رافقت السينما حراك الاحتجاج والانتفاضات الشعبية التي انطلقت في عدد من البلدان العربية، واصطلح عليها اسم "الربيع العربي"، موثقة ومشاركة في فعل الاحتجاج أو مستلهمة إياه في أفلام درامية روائية قصيرة وطويلة.

وكانت هناك موجة من الأفلام التي رافقت هذا الحدث وحظيت باهتمام وترحيب في العديد من المهرجانات والمحافل الدولية. فقد خصص أكثر من مهرجان تظاهرة لتناول ما عرف بأفلام الربيع العربي، كما حضر مثل هذه الأفلام في العديد من المهرجانات السينمائية العالمية البارزة من أمثال كان وفينيسيا وبرلين وغيرها.

واليوم، وبعد مرور نحو عقد على لحظة انطلاق هذا الحراك الشعبي (الذي يؤرخ بانطلاق حركة الاحتجاجات الشعبية في تونس في أعقاب إحراق المواطن التونسي محمد البوعزيزي لنفسه في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 وامتداده إلى مصر وبلدان أخرى لاحقا)، والذي بدا حينها أشبه بزلزال تغيير عمَّ المنطقة؛ تبدو الصورة مختلفة: فلم نعد نرى ذلك الاهتمام الكثيف لدى السينمائيين بتناول هذا الموضوع، أو التظاهرات المخصصة لهذا النوع من الأفلام، وبات حضورها نادرا نسبيا في المهرجانات السينمائية المحلية والعالمية.

فهل خبا بريق الظاهرة، وهل قادت المآلات التي انتهى إليها هذا الحراك في بعض البلدان، ومحاولات إخماد جذوته في بلدان أخرى، إلى تراجعه عن واجهة اهتمام كثير من السينمائيين والتحول إلى موضوعات أخرى؟

سجل صوري

مخرجو فيلم "تحرير 2011 : الطيب والشرس والسياسي"
Getty Images
مخرجو فيلم "تحرير 2011 : الطيب والشرس والسياسي"

يقودنا التساؤل الأخير، إلى الطبيعة المزدوجة للعمل السينمائي في التعامل مع الواقع بتوثيق مجريات أحداثه أو إعادة بنائها في سياق فني تخيلي.

ففي الجانب الأول كان للسينما قصب السبق في التعامل مع أحداث الربيع العربي، ليس عبر توثيقها في الأفلام التسجيلية، فحسب بل وفي المشاركة في صنعها، بعد أن باتت الصورة سلاحا أساسيا في أيدي المحتجين للتعبير عن قضاياهم، وبعد أن سهل التطور التكنولوجي عمليات نقلها وتوزيعها، لا سيما عبر منصات التواصل الاجتماعي التي شكلت منابر أساسية لهم للتواصل والتحشيد وطرح أهدافهم.

لقد شكلت الصورة المادة الأساسية لحركة الاحتجاجات هذه، بعد أن مكن توفر كاميرات صغيرة، أو كاميرات الهواتف النقالة، المحتجين من تصوير احتجاجاتهم أو عمليات القمع التي يواجهونها، فضلا عن توفر تغطية كثيفة أيضا من كاميرات وسائل الإعلام والقنوات الفضائية المختلفة التي واكبت تغطية هذه الأحداث.

وقد بات هذا السجل الصوري الثر مادة أساسية للأفلام السينمائية اللاحقة التي تناولت هذه الأحداث، في الأفلام الوثائقية بالدرجة الأساس، أو عبر الاستعانة بمشاهد منها في الأفلام الروائية.

و يصعب تقديم حصر شامل لكل الأفلام الوثاثقية التي حاولت تقديم تسجيل آني لوقائع هذا الحراك الجماهيري، أو تقديم تحليل، لاحقا، لدوافعه أو مآلاته. لكننا يمكن أن نشير هنا إلى عدد من النماذج الأبرز منها.

وسنقتصر في هذا المقال على تناول الأفلام الوثائقية التي انتجت في أبرز بلدين شهدا انطلاق أحداث الحراك الجماهيري في انتفاضات الربيع العربي، وسنؤجل تناول البلدان الأخرى التي اتخذت فيها هذه الأحداث مسارات مختلفة كسوريا وليبيا واليمن لمعالجتها في مقال منفصل.

