"حبي لك ينفذ إلى كل جسدي، كما يذوب الملح في الماء، كما يمتزج الماء بالنبيذ"، كلمات تنقل أصداء قلب عاشق من مصر القديمة يجيش بعاطفة للحبيب يفصلنا عنه أكثر من ثلاثة آلاف عام، مستعينا بأعذب ما جادت به لغة عصره لحضارة كانت ثمرة اختمار تجارب إنسانية تأسست على الحب.
ظل الحب عند المصريين القدماء محفزا لابتكار أساطير عديدة وأشعار وأدبيات بلورت صورة أقرب لمشاعر المصري القديم بمختلف المفردات والصور البلاغية، مجسدا لها بكل ما ملكه من إمكانات مادية.
وأسهمت مكانة المرأة المصرية قديما في تهيئة مناخ أدبي واجتماعي أثرى حضارة لم تفرق بين رجل وإمرأة، بل تأسست على روح التعاون بينهما تتضح من مطالعة النقوش والنصوص الأدبية وصور وتماثيل للمرأة في مختلف أدوارها، ربّة أو ملكة أو واحدة من عامة الشعب.
قال المصريون قديما عن الحب إنه "هبة السماء تسكبه الطبيعة في كأس الحياة لتلطف مذاقها المرير"، فكانوا أول من تفاخر بعاطفة الحب وخلدوها في عالم الأحياء على جدران معابدهم وأحجارهم، وفي "قصور الأبدية" (مقابرهم) ليحيا الجميع بالحب في العالم الآخر.
"غرام الملوك"
تبارى ملوك الفراعنة في تخليد قصص حبهم مستعينين بناصية الفن والعمارة، فكتبوا الخلود لملكاتهم بعمائر كُرست لهن، ونقوش لا حصر لها أبرزت تألقهن في شتى أرجاء مصر.
وحفظ الأدب المصري القديم عددا من الألقاب التي أطلقها المصريون على المرأة، ملكة أو محبوبة أو زوجة، تؤكد مكانة المرأة في القلوب من بينها "جميلة الوجه"، "عظيمة المحبة"، "المشرقة كالشمس"، منعشة القلوب"، "سيدة البهجة"، "سيدة النسيم"، "سيدة جميع السيدات"، جميلة الجميلات"، "سيدة الأرضين"، وغيرها من الألقاب الواردة في الكثير من نصوص الأدب المصري القديم بحسب السياق والمناسبة.
ويزخر تاريخ مصر القديم بقصص الحب والبطولات النسائية عبر عصوره، برزت أعظمها في عصر ملوك الأسرتين 18 و 19، وهي فترة حكم تميزت بتأسيس الإمبراطورية المصرية وازدهار الفنون والعمارة والثراء الأدبي، مثل قصة حب الملك "أحمس الأول" وزوجته "أحمس-نفرتاري"، والملك "أمنحوتب الثالث" و زوجته "تيي"، والملك "أمنحوتب الرابع (أخناتون)، وزوجته "نفرتيتي"، وكانت قمة قصص الحب بالطبع ما جمع بين الملك "رعمسيس الثاني" وزوجته الجميلة "نفرتاري".
تزوج الملك أحمس الأول، الذي يعني اسمه (القمر ولده)، زوجته أحمس-نفرتاري، وحظيت بشأن عظيم بفضل حب زوجها وملكها الذي شاركته حكم البلاد قرابة 22 عاما، كما تركت أثرا كبيرا في نفوس الشعب فقدسوها بعد وفاتها كربّة عظيمة، فجلست مع ثالوث طيبة المقدس الآلهة (آمون وموت وخونسو).
أقام لها زوجها معبدا في طيبة، وصُورت على جدران الكثير من مقابر نبلاء الدولة، لاسيما مقابر منطقة "دير المدينة"، التي تمدنا بالكثير من اللوحات الجنائزية ممثلة علو شأنها في القلوب. كما خُصص لها مجموعة من الكهنة لعبادتها.
استمرت عبادة هذه الملكة المحبوبة حوالي 600 عام، منذ وفاتها وحتى الأسرة 21، ويُظهر نقش في معبد الكرنك للملك "حريحور"، أول ملوك الأسرة 21، متعبدا للأرباب آمون وموت وخونسو وأحمس-نفرتاري.
كما شهدت الأسرة ال18 قصة حب الملك أمنحوتب الثالث، الذي يعني اسمه (آمون يرضى)، والملكة "تيي"، المحبوبة والمفضلة له، وحفظت تماثيلها بصورة جليلة القدر، وحرص الملك على الإنعام بأعلى المراتب حبا فيها.
استهل الملك من أجلها عُرفا لم يكن متبعا قبله، وهو اقتران ألقابه الملكية الخاصة، في النصوص الرسمية والنقوش، باسم الملكة محبوبته جنبا إلى جنب.
