لقد أصبح الكذب والنفاق اليوم أدوات أساسية في لعبة النجاح الاجتماعي والسياسي، وليس مجرد انحراف أخلاقي عابر. ما يثير الحزن والاستغراب أن الكاذب أصبح يُحتفى به، والنزيه يُهمّش أو يُقصى. كيف وصلنا إلى هذا الانقلاب الأخلاقي؟ وكيف صارت القيم التي طالما افتخرنا بها عبئاً على أصحابها؟
في زماننا هذا، بات الكذب فناً محترفاً يُتقنه أصحاب المصالح والأطماع. أصبح المنافق بارعاً في تسويق نفسه عبر كلمات براقة وشعارات زائفة، مدركاً أن الجمهور سيُعجب بالصورة التي يرسمها، وليس بالحقيقة التي يخفيها.
الكاذب يعرفُ كيف يُجيد التلاعب بعواطف الناس، يُقدّم لهم ما يرغبون بسماعه، حتى لو كان كذباً صريحاً. الأدهى أن المجتمع نفسه بات يشجّعه، يصفّق له، ويمنحه ما يريد: الشهرة، المال، وحتى الاحترام. إنه يُجلس على العروش، تفتتح له الأبواب، ويُرفع إلى مكانة لا يستحقها.
أما الصادق، فهو أشبه بالغريب الذي لا يجد لنفسه مكاناً في هذه المعادلة المشوّهة. يُنظر إليه على أنه حالم أو ضعيف؛ شخص يرفض الانخراط في اللعبة القذرة، وبالتالي لا يُؤخذ على محمل الجد. وفي كثير من الأحيان، يُستبعد تماماً من أي محفل أو قرار لأنه ببساطة يرفض التزييف.
لماذا نُكرّم الكذب؟
المفارقة المؤلمة تكمن في أن الكذب لم يَعد مُجرّد وسيلة للنجاة في مواقف ضاغطة، بل أصبح أداة للهيمنة، وميزة يُفتخر بها. يُفضّل المجتمع الكذاب على الصادق لأنه غالباً ما يُوهمهم بما يريدون سماعه، ويُخفف من وطأة الحقائق القاسية.
لكن الحقيقة لا تختفي إلى الأبد. الكاذب قد ينجح مؤقتاً، لكن نجاحه مثل بناءٍ هشّ على أرض رخوة، سينهار عند أول مواجهة مع الواقع. الزيف لا يمكن أن يبني مجتمعاً مستقراً، تماماً كما لا يمكن للرياح أن تُقيم منزلاً متيناً.
لم تعد ظاهرة الكذب مقتصرة على المناصب والسياسة، بل تسلّلت إلى العلاقات اليومية. النفاق أصبح جزءاً من التفاعل الاجتماعي: تصنّع المجاملة، إخفاء المشاعر الحقيقية، وارتداء أقنعة زائفة لترضية الآخرين.
أصبحت المجتمعات تُقدّر المظاهر أكثر من الجوهر، ويُفضل فيها الشخص الذي يتصنّع الودّ على ذاك الذي يجرؤ على مواجهة الآخرين بالحقيقة. في النهاية، ينقلب مفهوم النجاح ليُصبح مسرحاً للزيف، حيث يفوز الممثل الأكثر مهارة في خداع الجمهور.
انتشار الكذب والنفاق ليس مجرد انحراف فردي، بل هو مرض اجتماعي يُصيب نسيج المجتمع بأكمله. في ظل غياب الصدق والنزاهة، تصبح القرارات غير مدروسة، والعلاقات غير مستقرة، والثقة معدومة. لا يمكن بناء مجتمعات قوية ومستدامة عندما تكون القيم الأخلاقية في تراجع مستمر.
إقرأ أيضاً: تساؤلات في واقعنا العربي
كما أن النفاق يزرع الشك بين الناس، ويُضعف الروابط الإنسانية. كيف يمكن لمجتمع أن يزدهر إذا كان كل فرد فيه يشك في الآخر؟ إذا كان النجاح مبنيًا على الزيف، فإن الجميع سيفقدون الإيمان بالقيم التي تجعلهم بشراً.
رغم كل هذا، يبقى الأمل قائماً في أن يُدرك الناس أن الكذب والنفاق ليسا طريقاً إلى النجاح الحقيقي. قد يبدو الصدق اليوم خياراً صعباً، لكنه يظل الخيار الأصح. الصادق قد لا يلقى التصفيق، لكنه ينام مرتاح الضمير، ويبني علاقات حقيقية تستند إلى الثقة والاحترام المتبادل.
إقرأ أيضاً: سقوط الطاغية وبزوغ شمس الحرية
يبقى السؤال: متى يُعيد العالم ترتيب أولوياته؟ متى نعود إلى زمن تُقدَّر فيه القيم الحقيقية؟ إن الإجابة لا تكمن فقط في لوم الآخرين، بل في أن نبدأ بأنفسنا. أن نرفض أن نكون جزءاً من هذا النظام الذي يحتفي بالكذب ويُقصي الصدق.
في نهاية المطاف، لا شيء يُمكنه أن يُخفي الحقيقة إلى الأبد. قد يُطيل الكذّاب طريقه، لكنه في النهاية سيجد نفسه عارياً أمام نور الحقيقة. أما الصادق، فيبقى شامخًا، لأن قيمه ليست للبيع أو المقايضة.
إلى كل صادق يشعر بالغربة في هذا الزمن، لا تيأس. الحقيقة تحتاج وقتاً لتظهر، لكن ظهورها لا مفر منه. كما يُقال: "الباطل ساعة، والحق إلى قيام الساعة".
التعليقات