رأى الخبراء في الشأن الموسيقي أن الأغنية العراقية قد تراجعت خلال العشر سنوات الأخيرة، وأن الفن العراقي لم يقدم أغنيةً واحدة راقية عذبة تحمل أصالة الفن العراقي سواء في الأغاني الوطنية أوالعاطفية.


بغداد: أبدى المهتمون والخبراء في الشأن الموسيقي استغرابهم حول وضع الأغنية العراقية التي فقدت بريقها لأكثر من عشر سنوات خلت، حيث لم يرقَ النتاج الفني إلى مستوى المؤهلات التي تُعطي الأغنية استمرارية عابرة للزمن، وذلك لأن الأغنيات العصرية لا تحاكي مشاعر الجماهير ولا تُرضي ذائقة المستمع بتميز ثالوث "الكلمة، اللحن والأداء". أما مسببات هذا التراجع، فقد تباينت الآراء حولها، وفيما يلي تستعرض "إيلاف" آراء بعض الخبراء:

الملحن محسن فرحان : الخلل في القيّمين على شؤون الأغنية
رأى الملحن محسن فرحان أن الأغنية العراقية بوضعها الحالي لن تنتج ما يليق بالفن العراقي، ولن تستطيع الساحة الموسيقية العراقية أن تُقدِّم أغنية راقية وصادقة عاطفية أم وطنية ولو بعد عشر سنين أخرى، وقال: أؤكد على ذلك بأسف، لأن القائمين على شؤون الأغنية والموسيقى في البلد- واقصد بهذا أصحاب القنوات الفضائية- ليس لهم علاقة بصناعة نجومية الأغنية. وأضاف: هذا فيصل الكلام، ولا أعتقد أن هناك كلاماً غيره. ولو كان هناك رأي مخالف مقنع بحجج منطقية، فيا ليتني أسمعه. وشدد على أن "هذه الإشكالية لن تُحلّ إلا بإعادة اللجان المتخصصة وتفعيل ومعاونة الجمعية العراقية للموسيقى والغناء". وتابع : "والله الحكومة العراقية ليست لها علاقة بالموضوع، ولكن القيمين على المحطات هم سبب البلاء"، وسأل: "لو أراد أحد أصحاب الفضائيات أن يقدم شيئاً لائقاً، هل سيعاقبه رئيس الوزراء العبادي؟" وأجاب: "الحكومة جيدة، والحق علينا. صدقوني المشكلة تكمن في أداء القيادات الفنية، فلماذا ندور حول القشور ونترك اللب وهو الأهم؟"
الناقد محمود موسى: انتكاسة مريعة
وأكد الناقد الموسيقي محمود موسى، على غياب الدعم المؤسساتي والتحريم غير المباشر للغناء، وقال: شهدت الأغنية العراقية في العشر سنوات الأخيرة انتكاسةً مريعة ولم تستطع المؤسسات الثقافية والفنية سواء الرسمية أو الأهلية تقديم أغنية ناجحة يمكن أن&تُرَسّخ في الذاكرة. وبهذا خسرت الثقافة العراقية إحدى أبرز واجهاتها الجمالية. وبلا شك، هناك أسباب عديدة لهذا الوضع، أولها غياب الدعم المؤسساتي الرسمي، وثانيها التحريم غير المباشر وغير المعلن الذي تمارسه الدولة عبر مؤسساتها من خلال النظرة الدونية للفن والفنانين.&وأضاف: لم نرَ منذ سقوط النظام وإلى حد الآن أن مسؤولاً كبيراً قد استقبل فناناً، موسيقياً أو مطرباً، في حين صار هؤلاء المبدعين ضحيةً للإهمال والنسيان والأمراض والموت. والوطن الذي يفشل بأن يصنع لنفسه نشيداً وطنياً منذ 12 عاماً، سيفشل بلا شك بصناعة أغنية وطنية أو حتى عاطفية.
الشاعر رحيم العراقي : فساد الذائقة
من جهته الشاعر والفنان رحيم العراقي، كان له رأياً مغايراً، حيث قال: لكل مرحلة زمنية& فنها و فنانيها. لقد هاجم النقاد بالأمس البعيد والقريب أهل الفن، ونقاد اليوم يهاجمون فناني اليوم ويعيّرونهم بإبداع فناني الأمس الذين أصبحوا اليوم قدوة بعدما نالوا نصيبهم من النقد في زمنهم بالأمس لهذا السبب أقول&لا تُصدَموا بأغاني اليوم.& فهي لا تُقدَّم للنخبة، وإنما لجيل الشباب والمراهقين الذين فسدت ذائقتهم الفنية بعد هذا الكم الهائل من الأغاني الدخيلة وغالبيتها عربية المصدر، أو مما يصنعه هؤلاء المغنون بين فترةٍ وأخرى، فيما يحاول المغني& والمنتج كسب الجميع بمثل هذه الأعمال الهابطة التي تجد مكانةً متميزة& في القنوات الفضائية الساعية للربح. وأضاف: غالبية الفنانين الذين يقدمون اللون الهابط من الغناء هم ممن يسعون للشهرة السريعة. أما المطرب عموماً، فهو الذي يقدم ما يناسب مستواه وصوته. ويسعى للنجاح بأغاني راقية، لأن الفنان الحقيقي لا يُقدِم على طرح مثل هذه الأغاني الهابطة، بل سيحاول إحياء الموروثات الشعبية لديهم ليقدموا فناً عراقياً محترماً، وكاظم الساهر، بيدر البصري وفريدة& وآخرون لا يتجاوز عددهم الأصابع& العشرة، خير مثال على ذلك.
