قسوة المناظر المقزّزة التي عرضتها الشاشة الفضية كانت قد استوقفتني مطولاً وأنا أتابع، وبإنصات مُبالغ به، محتوى أحد الأفلام التي عرضتها منصة "نتفليكس" التي تقوم بإنتاج الأفلام والبرامج التليفزيونية، التي تستحق المشاهدة لما تتضمّنه من صور مؤسية تفجّر اليأس، وخاصة صورة معلمة المدرسة التي كانت تحاول العمل على إنقاذ احدى التلميذات الصغيرات التي تقيم مع والدها في إحدى القرى النائية، ويعيش أهلها في فقر مدقع في غرفة سكنية متواضعة، ويقوم الأب بدوره على صيد الأسماك وبيعها بأسعار زهيدة بالكاد تسدّ الرمق!

كانت الطفلة بمثابة "الأم الصغيرة" بالنسبة إلى والدها، وهذا ما كان يفضل أن يناديها به بصورة دائمة، فكانت تساعده في الصيد من خلال استخدام زورق بسيط لهذه الغاية، وكانت رغبة الطفلة الصغيرة الالتحاق بالمدرسة والنهل من دروسها، إلّا أنَّ الأب الشديد القسوة كان يُمانع في ذلك، لا سيما أنّ زوجته، والدة الطفلة المتوفية، كانت متعلمة ولم تكن ترضى بالواقع المرير الذي كانا يعيشانه، بل كانت تنتقد وباستمرار الكثير من تصرفاته الغريبة المخجلة التي يقوم بها، وكانت تُوجهه بصورة قاسية، وهذا ما دفع به إلى أن يكره التعليم الذي كان له دوره الكبير في الحفاظ على المرأة وكينونتها، وتعريفها بالكثير من المفاهيم، وما لها وما عليها من واجبات لم تكن تدركها قبل دخولها المدرسة، وهنا تكمن عقدة الأب الذي لم يكن يريد لأبنته الصغيرة أن تكرّر نفس المشكلة التي كانت ترغب وبشدّة في دخول المدرسة التي تحبّها بشغفٍ غريب، في الوقت الذي أظهر فيه الفيلم بعض التلميذات الصغيرات اللاتي كن يذهبن إلى المدرسة مترددات باصطحاب آبائهن بعدم الرغبة الالتحاق بها، ومد يد الاهتمام والمساعدة لهن على التعلم، بينما "الأم الصغيرة" التي كانت تهوى المدرسة بشغف كبير، كانت تلاقي العنت والرفض من قبل والدها، وعملت المستحيل للالتحاق بالمدرسة لأجل التعلّم فيها، وكانت تأتي إليها بصورةٍ دائمة خفيةً بعيداً عن أنظار والدها لمتابعة الدروس التي تقوم المعلمة الوحيدة على اعطائها للتلاميذ الصغار من بين شقوق جدران الصف الخشبية، فتتابع حل المسائل الرياضية وتعلم حروف اللغة الإنكليزية ودرس العلوم والتاريخ، كل ذلك بعيداً عن أنظار المعلمة، التي كانت تقضي جلّ وقتها واقفة تنصت وتشاهد كيف تعطى الدروس للتلاميذ، وعدم مشاركتهم في الصف أو حتى التفاعل مع المعلمة.

إقرأ أيضاً: العجيلي... أيقونة فراتية خالدة

وفي يوم رأت المعلمة "الأم الصغيرة"، وهي واقفة خلف جدران الصف من بين الشقوق التي تركت أثرها بفعل الطبيعة، ونادت عليها بالتوقف عن الركض، إلّا أنها ذهبت مسرعة نتيجة الخوف الذي كان ينتابها في حال علم والدها بترددها على المدرسة، وهو الذي كان يحاول ابعادها عنها بأي صورةٍ كانت، وقد استعمل معها في أكثر من مرة الضرب المبرّح للحيلولة دون ذلك، وكانت تخفي عنه في البيت أوراقها المدرسية وبعض الكتب التي كانت تحاول أن تتعلم منها ما يمكن لتجاوز الجهل الذي تعاني منه، وللخلاص من الواقع المرير الذي كانت تعيشه مع والدها الفقير الحال الذي كان يُصرّ على إبقائها معه في العمل في أغلب الأوقات، وكسب النقود من بيع الأسماك التي يصطادانها يومياً، والتي تعد مورد رزقهما الوحيد، وفي البيت تقوم على غسل الملابس وإعداد الطعام ضمن ظروف قاسية جداً، ولأجل حسم تعلقها بالمدرسة، وباقتراح من عمّها لقاء إعفائه من الديون المتراكمة عليه، عمل ذاك الزوج الدميم على تزويجها إلى رجل يكبرها بثلاثين عاماً، وقضت معه أياماً قاسية ولم تكن تدرك ما يخبئه لها الزمن، وبالرغم من ذلك لم تستسلم معلمة الصف إلى الحال الذي وصلت إليه، فكانت تبكي عليها وترأف بحالها، وحاولت الطفلة الهرب مراراً من الواقع الذي تمر فيه، والخلاص من معاملة الأب السيئة، وبالرغم من موقف مدير المدرسة من المعلمة وإساءته لها، والتنكيل بها وقوله لها بصورة دائمة عدم اجبار تلاميذ القرية على الالتحاق بالمدرسة بعيداً عن موافقة أولياء الأمور، وفي يوم طُلب من إدارة المدرسة المشاركة في مسابقة تضمّ عدداً من المدارس لأجل اختبار كفاءتهم أمام لجنة تربوية مختصة لمعرفة قدراتهم، ولم يكن من بين التلاميذ الملتزمين في المدرسة من هو مؤهل لخوض ذلك الامتحان الرسمي، والسبب تدنّي مستواهم التعليمي وعدم رغبتهم بتلقي العلم، وعجزهم عن استيعاب الدروس المعطاة لهم، ما اضطرهم إلى الاستعانة بتلك الطفلة التي لم يسبق لها أن زارت المدرسة أو جلست على مقاعدها، إلّا أّنّها عرفت المدرسة خَفية من خلال التلصص من بين ثقوب جدرانها الخشبية المهشّمة، فكانت تتابع وتراقب وبحب كل حرف يُعطى لهم، حتى أنّها عرفت الكثير عن تلك الدروس التي يتعلمها التلاميذ.

إقرأ أيضاً: "السِلْفُ" وأحاديثه الساخنة!

كان للمعلمة دورها الكبير مع مدير المدرسة المشرف على اقناع أبيها بالالتحاق بالمسابقة التي ستقيمها الإدارة المركزية المعنية، وفي حال فوزها بالمسابقة سيصار إلى منحها مكافأة مجزية، ما دفع بوالدها الصياد إلى الموافقة على طلب المدير وعمل على إرسالها مع المعلمة للمشاركة في المسابقة الرسمية، وفطنتها وذكاؤها أوصلاها إلى المرحلة النهائية للمسابقة ففازت بها عن جدارة متحديةً بذلك تلاميذ المدارس المشاركة ونجحت بذلك، وحققت رغبتها في اكمال دراستها وبجدية ونجحت فيها وعن جدارة، ونالت أعلى المراتب العليا بعد أن تخلصت من المشكلة المأساة التي كانت تعيشها، والذل والإهانة وحالة الاحباط والفقر المدقع الذي كان يَنهش بها بعزيمة وإرادة لا تلين.