مما شاع على ألسن المصريين من الحكمة أن: "اللى بيقول ما بيعملش"، وتلك الحكمة على وَجَازتها وعاميتها وشعبيتها لتنبئ عن نفاذ بصيرة القوم بنفس الإنسان وطبائعه، فإن الغضب كالوقود؛ إن جعلته فى محرك سيارة سار بك حتى يبلغك وجهك الذى تريد، وإن أنت استفرغته من سيارتك وأَرَقْتَهُ فى عرض الطريق وأشعلته لم تصب منه نفعًا، ولم تبلغ وجهك الذى تريد، ولم تزايل مواطئ قدميك، وهكذا شأن المرء إذا ما غضب فأراق غضبه بالكلام الكثير والوعيد الشديد فإنه حينئذ يذهب عنه كثير من غيظه، ويسكت عنه كثير من غضبه، ويصير آمن على عدوه وأسلم له مما كان عليه قبل أن يصيح ويتكلم، وقد فقه أهل السياسة من الخواجات ذلك، فأقروا بحق التظاهر للغاضبين والشاكين والكارهين والرافضين وللناس كافة، وزعموا لهم أن مطالبهم مُجابة إن هم هتفوا فى الطرقات، وسنَّوا لذلك القوانين وشرعوا له الشرائع التى تجعل غضبة الجموع وإن تعاظمت كالوقود المُراق على الأرض، تخفف عن الناس من همهم، وتنفس عنهم من كربهم فتسكن ثائرة قلوبهم، وتفتر عزائمهم عن العمل! وكان هذا من فطنة الخواجات وحُسن السياسة عندهم، فقد علموا أن غضبة الجموع غير مأمونة العواقب، وإن هم تُرِكوا لأنفسهم انقلبت الغضبة شغبًا، وانقلب الشغب فوضى تبطش بأركان الدولة وسلطان حاكمها، فمن أجل ذلك أَذِنَ لهم الخواجة بالتوسع فى الهتاف والصخب، وأباح لهم التبسط فى السب واللعن من غير مؤاخذة لهم بشىء من ذلك، لكنه قيدهم وغَلَّ أيديهم بالقوانين عن التمادى إلى ما وراء الهتاف! فأنت لك عند الدولة حق التظاهر، وللدولة عليك قبلها أن تبلغ بها، وبمكانها، وبميقاتها، وبعدد من يجتمع فيها، وبشعارهم فيها، فإذا ما أخذت الدولة ذلك من المتظاهرين فقد ملكت أمرهم كله وأخذت للأمر أهبته، أما المتظاهرون فإنه إذا ما وقع الأخذ والرد، والتحاور والتفاوض مع الحكومة فقد ذهبت عنهم نصف غضبتهم، فإذا ما هتفوا وحرقوا الدُّمَى فقد ذهب النصف الآخر من غضبهم، فيمر لهيب الغضب بردًا وسلامًا من فوق الرؤوس! فحالهم كحال من أراد بلوغ أسوان فأراق وقود سيارته فى أحد ميادين القاهرة وهو يحسب أن ذلك سيبلغه أسوان دون تحمل وعثاء السفر ومشقة الطريق، فانظر كيف حالَ هذا الوهم بينهم وبين العمل! وانظر إليهم بعد انقضاء التظاهرة وقد سكنت نفوسهم، وخمدت جذوتهم وانصرفوا وهم يظنون أنهم قد قضوا الحق الذى عليهم، وأخذوا بعض الحق الذى لهم، ثم فلا يلبثون إلا رويدًا حتى يركنوا إلى الدَّعَة والطمأنينة والرضا بالأمر الواقع! فهذه هى "لعبة التظاهر" فى جَلِيَّة أمرها! لك أن تغضب وتهتف برفض الأمر، ولنا أن ننفذ ما عزمنا عليه!