كما سنؤجل تناول الأفلام الوثائقية التي أخرجها مخرجون أجانب (عدا من كانت أصولهم من المنطقة) أيضا، على الرغم من أن أعمالهم شكلت نسبة كبيرة ومساهمة ثرة في هذا الصدد.

أعمال جماعية

كان فيلم "تحرير 2011 : الطيب والشرس والسياسي"، من أوائل الأفلام التي حاولت توثيق وقائع ما عرف بثورة 25 يناير في مصر.

وقد جاء هذا العمل نتاج عمل جماعي لمجموعة من المخرجين الشباب (آيتين أمين وتامر حسني وعمرو سلامة) ومنتج شاب هو محمد حفظي (أصبح رئيسا لمهرجان القاهرة السينمائي لاحقا)، الذين رافقوا هذا الحراك الجماهيري وشاركوا بتوثيقه في ثلاثة أفلام قصيرة قدمت ثلاث زوايا للنظر للحدث.

ففي الفيلم الأول "الطيب" يقدم المخرج تامر حسني منظور الشباب المحتجين في ميدان التحرير وشهاداتهم عن الأحداث وما تعرضوا له، وفي الفيلم الثاني "الشرس" تقدم المخرجة آيتين أمين منظور عدد من رجال الشرطة الذين تلتقيهم المخرجة وتوثق وجهات نظرهم عما حدث، وفي الفيلم الثالث "السياسي" يقدم عمرو سلامة مجموعة من الأسئلة عما يجري لعدد من السياسيين والشخصيات العامة ويسجل أجوبتهم بشأنها.

وقد حظي هذا الفيلم باستقبال جيد في عدد من المهرجانات الدولية، ومن بينها مهرجان فينسيا السينمائي.

وفي فيلم "الميدان" 2013، عادت المخرجة الأمريكية من أصول مصرية، جيهان نجيم، لتوثق أحداث انتفاضة الشعب المصري ضد نظام حسني مبارك، وظلت ترصد، منذ انطلاقها عام 2011 حتى منتصف عام 2013، تطور مساراتها وتوثق منظورات مختلف الأطراف المشاركة فيها؛ الإسلامية والليبرالية واليسارية.

رشح فيلم الميدان للتنافس في فئة الفيلم الوثائقي في جوائز الأوسكار
Getty Images
رشح فيلم الميدان للتنافس في فئة الفيلم الوثائقي في جوائز الأوسكار

وقد رشح هذا الفيلم للتنافس في فئة الفيلم الوثائقي في جوائز الأوسكار، كما توج بعدد من الجوائز من بينها جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان تورنتو السينمائي وجائزة الرابطة الدولية للأفلام الوثائقية، وجائزة منظمة العفو الدولية على هامش مهرجان برلين السينمائي.

وعن تجربة شخصية يقدم المخرج الفلسطيني الدنماركي عمر شرقاوي وزميله المخرج والمصور المصري الأمريكي كريم الحكيم فيلمهما الوثائقي "نصف ثورة" 2011، إذ كانا في شقة مع بعض الأصدقاء وسط القاهرة عندما زحفت جموع المحتجين الغاضبة، فقاما بتصويرها لكن بعد نزول قوات الأمن وقمعها للمتظاهرين حوصرا مع عدد من أصدقائهما المتظاهرين وسط هذه الشقة؛ التي استحالت إلى صورة مصغّرة لواقع حركة الاحتجاج والحراك الشعبي المصري، وقد حرصا على رصدها عبر ردود أفعال مجموعة الاصدقاء المحصورين فيها.

ويرصد أحمد رشوان وقائع الأشهر الأربعة الأولى من عمر الثورة المصرية، لكنه يقسم فيلمه إلى مرحلتين؛ يرصد في الأولى مناخ الشك والتردد مع إرهاصات المظاهرات الأولى ورفض توريث السلطة في مصر وانفجار كنيسة القديسين في الاسكندرية، ثم ينتقل في النصف الثاني إلى مرحلة الاعتصام في ميدان التحرير وتحول الحراك الى احتجاج شعبي عارم.

