هشام عدرا: قبل سنتين وفي الأيام الأخيرة من شهر ديسمبر 2020 توفي المخرج التلفزيوني والسينمائي السوري "حاتم علي" في أحد فنادق العاصمة المصرية القاهرة إثر نوبة قلبية مفاجئة وكان متواجداً في مصر يعمل على إخراج آخر مسلسلاته التلفزيونية الضخمة "سفر برلك" كما كان يحضّر نفسه لإخراج مسلسل جديد آخر بعنوان "الختيار".


المخرج الراحل حاتم علي المولود سنة 1962م، والمنحدرة عائلته من منطقة (الجولان السورية المحتلة) حيث نزح مع أسرته وهو بعمر خمس سنوات إلى دمشق بعد احتلال الجولان من قبل الصهاينة في حرب يونيو سنة 1967م، وبالرغم من أنه بدأ حياته الفنية ممثلاً إلاّ أنه توجه للإخراج حيث وجد نفسه في هذا المجال فقدّم أعمالاً ضخمة على مدى مسيرته المتواصلة منذ تخرجه من المعهد العالي للفنون المسرحية في منتصف ثمانينيات القرن المنصرم، واشتهر علي بشكل خاص بإخراجه لأهم المسلسلات التلفزيونية الضخمة التاريخية والخليجية والاجتماعية المعاصرة في سورية ومصر والامارات العربية المتحدة، كما صوّر العديد من أعماله في المغرب والجزائر وتونس، وأسسّ قبل سنوات شركة إنتاجية خاصة به أطلق عليها اسم (صورة للإنتاج الفني) وقدّم أعمالاً تلفزيونية بنمط المسلسلات الطويلة كان منها (مطلوب رجال) والذي قدّمه بتسعين حلقة، كما أخرج أعمالاً سينمائية ومنها الفيلم الرحباني (سيلينا) وفيلم (العشّاق) وهو روائي طويل، وفيلم (شغف) وهو فيلم روائي قصير، وفيلم (الليل الطويل) الذي كتب السيناريو له المخرج المخضرم (هيثم حقّي). ومن أبرز مسلسلات حاتم علي سلسلته الرباعية التاريخية عن الأندلس وهي: (صقر قريش، وربيع قرطبة، وملوك الطوائف، وآخر أيام غرناطة) وهناك مسلسلات: (صلاح الدين الأيوبي ـ عمر ـ صراع على الرمال ـ وأبواب الغيم، والملك فاروق، والفصول الأربعة وعصيّ الدمع ومرسوم عائلي) وكذلك مسلسلات (تحت الأرض، وكأنه مبارح، وأهو ده اللي صار)وكان إخراجه لمسلسل (التغريبة الفلسطينية) قبل حوالي 18سنة (عام 2004م) علامة بارزة في حياته الفنية الدرامية حيث قدّم القضية الفلسطينية ونزوح الشعب الفلسطيني سنة 1948إلى الدول المجاورة بشكل درامي مؤثر، خاصة وأنه عانى مرارة النزوح وهو طفل صغير.
وكانت السلطة الفلسطينية ممثلة ببلدية مدينة طولكرم قامت بتكريم المخرج السوري وذلك بإطلاق اسمه على أحد شوارع مدينة طولكرم في الضفة الغربية تخليداً لذكراه ولما قدّمه للقضية الفلسطينية، حيث قام وزير الثقافة الفلسطينية في يوم 27يناير 2021 بإزاحة الستار عن لوحة رخامية على أحد مباني الشارع تتضمن صورة للمخرج علي مع شرح مختصر عن حياته وأعماله الفنية، وذلك في حفل تحدّث به الوزير الفلسطيني عاطف أبو سيف قائلاً: "ان تسمية هذا الشارع باسم حاتم علي جاءت تكريماً للفنان الراحل، وتخليداً لذكراه العطرة وامتناناً من الشعب الفلسطيني للأعمال الفنية الكبيرة التي قام بها "فيما تضمنت اللوحة كتابات عنه ومنها: (الكاتب والفنان المخرج السوري المبدع ولد في الجولان عام 1962 وشهد طفلاً مرارة النزوح بعد احتلاله والتي تتقاطع مع تراجيديا اللجوء الفلسطينية عام 1948 التي عاينها في صباه وشبابه حيث عاش في مخيم اليرموك في سورية، ظلّ وفيا لعدالة القضية الفلسطينية وحقوق شعبها المشروعة فأرّخ للرواية الفلسطينية في مسلسل التغريبة الفلسطينية في مواجهة سردية المحتل، وأصّل في مسلسل(صلاح الدين الأيوبي) لمكانة المكان الفلسطيني المقدس في ضمائر المؤمنين مسيحيين ومسلمين).
