أياما قليلة بعد رحيل الملك الحسن الثاني، وجد خليفته الملك محمد السادس نفسه أمام أول ملف رياضي بعد جلوسه على العرش. ففي حمأة الحزن الذي ألّم بالمغاربة إثر رحيل ملك قاد البلاد قرابة أربعة عقود، كان أجل التقدم بالترشيح لتنظيم كأس العالم 2006 يدق أبواب الحكومة المغربية بقوة، فكان القرار من أعلى سلطة بالبلاد بالتقدم بالترشيح المغربي أياما قليلة قبل انتهاء الأجل المحدد من الفيفا. وحينها كان الملك محمد السادس يعلن ضمنيا استمراره على نهج والده الذي سبق أن أعلن 12 سنة قبل ذلك تقدم المغرب بترشيحه الأول لاحتضان كأس العالم بمناسبة دورة 1994، ومن بعدها دورة 1998.

كان الأمر يتعلق برهان ملكي وطموح شعبي متأت من الشغف بالرياضة الشعبية الأولى في العالم، ومحملا بإشارة واضحة على عدم قطع الصلة مع رؤية الملك الحسن الثاني للقطاع الرياضي وكرة القدم على الخصوص، فقد ظل الراحل مؤمنا بدور الرياضة في إشاعة إسم المغرب دوليا، فهو الذي قال في خطاب له سنة 1997 "إن العالم عرف المغرب بعويطة ( سعيد) والمتوكل ( نوال) أكثر مما عرفه بملكه"، وقبل ذلك كان حريصا على إحاطة ممثلي المغرب في المنافسات الدولية بالرعاية اللازمة.

خسر المغرب رهان استضافة دورة 2006، ليعلن مجددا دخوله سباق استضافة دورة 2010، وهي المرة الأولى التي شعر خلالها المغاربة بأنهم الأقرب للظفر بشرف الاستضافة كأول بلد عربي وإفريقي، لكن تداخل عدة معطيات، من بينها على الخصوص ملف الرشاوى الذي كشف عنه لاحقا تحقيق للصحيفة البريطانية "دايلي تليغرافّ"، وضع المغرب أمام خسارة جديدة يوم 15 مايو 2004، لكن النقطة القوية التي تم تسجيلها آنذاك هي إعلان الملك محمد السادس، على لسان الوزير الأول ادريس جطو، عن مسلسل بناء ملاعب كبرى "كما لو أن المغرب هو مستضيف دورة 2010".

في يونيو 2018 سيخسر المغرب مجددا فرصة استضافة دورة 2026 التي شهدت تسييسا واضحا لها من طرف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وبعدها بساعات قليلة، صدر بيان من الديوان الملكي يعلن تقدم المغرب مجددا لاستضافة كأس العالم لسنة 2030، في إشارة بليغة على أن تنظيم كأس العالم هو رهان شعب بأكمله وليس قرارا عابرا.

خمس سنوات تقريبا بعد ذلك، حملت رسالة ملكية شهر مارس 2023 من قلب رواندا إعلانا عن تقدم المغرب رفقة اسبانيا والبرتغال بترشيح ثلاثي لاستضافة دورة 2030. وجاء ذلك مثقلا بعدة إشارات، أولاها أن المغرب كان له شرف الإعلان عن ذلك، ولم يكن ذلك عبر إعلان ثلاثي مشترك، ثانيها أن ذلك جاء في رسالة ملكية تليت أمام 54 ممثلا للاتحادات الإفريقية بحضور رئيس الكاف موتسيبي ورئيس الفيفا إيفانتينو، وثالثها أن المغرب عكس بواقعية وبشكل عملي إيمانه بالعمق الإفريقي عندما اختار أن تكون العاصمة كيغالي مكانا للإعلان عن ترشيح المغرب لاستضافة المونديال.


الملك محمد السادس لدى استقباله اعضاء المنتخب المغربي في كأس العالم وامهاتهم بعد عودتهم من مونديال قطر

ومجددا كان الملك محمد السادس أشهرا قليلة بعد ذلك، عبر بيان للديوان الملكي، سباقا إلى إخبار الشعب المغربي بقرار إسناد الفيفا تنظيم دورة 2030 للملف الثلاثي، ما يعني أن المغرب انتظر أزيد من 35 سنة و10 دورات عالمية لتحقيق حلمه. ويظل الجانب المثير في هذا الحدث ارتباطه بتنمية شاملة يراهن عليها المغرب تتجاوز البعد الرياضي، ذلك أن الأمر يتعلق بدفتر تحملات يتعدى بناء الملاعب إلى بنية تحتية شاملة لا خيار للدولة المغربية في إنجازها وفق معايير دولية، وبالتالي سيكون المغرب مدفوعا إلى إنجاز مشاريع بنيوية ضخمة في ظرف ست سنوات عوض 20 سنة، أي أن المغرب سيربح 14 سنة من التنمية عبر استضافة حدث كروي عالمي ستكون له انعكاسات بعدية.

