم ليسوا من المنتمين الى تنظيم داعش، وليس لديهم سوابق إرهابية؟ هل كان الأمر متعمداً لإثبات صدقية الرواية الغربية عن مسؤولية داعش حصراً عن الهجوم الإرهابي، بالاستناد الى بروز عدد من الطاجيكيين في صفوفه سابقاً؟
عموماً، فإن التقارير التي تنشرها وسائل الإعلام الروسية، والمعلومات والبيانات الصادرة عن المسؤولين الروس حول مجريات التحقيق، تدحض تماماً الرواية التي تسوقها وسائل الإعلام ووكالات الأنباء الغربية. مع ذلك، فقد سعى الغرب الى زرع بذور الشك في تماسك وصدقية التحقيقات الروسية، من خلال التركيز على الحالة الصحية لمنفذي الهجوم، بقصد الإيحاء بأن الاعترافات انتزعت منهم تحت التعذيب. وبالتالي فإنه لا يمكن التعويل عليها.
وهذا ما يمكن اعتباره قمة النفاق والتدليس، ففي الوقت الذي يبدي الغرب اهتماماً زائفاً بحقوق الإنسان لزمرة من الإرهابيين، فإنه يغض الطرف عن المجازر الإسرائيلية اليومية المهولة بحق أبناء غزة، بدعم غربي، وبسلاح أميركي وأوروبي. ليس ذلك فحسب، بل إن وسائل الإعلام نفسها التي تروج لتعذيب منفذي هجوم "كروكوس الإرهابي"، غضت الطرف عن أحدث تقارير "مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان" في 27 آذار (مارس)، والذي يغطي الفترة من كانون الأول (ديسمبر) 2023، حتى فبراير (شباط) 2023.
هذا التقرير أكد تعرض أسرى الحرب الروس للتعذيب في أوكرانيا، وذلك بعد زيارة 44 سجيناً روسياً في مناطق أوكرانية متعددة. كما أكد أن "سلطات كييف لا تحاكم المسؤولين عن العنف ضد المدنيين، وضد أسرى الحرب، حيث وثق موظفو المفوضية عمليات الاعتقال التعسفي، والإخفاء القسري، والتعذيب، والعنف الجنسي ضد جنود روس، وضد المدنيين أيضاً". كما وثق موظفو المفوضية أيضاً "إعدام 25 عسكرياً روسياً بين عامي 2022 – 2023". علاوة على ذلك، تحدث التقرير عن "معاناة الأقلية الناطقة باللغة الروسية في أوكرانيا من التمييز بالمقارنة مع أقليات أخرى تتحدث لغات إحدى دول الإتحاد الأوروبي". ترى أين القيم الغربية من كل ما سبق؟
التعليقات