تقدّم غزّة أنموذجاً معقداً للهدنة والحرب بحكم ظروفها الجيوسياسية وتحكّم إسرائيل في كل منافذها البحرية والبرية والجوية وحتى مواردها الاقتصادية. وإشكالية غزّة تعكس إشكالية الهدنة ووقف الحرب، فمن ناحية تقع في قلب الدائرة الأولى لأمن إسرائيل، مما يعني عدم السماح بوجود أي مقاومة مسلحة أو بنية عسكرية فيها، ومن ناحية أخرى، غزّة جزء لا يتجزأ من الدولة الفلسطينية، فلا دولة بدونها، وتشكل اليوم مفتاح الحل والمقاربات لكل القضية الفلسطينية. هذه الإشكالية تنعكس على مسار الهدنة ومفاوضات وقف الحرب.

والهدنة قانونياً اتفاق بين الأطراف المتحاربة لوقف الأعمال العدائية مؤقتاً، والهدنة كما في غزّة اليوم اتفاق على وقف القتال لفترة مؤقتة لإجراءات معيّنة مثل تبادل أسرى، ودخول مساعدات إنسانية، ونقل جرحى. والالتزام بالهدنة واجب قانوني وفقاً للقانون الدولي الإنساني. والهدنة بهذا المعنى لا تعني وقف الحرب أو إنهاء القتال، وهذا حال الهدنة في العلاقة مع غزّة على مدار خمس حروب، وقف مؤقت ثم استئناف للحرب. إلا أن الحرب الحالية فرضت واقعاً سياسياً جديداً قد يقود لمسارات أخرى.

وعليه، الهدنة لا تلتزم تنازلات سياسية تتعلق بجذور الحرب وأسبابها المستمرة كالحصار، وإنهاء الاحتلال، وقيام الدولة الفلسطينية، ونزع سلاح غزّة، ووقف المقاومة العسكرية. ووفقاً للقانون الدولي الإنساني الذي لم تلتزم به إسرائيل، فهي ملزمة كسلطة احتلال بضمان الغذاء للسكان، والخدمات الصحية، واحترام حقوق المدنيين. وكما أشار الأمين العام للأمم المتحدة، فإن عملية الطوفان لا يمكن فصلها عن سياقها السياسي والإنساني الذي تعيشه غزّة، بمعنى أن الاحتلال هو أصل المشكلة كلها، وبإنهائه تنتهي الحرب والقتال. وما تم التوصل إليه من هدنة ليس هدفاً في حد ذاته، بل فتح نافذة أوسع وأشمل لمرحلة جديدة من التفاوض لوقف الحرب والقتال بعد حرب دامت ستة عشر شهراً دُمّرت فيها غزّة بالكامل، وراح ضحيتها أكثر من خمسين ألف شهيد، ولم تحقق إسرائيل أهدافها السياسية المعلنة. وكل ما فعلته أنها جعلت غزّة لا تصلح للحياة بهدف تهجير سكانها، وهذا يتناقض مع كل قرارات الشرعية الدولية وقوانينها.

ولعلّ إحدى الإشكاليات في مباحثات الهدنة أنها تتم بين حكومات، وفي حال غزّة، وهنا تكمن إحدى النتائج البعيدة المدى، أنها تتم مع حركة حماس كحكومة مسيطرة على غزّة، وليس مع السلطة الفلسطينية، مما يعني خلق واقع سياسي مغاير تماماً للقائم، وقد لا يصب في إنهاء الاحتلال وقيام الدولة، وإنما في أمور تتعلق بغزّة ككيان منفصل.

إقرأ أيضاً: ما بين المقاومة السلمية والمقاومة العسكرية

وبالعودة إلى المفاوضات، وهي المرحلة الأصعب لوقف القتال والحرب بشكل نهائي، فإنها تفرض تحديات كبيرة تتعلق بالتنازلات السياسية التي يطلبها كل طرف، وبالأهداف السياسية التي لم تحققها الحرب. وهنا يُثار التساؤل الكبير عن المطالب السياسية لكل طرف، وكما أشار روبن بشاي في مقال له في “يديعوت أحرونوت”، فإن هناك ثلاثة أمور تتعلق بالمفاوضات ونجاحها:

أولاً، الإفراج عن كل الأسرى الإسرائيليين.

ثانياً، نزع سلاح حماس وتفكيك بنيتها العسكرية.

ثالثاً، تخلّي حماس عن حكمها لغزّة.

ومن جانبها، قد تطالب حماس بإنهاء كامل للحصار ووقف أي تهجير للسكان مع بقائها كسلطة غير عسكرية. وتبدأ المفاوضات بمطالب قصوى وتنتهي بالأدنى منها، بحيث يخرج كل طرف منها معتقداً أنه قد حقق مطالبه. ويبقى التساؤل عن احتمالات النجاح والفشل، ولا بديل للمفاوضات إلا الحرب، التي لم تعد خياراً مطلوباً إقليمياً ودولياً، ولذلك نحن أمام نموذج لمفاوضات غزّة الجديدة.