يخاطب الأب ابنه.. حينما غادر الوطن في ليلة شتائية باردة:
عرفت يا بني أن الوطن كم هو أليف، وأحسست كم هو قريب. ينام معك ويشرب الشاي معك. ولكنه حين يُصبح جريحاً لا تعرفُ كم هو موجوع، ولا تستطيع أن توقف ذلك النزف الذي في أعماقك. تقف تائهاً وحائراً عن إيجاد أي طقس يوصلك إلى تلك البلاد التي قاطعتها الأفراح.. وكادت أن توقف نبضها تلك الطغمة الباغية التي جاءت لتسيطر على الأرض والغرس؟.
إنَّ الأحبّاء كلهم، أولئك الذين تعرفهم ولا تعرفهم، بأي شكل تأتيهم بمواسم الفرح؟ تفرد جناحيك بأبعد امتدادهما فتعجز، ونبضك ما يزال حيّاً وأوجاعك لم تزل بعد ليّنة.
استهلكناك كثيراً، وأصبحنا نمتصّ دَمَك في كلّ لحظة، فمتى نتوقف عن معاملتك كصبية مراهقة تصحو على كلمات الغزل الرخيص، وتنام وتحت وسادتها أحلام ساذجة؟
لقد كبرت أيها الوطن وازددت نضجاً، ولم تعد بحاجة إلى الهتافات، ولم تعد تنطلي عليك حكاياتنا المكرّرة، وأمسياتنا الشعرية التي نتخيل فيها أنفسنا نرفعك بين أيدينا بينما نحن نمتطيك للحصول على ارضاء ذواتنا.
كم أنت طيّب وصبور أيها الوطن.. تتحمل كل هفواتنا وزلاتنا. نتناسى دائماً أنّكَ أمّ وحبيبة.. نغضب منك بقصائدنا العنيدة، ومرثياتنا التي نسطرها باسمك. يقطعون أوصالك ونجلس عند قدميك أو رأسك نتباكى وننوح كالأرامل. نستذكر خصالك الرائعة وطفولتك اليافعة التي افتقدناها في بلاد قصية نعيش فيها ما تبقى من أيام.
وحين يجن الليل نسقط برؤوسنا ونحلم.. تمتد أجنحتك فينا ونغادر مع الحلم. نراك نجمة، ونراك قصيدة تفرح كطفل صغير ما زال في المهد يعيش أشهره الأولى، وينظر إلى ما حوله دون أن يعرف ما هيتهم، وإلى أي أناس ينتمون.
هذه الكلمات التي تنشد الوطن دفعتني منذ أيام للتواصل مع بعض الأصدقاء من أيام الزمن الجميل حيث يقيمون عبر الهاتف المحمول.
وعدنا نستذكر واقع الحياة وما آلت إليه اليوم بعد مرور فترة زمنية ليست بالقصيرة على مغادرة هؤلاء الأصدقاء مدينتهم والتزام كل واحد منهم في متابعة دراسته، ومنهم من دفعت به ظروفه إلى الهجرة والعمل بعيداً عن أهله بصورة نهائية.
إنَّ العودة إلى تلك الأيام، وما حملته من ذكريات تعيدنا لتذكّر أيام الزمن الجميل الذي لا يمكن بحال نسيانه أو العودة به إلى سابق عهده، لأن إعادة الصور الجميلة التي أصبحت من الماضي ضرب من المستحيل، ولكن لا بد من الوقوف عندها. تلك الأيام التي ظلت تؤنس غربتنا، فكانت في مجملها ولا أفضل، وها هي تقفز أمامنا هنا وهناك.. ونقف بدهشة نتذكرها بحلوها ومرها، وما انتهت إليه.
ما لفتني أنّ الأغلبية من الأصدقاء أصبح كل واحد منهم يعيش في معزل عن الآخر. في مدن وبلدان، وهذه المدن التي احتضنتهم بالتأكيد متباعدة أميالاً.
