فيلم "قدرات غير عادية -2015" لداوود عبد السيد، إبحار درامي في وجدان مثقفين (الدكتور يحيى/ خالد أبو النجا وحياة/ رجاء بدر )، خبرا حيرة الشك والبحث عن حقيقة الذات وقدراتها، فاكتشفا قوة الحب غير العادية، وبهاء الانتماء إلى مجموعة ثقافية تقوي حضورها بالفن، وتتمسك باختلافاتها الخلاقة.

I-التفريعات والإيقاع الدرامي:
أكثر السيناريست من الممهدات والتوضيحات والتفريعات (الاختلاف حول مصادر تكوين المطربة ليلى مراد/ التوسع في عرض مرور السيرك/ المناكفات المستمرة بين المغني الأوبرالي رامز شريف/ حسن كامي والمنشد الديني الشيخ رجب/ محمود الجندي/ المناكفة بين الدكتور راجي/ أحمد كمال والمخرج الإيطالي أنطونيو/ أكرم الشرقاوي )النافلة، فيما يقتضي المقام التركيز على الحدث الدرامي وتشابكاته ومنعرجاته.لا تفيد المشاكسات والممازحات والمناكفات بين رواد البنسيون، في الحقيقة ، في إبراز الحدث الدرامي أو تعميق مساراته.
لقد تم إيراد تفاصيل كثيرة غير مؤثرة في مجرى الأحداث (علائق فناني السيرك بالسكان/ قتل حمار السيرك/ معاملة عم حبيب الله/ إيهاب أيوب لجبريل المهرج/ التوسع في رصد مظاهر التدروش)، وفي تأجيج المسارات الدرامية للفيلم.
إن موضوع الفيلم هو التحقق من قدرات الذات(القدرة على المعرفة والحب والمشاركة الوجدانية)، ومن قدرات الفرد على الاندماج في المجموعة الثقافية المتعددة المرجعيات والخلفيات والتوجهات (القدرة على إغناء الوجود بالفن والإبداع الموسيقي والتشكيلي والسينمائي )؛وبناء عليه، فإن التوسع في رصد مظاهر التعايش بين المختلفين أو رصد علامات و أمارت التشدد والتسلف لا تسهم في إيضاح الخط الدرامي للفيلم كثيرا.
وحيث إن موضوع الفيلم خاص معرفي _وجودي، يرصد-في جزء منه -حيرة الدكتور يحيى وانتقاله المعرفي من الاستدلال إلى الوجدان والفن، أو من المراقبة الموضوعية إلى المشاركة الوجدانية في بناء وتقوية المجوعة الثقافية المتمايزة، كان من المفترض الاكتفاء بالجزئيات الداعمة لهذا المسار، وإطراح الزوائد والتفصيلات القمينة بإثقال الحكي أو الإيقاع أو تعويق مسارات التلقي.
يقود التفريع وإثقال السرد بإفادات وتفصيلات غير وظيفية، إلى تتويه المشاهد، وإبطاء إيقاع الفيلم، وتداخل الخطوط الدرامية أحيانا. من البين أن سيناريو فيلم " الصعاليك " و "الكيت كات " و" أرض الخوف" و " رسائل البحر " أكثر تماسكا وتناسقا من سيناريو فيلم " قدرات غير عادية "، المليء بالنتوءات والتفريعات غير الوظيفية.
-II الشخصيات وغناها الدرامي:
1- حياة/نجلاء بدر:
خلافا للدكتور يحيى/ خالد أبو النجا، لا تنشغل حياة/ نجلاء بدر بإشكاليات الفهم وتدبر المعضلات والإشكاليات المعرفية.فهي مستغرقة في الاحتفال، فنيا، بالوجود من خلال الفن التشكيلي والدفاع عن اختياراتها ومسلكها الحياتي، في وسط لا يحفل بالفرادة و أصالة الذات.ولئن اختار يحيى-في بداية مساره- طريق البحث والنظر والتأمل في السلوكيات والعادات والقدرات العادية وغير العادية، بعيدا عن الموضوعات الوجدانية أو الجماعية (نقد الصوفي لمسلكه المعرفي القائم على المراقبة والرصد )، فإن حياة اختارت طريق الفن وانحازت إلى الجماليات البصرية ضدا على التسلف النظري والعملي(تراجع زوجها السابق عن يقينياته الجمالية وانحيازه إلى يقينيات تداولية عقدية جماعية).
إن حياة/ نجلاء بدر فنانة منشغلة عمقيا بحريتها وفرادتها؛ إلا أنها تصطدم دوما بسوالب الحرية المتمثلة في ما يلي:
-سلطة الثقافة المضادة: وتتجلى في تحولات زوج تنكر لاختياراته الفنية والفكرية وانحاز إلى الانغلاق الثقافي وإلى دعائمه.
-سلطة المجتمع: وتتجلى في الضغوط الاجتماعية الممارسة على الإنسان المختلف في سياق تحول ثقافي عام (وضعية المرأة المطلقة).
-سلطة التحكم الناعم والبرغماتي:وتتجلى هذه السلطة في مطاردة حياة/نجلاء بدر واضطرارها إلى التخفي و قبول زواج مفروض-عمليا- بالمشرف/ عمر البنهاوي/ عباس أبو الحسن على التحقق من قدرات ابنتها فريدة/ مريم تامر.
إن شخصية حياة/نجلاء بدر أكثر تعقيدا وتركيبا وغنى من شخصية الدكتور يحيي/خالد أبو النجا.إذ يواجه الدكتور يحيي، تحديات ومعضلات وجودية ومعرفية ووجدانية محددة ومتعينة( التحير بين المعرفة والمحبة والرغبة في الانفصال عن الحس المشترك والانحياز الكلي إلى الوجدان والفن )، أما حياة فتواجه تعقيدات داخلية ونفسانية واجتماعية وتعبيرية ومعرفية لا تني تتعدد، بإصرارها على حريتها ومحبتها غير المشروطة للفن التشكيلي(الانفصال عن الزوج وتحمل الحرمان العاطفي والجنسي والنظرة الدونية إلى المرأة المطلقة)، وتمسكها بقيمها الخاصة في مجتمع يتنكر لماضيه التنويري (رفض السيرك وتعنيف الفنانين والتخلي عن تسامح الإسكندرية وألقها الثقافي والاجتماعي والعمراني وقيمها الكوسموبوليتية).
إن شخصية حياة/ نجلاء بدر أكثر تعقيدا وغنى، إذن، من الناحية الدرامية بالقياس إلى شخصية الدكتور يحيي. فقد خبرت حياة الحالات الفريدة أو الفائقة، وبحثت عن التفرد، واضطرت إلى المسايرة الاجتماعية لتفادي المخاطر والضغوط (التخلي عن الممارسة الفنية لمدة خمس سنوات والزواج الاضطراري بعمر البنهاوي)، وقبلت الطلاق والحرمان العاطفي، و أقبلت من جديد على الفن التشكيلي بعد طول خمود فني، واضطرت إلى تحمل حياة قاسية، عاطفيا ووجدانيا وذهنيا، رفقة عمر البنهاوي، الساعي إلى تملك قوى فريدة/ مريم تامر.