نموذج المرأة الوحيدة

واستغرق محمد صيام ست سنوات لينجز فيلمه الوثائقي "أمل" عام 2017 ، مصورا قصة فتاة متمردة في الرابعة عشر من عمرها تكتشف هويتها وروحها الحقيقية وسط مشاركتها بحماس شديد في فعاليات ثورة يناير وفي ميدان التحرير.

توج فيلم "أمل" لمحمد صيام بجائزة التانيت الذهبي للفيلم الوثائقي في مهرجان قرطاج السينمائي
Getty Images
توج فيلم "أمل" لمحمد صيام بجائزة التانيت الذهبي للفيلم الوثائقي في مهرجان قرطاج السينمائي

ويقدم صيام مشاهد صادمة لتعرض أمل للضرب والسحل من شعرها على أيدي قوات الأمن، أو عن اضطراراها للتنكر في ملابس صبي لتجنب التحرش بها.

وقد توج فيلم "أمل" بجائزة التانيت الذهبي للفيلم الوثائقي في مهرجان قرطاج السينمائي على الرغم من أنه ظل ممنوعا من العرض في مصر.

وقد ظل هذا النموذج الذي يسعى إلى رصد وقائع الثورة وتحولات الواقع الاجتماعي عبر مرافقة يوميات شخصية واحدة فيها، وهي في الغالب امرأة، إنموذجا مفضلا لدى الكثير من مخرجي الأفلام الوثائقية الذي تناولوا الحراك الشعبي في الربيع العربي، يقدم لهم فرصة تقديم صورة مجسمة عن عينة محددة والإمساك بموضوعهم وسط زحمة التفاصيل المتعددة.

وتندرج في هذا السياق أفلام مثل " أقوال الشهود" للمخرجة الأمريكية من أصول مصرية، مي اسكندر، ونموذجها الصحفية المصرية الشابة هبة عفيفي التي عملت في موقع المصري اليوم باللغة الإنجليزية قبل ثلاثة أشهر من الثورة.وقد اعتمد الفيلم على كثير من الفيديوهات التي صورتها ممازجا إياها بما صورته المخرجة نفسها. (وهناك فيلم آخر انتجته مؤسسة المصري اليوم أيضا، وهو اول عمل إخراجي لبسام مرتضى حمل عنوان "الثورة ... خبز" وتناول تجارب ستة صحفيين شباب فيها إثناء تغطيتهم لوقائع الثورة المصرية).

وكذلك الحال مع فيلم "أبدا لم نكن أطفال" للمخرج محمود سليمان الذي توج بجائزتي أفضل مخرج وأفضل فيلم غير روائي في مسابقة "المهر الذهبي" لمهرجان دبي السينمائي 2015. حيث يختار المخرج عينته عن حياة نادية (39 عاما) المرأة المطلقة والمكافحة التي تعمل في محل لسنّ السكاكين والأشياء المعدنية الحادة الأخرى، وتحمل عدتها لتجوب الشوارع لتعيل أبناءها الأربعة. وتترافق حكاية نادية مع أحداث الثورة المصرية وتحولاتها حتى ما بعد الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي وتولي عبد الفتاح السيسي السلطة.

ويمكن أن ندرج هنا أفلاما أخرى في السياق نفسه وإن لم تكن عن الثورة المصرية، مثل فيلم المخرجة اليمنية خديجة السلامي "قتلها تذكرة للجنة" عن الكاتبة اليمنية بشرى المقطري التي تتحدى مهاجمة المتطرفين الإسلاميين لها وإهدارهم دمها لتواصل مسيرتها الأدبية الناجحة. وفيلم "نرجس ع" للمخرج كريم عنوز الذي يوثق عبر حكاية نرجس الحراك الشعبي الجزائري الذي قاد إلى استقالة الرئيس بوتفليقة وعدم ترشحه لولاية جديدة.