وكان من بين هؤلاء الأصدقاء رضوان الذي يدرس في كلية العلوم الطبيعية في جامعة ولاية كولورادو الأميركية، في مدينة دنفر التي يعيش فيها منذ سنوات بعيدة، وقد وصل منذ أسابيع إلى نهاية تعليمه بعد أن أنهى دراسته بتفوق ملحوظ. أما الصديق الثاني عيسى فهو يعيش في مدينة طوكيو اليابانية، ويدرس علوم الكومبيوتر في جامعتها، ولا زال على مقاعد الدراسة، ويطمح، كما عهدناه، في الحصول على درجة الدكتوراه في هندسة البرمجيات.
أما صديقنا الثالث عبدالله فقد فضّل السفر إلى كندا ودراسة الفنون الجميلة في جامعة مينو نايت الكندية، وحقق نجاحاً باهراً في دراسته، وبعد أن أنهاها بتفوق، وحصل على الجنسية هناك فضل العمل في إحدى الجامعات في الخليج، واستقر هناك بعد أن تزوج ورضي بالمقسوم.
إقرأ أيضاً: عن تصحيح ورقة الامتحان
وأخيراً جاسم، وهو صديقنا الرابع، فقد دفعت به ظروفه الحياتية إلى المكوث في الرّقة، المدينة المنكوبة التي غزاها تنظيم الدولة الاسلامية “داعش”، وكان لوجوده أكبر الأثر في دفع السكان إلى الهرب منها، ومن لم تسعفه ظروفه المادية، في اللحاق بركب أصدقائه في طلب العلم، ظل يعيش فيها بخوف ورعب حقيقيين برغم الوضع المأساوي الذي عانى منه جميع الأهالي، ولم يخلص أبناؤها من أحكامه الجائرة، واشتراطاته المذلة، وسيوفه الباترة التي قضت على الكثير من شبابها، وبعد ذلك غزتها الولايات المتحدة الأميركية بالتعاون مع حلفائها، بذريعة اخراج التنظيم الارهابي “داعش”، من المدينة حيث، حيث أجهزوا على جزء كبير منها و تحولت إلى أكوام من الحجارة، وقتل أهلها وتشريدهم!
هؤلاء الأصدقاء، كل يعاني سواء من حطت به ظروفه الاقامة في الولايات المتحدة ودراسة العلوم الطبيعية، ومعرفة ما وصل إليه العلم الحديث، أو ذلك الذي وصل إلى اليابان وعاش فيها سنوات من عمره لتلبية رغبته، والعودة إلى بلده حاملاً إجازة في علوم الكومبيوتر واختصاصاً في هندسة البرمجيات، وذاك الذي درس الفنون الجميلة في إحدى الجامعات الكندية، وفضل الإقامة بصورة دائمة في دول الخليج.
إقرأ أيضاً: فيصل القاسم... بابلو إسكوبار الإعلام العربي!
أما صديقهم الرابع جاسم الذي لم تسمح ظروفه بمغادرة مدينته المنكوبة الرّقة، ظل يعيش فيها، ويعاني العوز والفاقة، ولم يستطع إكمال رغبته في العلم، بسبب محاربة “داعش” لكل طالب علم، أو حتى في السفر، حلمه الأزلي، مثل الكثير من الأصدقاء والمعارف والعيش في بلاد النعيم، والاستقرار فيها بحثاً عن الأمان الذي فقده، وافتقده الكثيرون غيره من أهالي المدينة التي لا تزال تعيش المعاناة بكل صورها.
وفي العودة للوطن فهذا يعني أنه ما يزال في نظرنا جميلاً كالبحر.. وعذباً كالحزن، فمتى نكفّ يا أصدقائي عن معانقة الآمال، والبحث في أوراق ذاكرتنا عن ابتسامتك الساحرة. فلنغزل من خيوط أحلامنا أزهاراً؟
التعليقات