عن عمر يناهز الـ 88 عاماً، وعلى وجه التحقيق، في الخامس من شهر (أبريل) لعام 2006، كان موعد رحيل الكاتب الكبير، أيقونة الرّقة، الذي يظل علماً من أعلامها الروّاد الذين لا يمكن للعين أو القلب أن يغفلانه، أو للذاكرة أن تنساه؛ إنه الطبيب والأديب عبد السلام العجيلي الذي كان له صولاته وجولاته في عالم الثقافة والأدب والطب. ومن يتابع، وبإمعان شديد، ما تناوله الأديب الراحل خلال فترة عمره الذي قضاه مطالعاً نهماً، وناقداً حذقاً ومتمكناً، لكتب الأدب والتراث، ودراسة الطبّ في جامعة دمشق، بعد أن أنهى تعليمه الثانوي في مدارس حلب، واهتمامه بالشأن العام، أضف إلى تسلّمه حقائب وزارية متعدّدة، وعضواً فعالاً في مجلس النواب، ومشاركاً في جيش الإنقاذ مدافعاً عن قضية فلسطين الكبرى، يجد هناك الكثير من المفارقات، ولا ننسى في هذا المقام دوره في كتابة المقال الأدبي، وتناوله بأسلوب منمّق ومفهوم وسلس.

فالأديب الراحل يُعَد علماً من أعلام سوريا المبدعين، ومن أبرزِ كتّاب القصّة القصيرة في الوطن العربي، وممن خاضوا تجارب عديدة ومتنوّعة في الحياة، سواءٌ في الجانب الأدبي أو الشخصي.

فالأسفار، والعلاقات الإنسانية، والعمل، والكتابة الأدبية، ومستجدات الحياة اليومية، وما يعتريها من أحداث ـ جميعها لها مكانةً خاصةً لدى الكاتب!

وعندما نغوص في أعماق ما كتبه العجيلي، فإنَّ معظم ما تناوله نابع من التراث أولاً، والبيئة الفراتية الغنية ثانياً، والتي أغنت ثقافته الفكرية، وأسهمت في إبداعاته، وفي غزارة إنتاجه وبالتالي، خرج بنتاج أدبي متنوّع يندر تناوله، وهذا هو مفتاح نجاحه وشهرته.. أضف إلى ذلك مطالعاته الدائمة في بطون أمهات الكتب في سنّي دراسته الأولى، ومتابعته لما يُكتب، وحفظه للشعر العربي القديم، وما يملكه من حسّ أدبي منذ اليفاعة أضفى جميع ذلك على عطائه الإبداعي وأغناه.

لقد كتب العجيلي الكثير من النتاج في الأدب الساخر، ولا سيما في سنّي ممارسته الأولى للكتابة، كانت تُثيره، أو تدفعه إلى هذه الكتابة المفارقات، والمتناقضات التي تبدو لعينه أو لفكره فيما حوله، من أحوالٍ وأمورٍ وأناس.

في أوائل عهده بالإنتاج الأدبي، لم يُطلب منه آنذاك أن ينشر، لذلك لديه ركام من الكتابات الساخرة، لم يُنشر، لأنه في كثيرٍ من الأحيان يتعلّق بعلاقات إخوانية، تهمّ الآخرين، وقد يكون نشرها مسيئاً إذا لم يفهم القارئ الظروف التي كتبت وأبدعت فيها، ومع ذلك فإنّ فصول أبي البهاء، هي فصول ضاحكة، كتبها في عهدٍ متأخر، في زمنٍ متأخر، في الثمانينات، وليس فيها إساءة إلى أحد، ولكن أراد أن يُظهرَ فيها تناقضات المجتمع، ونسبت كثيراً من أحداث الفصول إلى شخصية ضاحكة، ساخرة، حقيقيةً هي أبو البهاء، الذي كان أحد معارفه.


الزميل عبد الكريم البليخ في واحد من لقاءاته المتعددة مع عبد السلام العجيلي

ومن أهم ذكرياتي عن العجيلي، فقد سبق لي يوماً السفر إلى دولة الامارات العربية المتحدة في عام 2005، وقبل السفر بفترة قصيرة قرّرت الذهاب إلى عيادة الأديب العجيلي رحمه الله، وكنت في حينها أعرفه معرفة شخصية، وطلبت منه التوسط لي لدى رئيس تحرير صحيفة الاتحاد الإماراتية في حينها علي أبو الريش، وهو صحافي إماراتي معروف، ولا يزال كاتباً وقائماً على تحرير الصحيفة، ويتناول في زاويته "مرافئ" قضايا وهموماً يومية، وهذا الكلام مضى عليه اليوم أكثر من عشرين عاماً، وما زال يعالج الكثير من القضايا في تلك الزاوية التي تنشر بصورة يومية حتى وقتنا الحالي.