في أكثر من جلسة وحوار لي معه حيث كنت أزوره في مكتبه بحي المزة جنوب دمشق أو ألتقيه أحياناً في مقهى (الروضة) الدمشقي المعروف بأنه مقصد الأدباء والفنانين والمثقفين، حدثني عن الأسباب العديد لتركيزه على إخراج الأعمال التاريخية موضحاً بلغة المثقف المطلع على جدلية التاريخ والأحداث التاريخية بين مدى صدقها والمبالغة بها فيقول هنا: "هذا السؤال يقودنا إلى توضيح بعض المصطلحات فأنا شخصياً لا أعتقد أن أي عمل فني يحمل نوعه من خلال زمن الأحداث التي يعرضها وبهذا المعنى تصبح بعض الأعمال التي تدور أحداثها في زمن الماضي أكثر معاصرة ورهينية من أعمال تدور أحداثها في الزمن الحالي ولكنها تُقَدَّمْ بأشكال فنية مترهلة ومتخلفة وتطرح أفكاراً تنتمي إلى حقب تاريخية ماضية بمعنى معاصرة العمل الفني أو عدمه لا تنبع من زمن وقوع الأحداث وإنما من الأفكار التي يطرحها العمل ومن الأشكال الفنية التي تقدم من خلالها هذه الأفكار بالتالي ربما أنت تعتقد أن الاتجاه أنني أقدم أعمالاً تاريخية بينما أنا شخصياً أرى أنها أعمالاً في غاية المعاصرة سواء من خلال الشكل الفني أو حتى من خلال الأفكار التي تطرحها".
عندما سألته عن موضوع التزييف والتزوير الذي تعرض له التاريخ وكيف له وهو يقتحمه درامياً ليقدّمه لجمهور كبير يجلس لساعات طويلة أمام شاشة التلفاز ويدقق بكل صغيرة وكبيرة فيما يشاهده بل ويتأثر به كجمهور متلقي فأجابني: "هذا أيضاً يقودنا للحديث عن مصداقية العمل الفني سواء كان يقصّ حكايات حدثت في التاريخ أو كان معاصراً، ومن قال في الأساس أن العمل المعاصر في بعض الأحيان لا يقدم تلفيقاً عن المجتمع والمشكلات التي يتحدث عنها؟!..فالأعمال الفنية (برأيه الشخصي) هي وجهة نظر صنّاعها وعندما نتحدث عن كلمة(صانع) أقصد بالتأكيد المؤلف والمخرج، والأمر نفسه ينطبق على الأعمال التاريخية فنحن لا نقدم ولا ندّعي أننا نقدم الحقيقة التاريخية فنحن نقدم وجهة نظرنا في الحادثة التاريخية وأنا أعتقد أن التاريخ نفسه هو أيضاً وجهة نظر.. (بغداد)على سبيل المثال سقطت على الهواء مباشرة ونحن نتفق جميعاً على أنها سقطت في تاريخ محدد ولكن لكلٍّ منّا روايته المختلفة عن هذا السقوط فما بالك بأحداث حصلت قبل مئات وأحياناً آلاف السنين؟!.."

إذاً العمل التاريخي ربما يحافظ على الوقائع التاريخية لكن المساحة التي تتحرك فوق صانع العمل هي تأويل هذه الوقائع وهذا التأويل هو وجهة نظر صنّاع العمل التاريخي ولذلك كان حاتم يدعو دائماً إلى أن يوضع تحذير في مقدمة كل مسلسل تاريخي يشبه التحذير الذي يوضع على علب السجائر يقول: (أن هذا العمل ليس هو التاريخ بعينه وإنما هو وجهة نظر صنّاع العمل) ولا يمكن لأي منّا أن يدّعي أنه يقبض على الحقيقة كاملة وليست واحدة من أهداف العمل التاريخي أصلاً أن يأخذ دور أساتذة التاريخ في كليات التاريخ فالتاريخ حقيقة موجوداً في كتب لمن يشاء أن يطلع عليه والعمل الفني يحاول إعادة خلق العصر بكل تفاصيله من ملابس وديكور وإكسسوار وشخصيات يقدّم عبر هذه الوسائل حكايات جديدة هذه الحكايات فيها جزء كبير راهن ومعاصر بطبيعة الحال مهماً في نهاية الأمر أن يمتلك صنّاع العمل منطقهم الخاص والمتماسك الذي من خلاله يستطيعون تقديم وجهة نظر قوية ومقنعة، وحاتم يعتقد أن المؤرخ نفسه ليس بمنجى ولا بمنأى عن ارتباطاته سواء الفكرية الإيديولوجية أو الاجتماعية والاقتصادية فإذا كان المؤرخ نفسه لا يمكن له أن يدّعي الموضوعية فما بالك بصنّاع الأعمال الفنية؟!...
وفي أحد المرّات سألته عن عادته كالكثير من الفنانين والمبدعين والمثقفين بارتياد المقاهي فأجابني بابتسامته الهادئة: أنا لا أختار جليسي والذهاب إلى المقهى هو عادة وليس هدفاً وربما هو لتلتقط بعض الأخبار وربما للتعبير أحياناً عن بعض الأفكار فهو حقيقة مساحة للحوار وعادة الطرف الآخر يقترحه المكان نفسه والزمان أيضاً والمصادفة المحضة في بعض الأحيان ففي المقهى تلتقي أصدقاء انقطعت عنهم فترة طويلة وقد تتواصل مع أصدقاء ومعارف راهنين، فأجدها فسحة للراحة وفسحة للتواصل الاجتماعي.
كان أخيراً لدى"حاتم علي" العديد من المواهب الأدبية حيث ألفّ ونشر مجموعات قصصية ومسرحيات ومنها: مجموعتان قصصيتان هما (ما حدث وما لم يحدث) و (موت مدرس التاريخ العجوز) ومسرحية (الحصار ثلاث مسرحيات فلسطينية)كما قام بتأليف عدداً من الأفلام القصيرة والمسلسلات التلفزيونية.