2- الدكتور يحيي/ خالد أبو النجا:
ينشغل الدكتور يحيى بالتقصي والتحري ورصد السلوكيات وتأمل المفارقات والفرادات(تعليقاته وملاحظاته على تعلق الناس بالتصوف والعرفاء ) من موقع ذاتي.ومن سماته الخاصة، التقصي البارد من جهة، والتجاوب العاطفي مع المحبوب من جهة ثانية.وكأننا أمام شخصية مزدوجة، موضوعية ومتجردة (تفاعله المتزن مع تنبيهات وانتقادات الشيخ الصوفي )، وذاتية مستغرقة في العشق (حبه لحياة وهيامه بالألفة ).
شخصية خالد مزدوجة وتنوس بين الأزواج التالية: المعرفة- المحبة/ التجريد-التعلق العاطفي/ العزلة -الرغبة في المؤالفة. فهو يبحث عن معرفة مجردة أساسها المعاينة والرصد والاستقصاء والمقارنة، لا عن معرفة قلبية قائمة على الكشف أو الذوق ؛ولذلك لم يستسغ طرق الصوفية والعرفاء.فقد أوصله شكه من إمكان إيجاد الحالات الخارقة للعادة إلى الرغبة في تغيير موضوع البحث.وفيما يبحث عن الحالات المطلوبة، يكتشف محتارا صعوبة التحقق والتثبت وإمكان الرصد العلمي للظواهر والتمييز بين العقلاني واللاعقلاني وحين يصطدم بجدار الامتناع، فإنه يركن إلى اليقين الوحيد المتبقي:اليقين الوجداني والعاطفي:حب حياة ومحبة رفاق البنسيون.

