في هذا الطرح، سنسمي الأشياء والوقائع بأسمائها الحقيقية، فيكفينا مواربة أو التفاف، ويكفينا هذا الإرهاب الفكري، كما يكفينا ما جرى بسبب دِراسة وتزوير مضامين الأشياء ومدلولاتها. إنَّ تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية هو التشخيص الضروري حتى يتسنى لنا البدء في علاج مرض عضال توطّن في عقول ونفوس وأرواح سكان هذه البقعة المنكوبة من العالم أو المنكوب بها العالم.

هذا المرض هو التعامي عن الواقع ورفضه وإنكاره واستبداله بتفسيرات ماضوية وتخيلات وخيالات مزورة وعمى ألوان مفرط وتخدير ضمائر بغَيْبيّات مجهّلة. فالاسم الحقيقي لما جرى في العام 2023 هو زلزال أو بركان أو تسونامي خلّف واقعًا مريرًا لا تزال تبعاته أو توابعه تتوالى علينا كل يوم، كما لا يزال منهجنا الأزلي في الإنكار والتعامي هو سيد الموقف.

فالمغامرة اليائسة، وهو الاسم الحقيقي لما حدث في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، وبعد أن أفاق البسطاء المطحونون المقهورون من موجة دغدغة مشاعرهم، أفاقوا على الحقيقة العارية: حصيلة حصاد مرّ فاقت نتائجه كل ما مرّ بهذه الأمة من نكسات ونكبات طيلة قرون مضت.

سبعة ملايين من البشر قهروا ربع مليار بشر مثلهم، بالإضافة إلى مليار آخر من مشجعيهم، قهروهم ومرّغوا كرامتهم في الأوحال. سبعة ملايين مسحوا نصف فلسطين، ودمروا نصف لبنان، واحتلوا ثلث سوريا، وهددوا بإزالة الأردن من الخريطة، وعاقبوا كل من سوّلت له نفسه أن يرفع رأسه أو صوته وقتلوه في غرف نومه. سبعة ملايين من البشر، مثلنا، عدّلوا خرائط وحدودًا عمرها آلاف السنين. سبعة ملايين من البشر أبادوا خمسين ألفًا وشوّهوا مئة ألف آخرين، ونحن كقطعان نوق تائهة في صحارى ملغّمة نتخبط، وكلٌّ يحاول أن ينجو بنفسه.

إقرأ أيضاً: ولائم لديدان الأرض

وبينما تعلن إسرائيل إنشاء حاضنات تكنولوجية في مستوطناتها لتشجيع النشء على الاندماج والأخذ بأسباب التقدم العلمي في عصر لا مكان فيه للجهل، تعلن في الوقت ذاته دولة مثل مصر إحياء نظام الكتاتيب، وهي منظومة كان لها دورها في عصرها منذ مئة عام لكتابة الأحرف على ألواح الأردواز.

إنَّ إسرائيل قهرتنا (وهذا هو الاسم الحقيقي للمأساة). نعم، قهرتنا وهزمتنا دويلة تعدادها سبعة ملايين من البشر هزمتنا شرّ هزيمة باقتصادها وتقدمها العلمي وتخطيطها للمستقبل، بينما نغطّ نحن في نوم عميق لا نملك سوى أدعية موروثة لا يستجيب لها الله، لأنها صادرة من نفوس موتورة وعقول متخلفة، ولأنه إله عادل لا يساوي بين من يعلمون ومن لا يعلمون، وبين من يعملون ومن لا يعملون.

إقرأ أيضاً: الهلال الخصيب وداعاً

اسم آخر مزور تم إطلاقه على ما حدث في سوريا وهو "ثورة"، وحتى تستقيم الأمور، فالاسم الصحيح هو "مؤامرة" لا علاقة لشعب سوريا بها من قريب أو بعيد. فحاكم سوريا سقط بالتقادم الزمني، كما سقط غيره في تونس واليمن وليبيا والسودان ومصر والجزائر. وهي مؤامرة لحساب إسرائيل لتشظّي سوريا كما تشظّت اليمن وليبيا ولبنان والسودان. وهي مؤامرة لزرع نظام ثيوقراطي في المنطقة، بعد أن فشلوا في زرعه في تونس ومصر والسودان (وإن كانوا قد نجحوا في الاستيلاء على نصف ليبيا). وهم يعلمون أن زرع هذا النظام كفيل بتآكل المنطقة كلها من داخلها وزوالها إلى الأبد.

لكن موجة تسونامي الهزائم المؤلمة تخللها نصر لا يمكن إنكاره. نصر لم يصنعه أشاوس مسلحون في الأنفاق ولا أشاوس الميديا، بل صنعه البسطاء المطحونون الجوعى العرايا. صنعه شعب غزة الأعزل، صمدوا وصبروا وقاوموا وانتصروا على آلة حرب شيطانية حاصرتهم وجوّعتهم وقتلتهم لدفعهم إلى الفرار والهروب وترك أرضهم.

إقرأ أيضاً: مرثية وداع دمشق

وكان لهم دوافعهم، لكنهم لم ينصاعوا ولم يكرروا درس النكبة القاسي، وأفشلوا سيناريو تم تصميمه وإخراجه بعناية، وهو توريط مصر لكسرها واستقطاع ثلث أراضيها. تحية لغزة وشعب فلسطين كله، الذي دفع ثمن مغامرة بائسة دمرت بناياته وطرقه وحياته وقتلت خمسين ألفًا من أبنائه، وشوهت مائة ألف آخرين، ولا يزالون يحسبون هذا الحصاد المرّ نصرًا مبينًا. حسبهم الله فهو نعم الوكيل.