فضح وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي خلال زيارته لبيروت نوايا وتوجهات بلاده الطائفية البغيضة حين قال بوضوح إنه جاء إلى بيروت ليؤكد شخصياً أنَّ بلاده "كانت ولا تزال داعمة للبنان، وكانت ولا تزال داعمة للبنانيين الشيعة، وكانت ولا تزال داعمة لحزب الله، وكان من الضروري أن أقول هذا شخصياً"، وقد وقع في تصريحه هذا في أخطاء عدة أولها أنه يتنافى مع أبجديات الدبلوماسية في مثل هذه الظروف، حيث يفترض أن يقدم الدعم للشعب اللبناني بأكمله، سنة وشيعة ومسيحيين وغيرهم، ولو من باب التقية السياسية التي يتمسك بها النظام الايراني في جميع مواقفه وسياساته، ولكن عراقجي آثر في بيروت إظهار الوجه الطائفي البغيض والحقيقي للنظام الإيراني، وأن يعلن على الملأ دعمه لشيعة لبنان فقط، في حين أن مرشده الأعلى لا يكف عن الحديث عن وحدة المسلمين وضرورة الحشد السني ـ الشيعي وراء ما يزعم أنه "محور المقاومة".

رسالة عراقجي يجب أن ينتبه إليه القطيع من مناضلي السوشيال ميديا العرب الذين باتوا يرون في إيران خير نصير للشعوب العربية، واهمين أنها تتبنى الدفاع عن الحقوق والقضايا العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، وعلى هؤلاء أن يفهموا جيداً مغزى هذا الخطاب الطائفي الكريه الإيراني وأن نظام الملالي ينظر إلى شيعة لبنان بنظرة مغايرة لبقية أبناء الشعب اللبناني وهذا حقيقي وهكذا الأمر مع جميع الشعوب العربية، فالطائفية متجذرة في سلوك وفلسفة عمل هذا النظام الإيراني لأنها أيدلوجية أساسية في معتقده.

الرسالة التي بعث بها عراقجي في تصريحه من دون قصد هي أيضاً للفصائل الفلسطينية الموالية للنظام الإيراني والتي تأتمر بأمره لعلها تفيق من أوهامها وهو أمر مستبعد، وتدرك تجذر الطائفية في سياسات هذا النظام وانها اخطأت خطأ فادح بحق الشعب والقضية الفلسطينية حين تنازلت عن حاضنتها العربية وارتمت بأحضان النظام الإيراني الذي لم يفعل من أجلها شيئاً سوى الكلام والشعارات والتصريحات.

عراقجي خلال هذه الزيارة أوضح بشكل لا إرادي عن إعطاء دولة إسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها ومواصلة حربها المشروعة في جنوب لبنان وإصرارها على التخلص من البنية التحتية القتالية الإرهابية لحزب الله من خلال الإعلان عما وصفه بشروط إيران لقبول وقف إطلاق النار مع دولة إسرائيل، مشيراً إلى ارتباط جبهتي لبنان وغزة ضمن ما يعرف بوحدة الساحات، وبذلك نصبت إيران نفسها وبقوة الإحتلال لميلشيا إرهابية حاكماً بأمره في بلد عربي كامل وقطاع غزة!

لا شك في أنه ليس من حق إيران وضع شروط وقف الحرب لا في لبنان ولا في غزة، ويجب أن يكون هناك موقف عربي جماعي موحد تجاه هذه التدخلات الفجة التي تسببت فيما آلت إليه الأوضاع في المنطقة خلال العام الماضي، حيث بات واضحاً أن إيران تريد تصفية حساباتها عبر دماء الشعوب العربية، وتتخذ من لبنان وغزة والعراق واليمن مواقع أمامية لخوض صراع ضد دولة إسرائيل، ورغم معرفة الجميع بذلك إلا أنه من المؤسف أن يطلق عراقجي هذه التصريحات في وجوده في بيروت أولاً وبحضور رئيس وزراء حكومة تسيير الأعمال نجيب ميقاتي، الذي آثر الصمت ولم يعلق على كلامه تصريحاً أو تلميحاً، وربما لا يزال يأمل في أن يكون الموقف الإيراني داعماً لجهود وقف إطلاق النار في الجنوب اللبناني.