وتشير عالمة الآثار الفرنسية كلير لالويت، أستاذة دراسات تاريخ مصر القديم بجامعة باريس-سوربون، في كتابها بعنوان "طيبة أو نشأة إمبراطورية إلى أن "الملك أمنحوتب الثالث والملكة تيي وجهان لكيانين إلهيين يضمنان وحدة العالم وتماسكه فيهما، ولم يحدث على الإطلاق أن توحد زوجان ملكيان على هذا النحو في النظام الكوني والإلهي".
أمر أمنحوتب الثالث بإنشاء بحيرة شاسعة لمحبوبته العظيمة ترويحا عن نفسها، كما يتضح من نص ترجمته لالويت إلى الفرنسية عن النص المصري القديم:
"اليوم الأول، من الشهر الثالث، من فصل الفيضان، من العام 11 من عهد صاحب الجلاله...(قائمة بألقاب الملك) والزوجة العظيمة تيي، أمر صاحب الجلالة بإنشاء بحيرة للزوجة الملكية العظيمة بمدينتها جعروخا".
ومن أجلها أيضا أمر بإقامة معبد كرسه لعبادتها في منطقة صادنقا، على بعد 210 كيلومترا جنوبي وادي حلفا، كما يشهد بهو المتحف المصري في القاهرة على وجود تمثال عملاق للملك جالسة إلى جواره محبوبته تيي بنفس الحجم، في دلالة فنية على علو الشأن وعظيم الحب.
وسجل تاريخ مصر القديم قصة حب ملكية من نوع آخر، فريدة في تفاصيلها الأدبية والفنية، جمعت الزوجين الحبيبين أمنحوتب الرابع "أخناتون"، الذي يعني اسمه (روح آتون الحية)، والملكة نفرتيتي، التي يعني اسمها (الجميلة تتهادى)، والتي وقفت إلى جانبه في أزمة تغيير الديانة الرسمية من عبادة آمون إلى عبادة آتون، بل رافقته إلى عاصمته الجديد "أخيتاتون (أفق آتون)"، جنوبي محافظة المنيا، متحدية معارضة كهنة آمون.
خلّد أخناتون حبيبة قلبه باستخدام أساليب فنية جديدة لم يألفها الفن المصري قبلها، جنح فيها الفنان بأمر الملك إلى تصوير الزوجين في العديد من جلسات الحب الأسرية محاطين بثمرة حبها، الأميرات الست "مريت آتون (محبوبة آتون)"، و "ميكت آتون (المحمية من آتون)"، و "عنخ إس إن با آتون (إنها تحيا من أجل آتون)"، و"نفر نفرو آتون (جميل هو كمال آتون)"، و"نفر نفرو رع (جميل هو كمال رع)"، و"ستب إن رع (اختيار رع)".
كما يشهد تمثالها الفريد، الذي يحتفظ به متحف برلين، على مكانتها الخاصة في قلب زوجها مستعينا بأفضل نحاتي عصره، ومازالت تجذب ملامح نفرتيتي المعبرة العديد من الناس من كل حدب وصوب.
- إقرأ أيضا اكتشاف أثري ضخم في مصر
وحفظت أرض مصر أعظم قصص الحب الملكية، على الصعيدين المادي والعاطفي، وهي قصة غرام الملك رعمسيس الثاني، الذي يعني اسمه (رع الذي أنجبه)، وحبيبته وزوجته نفرتاري، التي يعنى اسمها (جميلة الجميلات)، والتي ظل يكن لها عظيم الحب والمودة بلا منازع لها حتى وفاتهما.
تقول لالويت في كتابها "إمبراطورية الرعامسة"، إن نفرتاري لم تكن من أصول ملكية، بل كانت نبيلة النسب، تعود أصولها على الأرجح إلى طيبة، وأطلق عليها لقب "محبوبة (الإله) موت".
رافقت نفرتاري زوجها منذ العام الأول من حكمه، وتصورها نقوش معبد الأقصر ممشوقة القوام بجوار العاهل الملكي، وتظل بجواره في التماثيل الجماعية المنحوتة في حجر الغرانيت والقائمة في الفناء الأول من المعبد.
كما جهّز رعمسيس الثاني من أجلها في وادي الملكات أجمل مقابر الموقع، غنية بالرسوم والألوان الزاهية، تصور الملكة المحبوبة مرتدية ثياب الكتان الناعم، وتزدان بالحلي الملكية النفيسة، تصاحبها الآلهة وهي تؤدي شعائر تجعلها خالدة خلودا أبديا.