وثائق "ثورة الياسمين"

المخرج التونسي مراد بن شيخ
Getty Images
وثق المخرج مراد بن شيخ، الأيام الأولى للثورة التونسية في فيلم "لا خوف بعد اليوم"

ومن تونس التي شهدت انطلاق "الربيع العربي"، يأتي فيلم "لا خوف بعد اليوم" 2011 للمخرج مراد بن شيخ، الذي وثق الأيام الأولى للثورة التونسية وكيف فقدت القوى الأمنية هيمنتها على الشارع التونسي، كما صور القوى المختلفة التي تقدمت إلى مقدمة المشهد السياسي التونسي بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي، عبر رصد يوميات ووجهات نظر شخصيات مختلفة من بينهم مدونة وصحفي ومحامية.

وفي فيلمها الأول "يا من عاش" 2012 توثق المخرجة التونسية، هند بوجمعة، نموذجا لكفاح عائلة تونسية من الطبقة الفقيرة عبر شخصية المرأة المطلقة، عائدة كعبي، التي لا تملك ما يديم قوت يومها هي وأبنائها الأربعة وأحدهم من ذوي الإعاقة تسهر على رعايته.

وتنقّل مواطنها المخرج إلياس بكار في مناطق تونسية مختلفة موثقا مناخ التحرر الذي ساد بعد رحيل الرئيس التونسي بن علي وموثقا تطورات الثورة التونسية بدءا من 18 يناير/ كانون الثاني حتى نهاية شهر فبراير/شباط واستقالة حكومة محمد الغنوشي، ولم يقتصر على العاصمة التونسية بل تنقل موثقا وقائع الثورة في تالة وسيدي بوزيد والقصرين والرڤاب والقصرين والرديف وصفاقس وقرقنة ومدن تونسية أخرى.

وفي فيلمه "يوميات من الثورة" مطلع 2012 يمازج المخرج الشاب الحبيب المستيري وجهات نظر ثمانية شباب ممن شاركوا في الثورة التونسية وحاولوا توثيق بعض أحداثها بكاميرات هواتفهم النقالة على وسائل التواصل الاجتماعي مع شهادات حول تونس من شخصيات عالمية من أمثال الممثلة كلوديا كاردينالي والفيلسوف ألبير ميمي وأخوه الكاتب جورج ميمي المخرجة السينمائية فرانسواز غالو.

وفي وقت عاد مخرجون تونسيون إلى التنقيب في الفترة التي سبقت الثورة عن جذورها وأسبابها، كما هي الحال مع سامي التليلي في فيلم "يلعن بو الفسطاط" 2012، الذي تناول فيه انتفاضة أهالي منطقة مناجم الفوسفات في محافظة قفصة في الجنوب التونسي عام 2008 بوصفها من أبرز الاحداث الممهدة للثورة التونسية لاحقا؛ وركز محمد الجمني في فيلم "حنظل" 2012 على تاريخ تعذيب المعتقلين السياسيين في تونس؛ ذهب مخرجون أخرون إلى الأمام لمناقشة المشكلات التي نجمت عن الثورة نفسها وعدم وفاء بعض رجالها بوعودهم بعد الوصول إلى السلطة. كما نرى في فيلم "على هذه الأرض" لعبد الله يحيى حيث بتعرض أبناء قرية تونسية صغيرة في سيدي بوزيد للقمع والتنكيل عند مطالبتهم بحقوقهم في العمل والعيش الكريم في عام 2012. أو في تناول واقع التطرف الديني واغتيال المعارضين اليساريين كما في فيلم "الشهيد السعيد" للحبيب المستيري عن اغتيال السياسي التونسي شكري بلعيد.

وقد وجدنا أن موضوع صعود المد الديني المتطرف حاضر أيضا في عدد من الأفلام الروائية التي تناولت حراك وانتفاضات الربيع العربي.

ولأن الفيلم الروائي(الطويل والقصير) يقدم هنا مساهمة غنية لا يمكن تجاهلها سنكرس له مقالا قادما يتناول الصورة التي قدم بها انتفاضات وأحداث الربيع العربي، مع أفلام من أمثال: "18 يوما" و "بعد الموقعة" و"نورمال" و "مانموتش" و"سلم إلى دمشق" و"ميكرفون" و"فرش وغطا" و"على حلّة عيني" و"نوّارة" وغيرها.