عراقجي ذهب إلى بيروت ليس في محاولة لحقن الدماء ووقف الحرب، ولكن لتأكيد الموقف التفاوضي الإيراني والتشديد على أن بلاده هي صاحبة الكلمة العليا واللاعب الوحيد والأساسي في المعادلة اللبنانية وأنه لا حل في جنوب لبنان أو في غزة سوى من خلال بوابة إيران فقط، وهذه جميعها أوراق تفاوضية تتمسك بها إيران في إطار تأكيدها على دورها ونفوذها الاقليمي بحكم سيطرتها ومليشياتها الإرهابية على هذه الدول والمناطق وبغض النظر عن عشرات الآلاف من الضحايا الفلسطينيين في غزة والدمار الهائل الذي يتعرض له لبنان وشعبه والذي تتحمل إيران ومليشياتها المسؤولية المباشرة فيها.

شخصياً لا اميل إلى الأفكار التي يروجها البعض حول صفقة بيع دماء نصر الله مقابل "النووي" الإيراني أو التقارب مع الولايات المتحدة، فلا ولة إسرائيل تقبل بشروط هذه الصفقة غير المتكافئة ولا الإدارة الأمريكية الحالية قادرة على الحديث عن أي صفقة تقارب مع طهران في ظل الظروف الراهنة، ولا إيران نفسها باتت تمتلك أريحية عقد صفقات لمصلحتها في الوقت الراهن بعد أن حُشرت في زاوية استراتيجية ضيقة، ولم يعد أمامها سوى صد الضربات والدفاع عن نفسها والخروج بأقل قدر من الخسائر في هذا الحصار الاسرائيلي الذي كشف محدودية القدرات الايرانية وهشاشة البيئة الأمنية الإيرانية التي تعرضت لاختراقات فاضحة ومتتالية في غضون أسابيع قلائل.

عراقجي ردد في بيروت أيضاً نفس الحديث البائس حول فشل دولة إسرائيل في القضاء على ما سماه "المقاومة" وقدرة لبنان على التصدي للهجمات الإسرائيلية مع أن الجميع يتابع حجم الدمار والخراب الذي تتعرض له المدن والقرى اللبنانية منذ بدء الحرب، وهذا الأمر يندرج ضمن لعبة الخداع وخلط الأوراق التي تمارسها إيران وأذرعها الإرهابية في المنطقة، حيث لا معايير للنصر والهزيمة سوى بقاء هذه التنظيمات الإرهابية على قيد الحياة، وهو معيار سقط أيضاً في الحرب الدائرة حالياً حيث اغتيل قادة التنظيمات والأذرع الإرهابية وسقط عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء ضحايا للحرب، مع أن إيران نفسها تتمسك بعقيدة الصبر الاستراتيجي وتبقى على أقصى درجات الحذر من أن تتورط في حرب يباد فيها وأسلحتها وهي لا تبالي حين يتعلق الأمر بدماء مدنيين عرب سواء في غزة أو لبنان كون التضحية بهم ضرورة للنصر!

عراقجي الذي ذهب لبيروت للمصادرة على موقف نبيه بري ووليد جنبلاط ونجيب ميقاتي بشأن الدعوة لوقف فوري لإطلاق النار في الجنوب والسعي لتطبيق القرار الدولي رقم 1701، قد كشف للجميع هذه المرة عن عزم إيران تقديم لبنان قرباناً لطموحاتها الاستراتيجية والتضحية بأبنائه من أجل الابقاء على المشروع التوسعي الايراني، لذا فإن من غير المنطقي ابقاء مصير لبنان وشعبه بيد نظام الملالي في طهران.