حاولت أن أشرح للعجيلي العَلم الكبير في حينها، مدى حاجتي لورقة موسومة بخط يده الجميل، وصاية من أديب كبير، باسمه المعروف وتوسطه يعني الكثير بالنسبة إلي، ولا يمكن بحال أن يفقد بريقه ومكانته، بل يزيده ذلك توهجاً ونضجاً ومكانة، ولا بد من شكره على الرفعة التي يتمتع بها ويعرفها عنه الكثير من عشّاق أدبه وقارئوه. حاولت وأكدت له أن وقوفه إلى جانبي في هذا الظرف، سيساعدني في التمكن من العمل في الصحيفة التي كنت أحلم في الوصول إليها والعمل فيها، وكنت أنشر فيها بين فترة وأخرى بعض القصاصات الصحفية، إلا أنه قال لي يمكنك تعريفه بنفسك ولا داعي لوساطتي بالمطلق. فأنا لا أحبّذ التوسّط لأحد أياً يكن. حاول أنت أن تأخذ دورك وتتقرب إليه بنفسك وتقنعه بذلك.

خرجت من عيادة أديبنا المرحوم بخفّي حُنين، بالرغم من العلاقة التي تربطني بالطبيب العجيلي من خلال نشر بعض المواد الصحفية التي سبق أن قرّبت الكثير من وجهات النظر بيني وبينه، وكان هناك أكثر من حوار صحفي يتناول أدبه وشخصه، ومنها على المستوى الرياضي، ومن تلك الحوارات التي أجريتها معه أذكر حواراً خاصاً بصحيفة "الاتحاد" الاماراتية، و"الراية" القطرية، و"المجلة العربية" السعودية، و"الكويت" الكويتية، فضلاً عن مجلة "الصقر" الرياضية القطرية، والتي سبق لها أن أحدثت في حينها باباً خاصاً "عكس الاتجاه"، كان يحدثه الزميل الصحافي المخضرم فايز عبد الهادي، ويشرف عليه بصفته المحرر العام في المجلة، وكان من ألمع محرريها المعروفين، إلى جانب كوكبة الصقر المحررين المميزين.. ونشر في ذلك الوقت أي قبل وفاته بنحو عشر سنوات، قبل حجبها في المرة الثانية وتوقفها عن النشر بصورة نهائية، وكان حواراً متميّزاً، للأسف ليس لدي أي نسخة من ذلك الاصدار الذي أعتزّ به وأفتقده اليوم بالرغم من أهميته، والذي نشر فيه حواراً مطولاً مع الأديب العجيلي يتناول الواقع الرياضي في عالمنا العربي، ومدى انعكاس ذلك على الرغبة التي تفيد الناس في ممارسة الرياضة، ودورها في المجتمع، والهوايات الرياضية التي مارسها العجيلي في سن الشباب، والمكانة التي حققها اللاعب الجزائري الأصل زين الدين زيدان، الفرنسي الجنسية، كابتن الفريق، الذي كسب قلوب وعشاق الفرنسيين بفوز فرنسا ببطولة كأس العالم لكرة القدم في عام 1998، ناهيك عن أنه ثبّت مكانته في تلك البلاد الأوربية، وبفضل تلك النتائج التي حققها لفرنسا فقد برز نجمه في ميدان التدريب الذي برز وتميز فيه.

وعن ارتباطه في بالمدينة التي ولد وعاش فيها يقول العجيلي:

(إذا لم يكن ارتباطي بـالرقة عاطفياً فهو على الأقل ارتباط واجب.

هي بلدة عشت فيها. أهلي فيها وأصحابي وأصدقائي، وهي التي زودتني بما بنيت عليه حياتي المستقبلية من علم ومقام اجتماعي وإمكانيات مادية. من العقوق أن أتركها لمجرد أن هناك بلداً أحسن منها).

فالعجيلي أديبٌ متعدد المواهب، وقد كان هناك أدباءَ كبار في أسمائهم، وفي منزلتهم، ولم يرتبط بصداقات معهم، بل أنه ارتبط، مع أصدقاء من أصناف مختلفة مشاربهم، من متسكّعين، ومتشرّدين، وفقرّاء، وشذّاذ، لأن صفاتهم النفسية كانت قريبة إلى قلبه.

عشق العجيلي صنوف الكتابة والأدب، ناهيك عن الكتابة في مجال التاريخ والفلكلور وعن الرّقة وتاريخها، وزاده هوس بناء مدينته، وعشقه هواءَها، وظلّ ينقل خطواته الواسعة بين مدينة الرّصافة والرّها، ومدينة تدمّر، ولم يهجرها في تناوله لها.

أبا بشر تعلّمنا منه الكلمة الطيبة، والأخلاق العالية، والحكمة المؤداة، والقول الفصل، والحب الصادق، وروح الكاتب الهاوي التي لم تعرف يوماً روح المحترف.

فقد أخذ أديبنا الراحل من الدنيا الكثير... كتب وزار وحضر العديد من الندوات، كما كان عضواً في مجلس النواب ووزيراً، ولأكثر من مّرة، فضلاً عن عشقه وحبّه للأدب، وكتب في الكثير من المجلات الأدبية والثقافية، كـ "الدوحة" القطرية، و"الديار" البيروتية... وغيرها.

ويعتبرُ العجيلي كلّ ما يمارسه في الحياة، هو هواية، حتى عمله الطبّي، كان يُمارسه بروح الهاوي ليس بروح المحترف! . والأدب كذلك هواية، بالنسبة له، ويصرّ دوماً على أنّه هواية أكثر من غيره.

* بمناسبة الذكرى الثامنة عشرة لرحيل الأديب العجيلي