من جهة ثانية، تظل المناظرة الوطنية للرياضة شهر أكتوبر سنة 2008 واحدة من المحطات الأساسية في مسلسل النهوض بالرياضة الوطنية، فهذه المناظرة، التي تعد الثانية في تاريخ المغرب بعد تلك التي نظمها المغرب شهر مارس 1965، جاءت محملة برسالة ملكية خرجت عن المألوف، ووجهت تقريعا للمسؤولين عن التراخي في إصلاح المنظومة الرياضية، قبل أن تقدم خمسة محاور أساسية شكلت خارطة طريق للسنوات المقبلة. هذه المناظرة تم تنزيلها من طرف الجهاز الحكومي ضمن استراتيجية 2008-2020، وجاء ذلك مصحوبا بدعم ملكي مباشر إلى اللجنة الأولمبية لإعداد الرياضيين ذوي المستوى العالي للاستحقاقات الأولمبية بقيمة 33 مليون دولار، ولجامعة كرة القدم بقيمة 23 مليون دولار من أجل الاستعداد للمنافسات الدولية.

وتميزت الخمسة عشرة سنة الأخيرة بنشاط تشريعي غير مسبوق في المجال الرياضي همّ على الخصوص تعديل قانون التربية البدنية لأول مرة منذ 20 سنة، ما عبّد الطريق أمام إطلاق مشروع الاحتراف في جامعة كرة القدم على الخصوص، إلى جانب إصدار قانون مكافحة العنف في الملاعب وقانون مكافحة المنشطات في المجال الرياضي ردا على بعض السلوكات اللارياضية التي مست بصورة الرياضة المغربية بالداخل والخارج.

ولم تكن الرياضة لتغيب عن لجنة إعداد دستور اول يوليو 2011 في سياق سياسي حساس، فقد تمت دسترة الحق في الرياضة ضمن الوثيقة الدستورية في ثلاث مواد ضمن باب الحقوق والحريات، ما جعل المغرب متفردا عربيا وإفريقيا، ذلك أن تنصيص الدستور المغربي على كون الرياضة حق من حقوق المواطن وضع الدولة أمام التزاماتها الحقيقية اتجاه مجال يشكل هوسا حقيقيا بالنسبة لمختلف الفئات العمرية، إلى جانب اعترافها بقطاع قائم الذات هو مصدر دخل العديد من العائلات المغربية ومحط شغف الشباب المغربي ممارسة ومتابعة.

ولم يكن إنجاز كأس العالم 2022 بقطر إلا واسطة عقد 25 سنة من الرياضة في عهد الملك محمد السادس، إذ اتضح أن أي نجاح هو رهين رؤية دقيقة وتصور واضح. فإلى جانب مساهمة المغرب في نجاح دورة قطر كرويا وجماهيريا، مثلت كرة القدم بالمغرب نموذجا فريدا انطلق سنة 2011 بتنزيل مشروع الاحتراف الذي كان ضمن التوصيات التي تضمنتها الرسالة الملكية لسنة 2008، قبل أن تتوالى مجموعة من الإنجازات تراوحت ما بين تدعيم البنية التحتية للأندية وتنزيل دفاتر تحملاتها ودعم مادي سنوي وتثمين دور أكاديمية محمد السادس، وبين تسجيل حضور قوي دوليا من خلال منتخبات سجلت حضورها المتوالي في المنافسات القارية والعالمية على مستوى مختلف الأنواع الرياضية والفئات العمرية، ثم من خلال استضافة أحداث كروية عالمية بالمغرب من قبيل كأس العالم للأندية ثلاث مرات في ظرف عشر سنوات، إلى جانب كؤوس إفريقية للذكور والإناث.

لقد توّجه المغرب بمسار استثنائي بكأس العالم بقطر تجاوز كل التوقعات، بل كان قريبا من بلوغ النهائي لولا بعض الاستعصاءات التقنية والأخطاء التحكيمية. وشكل هذا الحدث الكبير فرصة لتأكيد العلاقة المتينة بين المؤسسة الملكية وإنجازات الشباب المغربي، إذ استضاف الملك محمد السادس وفد المنتخب المغربي بالقصر الملكي بالرباط بعد العودة من كاس العالم نهاية شهر ديسمبر 2022، وهذه المرة كان الحدث بأبعاد وطنية عميقة، فهي لحظة اعتراف بمجهودات شباب مغربي رفع إسم المغرب ليصبح مثار حديث مختلف وسائل الإعلام في العالم، وأيضا لحظة تثبيت لمشاهد الوحدة الوطنية دفعت الملك محمد إلى مشاركة شعبه هذا الحدث في شوارع الرباط على نحو يؤكد أن الرياضة هي واحدة من الوسائل التي تحيي حب الوطن وتجدد الترابط بين الملك وشعبه.

* منصف اليازغي: الباحث المغربي المتخصص في السياسة الرياضية