الفنان محمد الشامي : الأغنية بنت الشارع
ووضع الفنان محمد الشامي المسؤولية على عاتق المجتمع قائلاً: الأغنية بنت الشارع. فلا عتب&على تراجع مستوى النتاج الفني وسط هذا التلوث السمعي والبصري والبيئي في الشارع، وهذا سبب ارتباك الأغنية لهذا الحد. وأضاف: كانت الأغنية تأخذ الناس إلى بيوتهم لأنها تشعرهم بالعاطفة والألفة، واليوم باتت تُخرِجَهم من بيوتهم لأنها تشعرهم بالإحباط والرعب واليأس.
&الملحن علي سرحان: مطربو العراق كسالى
أما الملحن علي سرحان، فأشار الى ظروف البلد، قائلاً: الأغنية العراقية فيها عمق الكلمة واللحن، ومن الصعب أن تُنسى وهناك شواهد كثيرة. فالأغنية العراقية قد وصلت إلى أبعد نقطة في الأرض بدون إعلام وفضائيات لأنها صادقة في النص واللحن والشجن والإحساس، لكنها تتأثر بظروف البلاد، لأن الأغنية كباقي الأشياء تحزن عندما يحزن البلد وتفرح وتعيش طويلاً عندما يزدهر. وأضاف: صحيح أن 11 سنة كثيرة على عدم ظهور أغنية مثل تلك الأغنيات الخالدة، ولكن هناك أغنيات كثيرة سجلت للفنانين العراقيين ضمن بغداد عاصمة الثقافة العربية وأكثر من عشرين "ألبوماً". لكن السؤال هو أين هذه الأغاني؟ ألا يفترض أنها مسؤولية الإعلام والجهة المنتجة أن تعمل على تسويقها وبثها؟ فلماذا يتم تغييبها؟! وأردف: سمعت عدداً من الأغنيات الجميلة، ولكني أرى أن مطربي العراق كسالى ومقصرون بحق الأغنية.
الناقد فلاح المشعل: الوطن بلا أغاني أشبه&بالمقبرة
من جانبه رأى الناقد الموسيقي والكاتب فلاح المشعل أن الوطن بلا موسيقى وأغاني لا يختلف كثيراً عن المقبرة، وقال: الفن العراقي عَجِزَ عن تقديم أغنية واحدة راقية عذبة تحمل جمال وصدق الفن العراقي في السنوات العشر الأخيرة، سواء في الأغنية العاطفية أم الوطنية. وأضاف: "لقد مرّت سنوات طوال لم نسمع فيها سوى نقيق الضفادع و تلك "السخافات" المبتذلة التي يسمونها أغاني عاطفية، أو نواح يرافق إطلاق النار بأصواتٍ فجة وكلمات لأقزام (الشو..عراء). فبعض الأغنيات التي تُصنّف وطنية أو حربية لا تُكرِّس إلا الخيبة والشعور بالإنكسار..!" وشدد على أنه "لنا الحق بأن نُنكِر هذه (النفايات) التي تُدعى أغاني، وعلى ما يبدو، فإن شح الأغاني وفسادها يترابط جدلياً مع تصحر الواقع الثقافي وفساد المؤسسة الثقافية وانهيارها. ولأن الأغاني ترتبط بالشعب ومشاعر الناس المتلونة فهي قادرة على التعبير خارج أسوار المؤسسة الحكومية، لكن هذا لم يحصل في البلاد. بإستثاءٍ يُثير العجب! فعندما يعيش الشعب بدون أغاني يعني أنه يعيش ظاهرة إنفصام في الشخصية، وخصوصاً شعب العراق. فالعراق هو أول من غنى في التاريخ الإنساني. اسألوا صفحات التاريخ ودولة سومر وتلك الأناشيد التي تغازل جلجامش وصديقه أنكيدو".
ولفت "المشعل" للأغاني مثل "ماهو منا ياشعبنا"، "لاحت رؤوس الحراب"، "نحن الشباب لنا الغد"، "تكبر فرحتي بعيني" و"الشمس شمسي والعراق عراقي"، وغيرها الكثير من الأغاني التي تحبس الأنفاس وترفع شرف الشعب العراقي عندما يسمعها. وقال: الأغاني العاطفية لنا فيها نهر ثالث يمتد من ليل الناصرية، وأنين داخل حسن، وحضيري أبو عزيز، وخضير حسن ناصرية، وناصر حكيم ، فهؤلاء يحملون تحت عباءاتهم نشوة "الهيوة" الصاعدة من البصرة. فهذا نهر تغذيه الروافد كلما يمر بمدينة عراقية يحمل نجواها ولوعة روحها حتى يفيض ببغداد ويغرقها بحلاوة الإحساس الذي جعلها أكثر مدن الوجود رقةً وبهاءً. في الحقيقة، يزاحمنا الأسى الشفيف على ذلك الغناء الجميل في سبعينات وثمانيات الجمال العراقي الدافق بالعذوبة وطاقات المشاعر التي لا تنتهي.&
&
&