وإن هذه غزة، قد رأى أهل المشارق والمغارب العدوان على أهلها فلم يجدوه يشبه حربًا عرفوها، ولا وجدوا لمقتلة أهلها مقتلة تضاهيها، فلما هالهم فظاعة الجرم واستمرار المجرم عليه من غير أن يرده عنه أحد غضبوا لغزة، وأرادوا الدفع عنها، وكفَّ العدو عن بطشه بأهلها فلم يجدوا إلى ذلك سبيلًا إلا سبيل التظاهر فى الساحات والميادين وأفنية الجامعات وأرصفة الموانئ، وطيَّرت الصحافة وقفاتهم، وأخبارهم، وهتافهم، كل ذلك وحكوماتهم تأذن لهم فيه، وتُؤَمِّنهم، وتنصت لهتافهم بالنهار، ثم بالليل يقوم قائم الحكومة فى هذه البلاد فيعلن التأييد للإسرائيليين، ويبعثون لهم شحنات السلاح والذخائر لتفتك بالناس فى غزة ولبنان! فهل أغنت التظاهرات عن غزة من شىء إلا حاجة فى نفس المتظاهر قضاها؟!
وهذا نتنياهو كم خرج عليه أهل الأسرى لإبرام اتفاق يعيد أسرى اليهود من غزة، فمازال يسمع صياح عشرات الألوف، بل مئات الألوف يخرجون هاتفين صائحين المرة بعد المرة ويتغافل عنهم، بل يقتل لهم إخوانهم من الأسرى! فهل أغنت المظاهرات عن آل الأسرى من شىء إلا حاجة فى نفس أهلهم قضوها؟!
ومن قبلهم كانت امرأة أمريكية تُدعى على ما أذكر "ساندى شاهان" تُسَيِّر تظاهرات بمئات الألوف فى أمريكا رفضًا لحرب العراق حيث قتل ابنها هناك، وكانت مظاهراتها هذه ملء الأسماع والأبصار والشاشات، فهل استجاب بوش لندائها؟ كلا، لقد مضى بجنده فى الحرب أشد بطشًا، فلا هو أسقطته مظاهرات "ساندى شاهان"، ولا هى أخرجت جيشه من العراق! فهل أغنت تظاهرات "ساندى شاهان" من شىء إلا حاجة فى نفس الأم الثكلى قضتها؟!
إقرأ أيضاً: فُرس وفارس ومفروس
أم هل تصدق أن تظاهرات خلعت حاكمًا عربيًّا فى 2011؟! إن من خُلِع ومن صُرِع ومن عُزل من هؤلاء لم تخلعه ولم تصرعه ولم تعزله حناجر الهاتفين، ولا صياح الصائحين، ولا هو فارق عرشه استحياءً من لافتات "خبز وما وبن على لا"، بل كانت التظاهرات بَوَادِئ وكان السعى لآخرين فى الغرف المغلقة ممن لا تبصر شخوصهم ولا تسمع أصواتهم، ولا يعلم أهل النوايا الحسنة والحناجر الجهورية بمَ ائتمروا، ولا بمَ تناجوا، ولا علامَ تواطؤا! فكان الخلع والعزل بأيديهم وبأيدى آخرين وراءهم قاموا فى الميادين والساحات يغيرون بسلاحهم الصامت أو الناطق ما ظننت أنك ستغيره بهتافك! أما صيحتك فلم تكن لتعدو أذنيك لولا أنها وافقت هوى عند هؤلاء وهؤلاء فأمضوا الأمور وأنفذوها بما يوافق أهواءهم والحاجة التى فى نفوسهم هم، لا لما صحت به أنت من مطالب! فهل أغنت عنهم هتافاتهم من شىء إلا حاجة فى نفس الصائح قضاها؟!
إقرأ أيضاً: أكرانيا اللاتينية
إن التظاهرة تصلح ويستجاب لمطلب أهلها فى صغار الأمور، كأن تعزل شريف القرية، أو مدير مدرسة، أو مندوب وزارة، أما فيما هو أكبر من ذلك فليست تصلح التظاهرة إلا أن تكون بادئة تحفز وتعين أهل العمل للعمل إن كانت بقَدَر، أما أن تستبدل هى بالعمل فتكون هى العمل فليس وراءها إلا الإخفاق والخسران، فإنها إن زادت استرخت الهمم، وانحلت العزائم، واحتال عليها المحتالون.
التعليقات