بل يزداد حب الملك ليكرّس معبدا خاصا لها وللإلهة حتحور، ذلك المعبد المنحوت في صخر جبل أبو سمبل، بجوار معبده الكبير الذي كرّسه لشخصه وللإله "آمون رع"، مهديا عمله لحبيبته في عبارة تأسيس خلدها الزمن، تشهد على حب من نوع خاص ترجمتها لالويت إلى الفرنسية عن النص المصري القديم تقول :
"صُنع هذا المعبد المحفور في الجبل، عمل يدوم إلى الأبد، من أجل الزوجة العظيمة نفرتاري محبوبة (الإله) موت للزمن الأبدي واللانهائي، من أجل نفرتاري، التي تتألق الشمس حبا فيها".
"غرام الشعب"
توافرت لملوك مصر القديمة إمكانات مادية أسهمت في تخليد قصص حبهم، فماذا عن الشعب البسيط الذي لا يملك سوى الحب يقدمه للحبيب؟
كانت قصائد الشعر الأسلوب المحبب لأفراد الشعب بغية التعبير عن العواطف، وكان الحب بالنسبة لهم أشبه بـ "مخلوق إلهي كالكون نفسه"، لذا لم يفرق الأدب المصري القديم بين عاشق وعاشقة، بل أعطى لكل منهما مساحة رحبة للتعبير عن الحب بحرية غير مقيدة.
وتشهد قصائد كاملة على فرح لقاء المحبوبين ببعضهما، إذ يرى العاشق حبيبته كأنها الطبيعة وملذاتها الطيبة، توقع في شركها، مثل صائدة الطيور، كل من يستسلم لها، كهذا المقتطف لنص ترجمته لالويت إلى الفرنسية في كتابها "نصوص مقدسة ونصوص دنيوية":
"ثغر حبيبتي برعم زهرة لوتس، نهدها ثمرة طماطم، جبينها حلقة من خشب السنط، وأنا أوزة برية، أتطلع بنظراتي إلى شعرها المسترسل، كأني طُعم في شرك وقعت فيه".
وتغنى المصري القديم شاعرا بعاطفة جياشة لحبيبته، متغزلا في تفاصيلها الفريدة كما ورد في مقتطف لنص أوردته لالويت في كتابها "الأدب المصري القديم":
"إنها الحبيبة المثلى، ليس كمثلها أحد، إنها أجمل النساء، أنظر! إنها كالنجم المشرق في مطلع سنة سعيدة، إنها متألقة وكاملة، بشرتها نضرة، نظرات عينيها فاتنة، تسحر بكلمات شفتيها، عنقها طويل، ونهدها متفجر، وشعرها من اللازورد الأصلي، ساعدها أروع من الذهب، أناملها أزهار لوتس، لها ساقان هما الأجمل بين كل ما هو جميل فيها، نبيلة المظهر عندما تمشي على الأرض".
وتسجل قصائد أخرى فرحة المرأة بلقاء حبيبها ولحظات الاستمتاع معه بجمال الحدائق كهذا المقتطف:
"أنا صديقتك الأولى، أنظر! أنا كالبستان الذي زرعته زهورا، بكل أنواع العشب العطر الرقيق. جميل هو المكان الذي أتنزه فيه عندما تكون يدك في يدي، جسدي في غاية الراحة، وقلبي مبتهج لأننا نمشي معا. أنا أحيا بسماع صوتك، وإذا نظرت إليك، فكل نظرة بالنسبة لي أطيب من المأكل والمشرب".
وتحررت المرأة أكثر عند الحديث عن حبها، مستخدمة شتى الصور البلاغية والاستعارية في قصائد شعرية جاءت أكثر حرارة ورغبة:
"هل سترحل لأنك تريد أن تأكل؟ هل أنت ممن لا هم لهم سوى ملء البطن؟ هل سترحل من أجل الحصول على غطاء؟ لدي غطاء فوق سريري. هل سترحل لأنك ظمآن؟ هذا ثديي، كل ما يفيض من أجلك أنت. إن حبك ينفذ إلى كل جسدي، كما يذوب الملح في الماء، كما يمتزج الماء بالنبيذ".
كما يصف نص آخر قلب عاشقة لحبيب تراه كونا متألقا في بهائه:
"ملكت شغاف قلبي، من أجلك سأفعل كل ما تريده عندما أكون على صدرك. رغبتي فيك كُحل عيني ، وعيناي تلمعان لأني أنظر إليك وألمس حبك، أيها الرجل يا من ملكت قلبي، يالها من لحظة هنية، عساها تدوم إلى الأبد".
هكذا سجل التاريخ المصري القديم وآدابه على امتداد ثلاثة آلاف عام من عمره، مشاعر المصريين القدماء بمختلف طبقاتهم، وردت إلينا بفضل دراسات عميقة لعلماء دراسة تاريخ مصر القديم، ويقول عالم الآثار الفرنسي بيير غريمال :"إن هذا التاريخ (المصري) المديد الذي ننهمك في دراسته، بكل ما أوتينا من ولع وشغف، لن يصل أبدا إلى نهايته، يجمع يوما بعد يوم عناصر جديدة تنبثق دون توقف من وسط الرمال".
التعليقات