3- عمر البنهاوي/ عباس أبو الحسن:
إن عمر البنهاوي/عباس أبو الحسن هو النقيض التام للدكتور يحيى؛ فهو لا يطلب المعرفة للتيقن والتحقق والترقي الوجودي، بل للسيطرة والتحكم. ومهما أمعن في التحكم في الآخرين (استغلال قدرات فريدة/ الزواج بحياة/ ترهيب الخادم النوبي/إخضاع الدكتور يحيى لإرادته وتدابيره)، فإنه لا يظفر في النهاية بطائل، ولا يقدر بعد استغراق فريدة في الكآبة والانغلاق وتوالي الحرائق على إدامة الوضع. لقد راهن على إمكان توظيف المعرفة توظيفا أدائيا ووسيليا لتحقيق أغراض وغايات سياسية-عملية، بعيدا عن أي اعتبار أخلاقي أو إيطيقي، الا أنه اكتشف استحالة استلحاق الآخرين والتحكم في حيواتهم وقدراتهم العادية في كل الأحوال.
لقد سعى إلى توظيف القدرات غير العادية، فاصطدم بجدار القدرات العادية (قوة المحبة والألفة والرأفة والرعاية كما تتجلى في علاقة الدكتور يحيي بالطفلة فريدة.)، فغرق في الإحباط وأقر بفشله الكلي.

-III- من المراقبة المجردة إلى المشاركة الوجدانية:
يتهم الشيخ الصوفي/ سامي مغاوري الدكتور يحيي بالاستغراق في الملاحظة والمراقبة والرصد البراني غير الخالي من الشك.يكتفي المراقب حسب الشيخ بالمعاينة عن بعد، ولا يقترب مطلقا من مناهل العرفان.إن المراقب مشغول بالمعرفة المجردة لا بالمعرفة العرفانية، المحصلة عن طريق الكشف والمشاهدة.
إن المراقب لا يقترب من العرفان ومسالكه إلا بحذر واحتراز واحتياط معرفي ومنهجي، علما أن طريق الراحة والطمأنينة أو ما سماه الصوفي بالاستراحة قائم على القرب والاستغراق في المباهج العرفانية.
ومن الطريف أن يستعمل الشيخ الصوفي المعنى العلمي أو الوضعي للمراقبة، علما أن مفهوم المراقبة مفهوم صوفي _عرفاني صميم. (سمعت الشيخ أبا عبدالرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الجريري يقول: من لم يحكم بينه وبين الله تعالى التقوى والمراقبة لم يصل إلى الكشف والمشاهدة. ) -1-
إن المراقبة، طريق الكشف والمشاهدة والحقائق، من منظور صوفي _عرفاني.
(وقال النصراباذي: الرجاء:يحركك إلى الطاعات، والخوف:يبعدك عن المعاصي، والمراقبة: تؤديك إلى طرق الحقائق.)-2-
بحث الدكتور يحيى المنقبادي/ خالد أبو النجا عن المعرفة وعن استكشاف المجهول والتحقق من حقيقة القدرات الخارقة بالاستناد إلى آليات ومناهج العلم الاستدلالي، فلم يظفر بعد مسار بحثي _وجودي صعب إلا بالحب والألفة.
اصطدم الدكتور يحيى بسلطة الثابت والمنظور الوظيفي _الذرائعي للمعرفة، وهو يعالج حيرته المعرفية -الوجودية، ويبحث عن مأوى أمين في هجير الأسئلة المحيرة (هل يمكن إيجاد حالات خارقة للعادة والنواميس الكونية؟من يمتلك القدرات غير العادية تعيينا؟ كيف يمكن التمييز بين القدرات العادية والقدرات الخارقة ؟ أليس السلوك الراقي قدرة غير عادية في عالم موسوم بالعنف والحذر والترقب والاعتلال؟)، ويستمرئ لواعج الحب والفراق.

الواقع أن الدكتور يحيى تخلى عن المراقبة العلمية الباردة، بعد أن خبر "الخوارق"، واختار طريق الوجدان والمشاركة.وفيما يختار طريق الوجدان والمشاركة الوجدانية ، فإنه يحرص على التمايز عن الأغيار، وربط مصيره بمصائر أناس أثبتوا تميزهم الاجتماعي والمعرفي والفني، وتفردوا باختيارات ومسلكيات مخالفة للمعهود، خلافا للمقبلين على المواسم والموالد والقيم التداولية العادية.يقبل الدكتور يحيى، إذن، طريق الوجدان، ويقبل على الفن والإبداع، ويشارك المجموعة المتفردة ألقها الإبداعي- الوجودي.
ومثلما مال يحيى/ آسر ياسين في "رسائل البحر" إلى الحب بما هو مرفأ وجودي ووجداني، مال الدكتور يحيى/ خالد أبو النجا إلى الحب والألفة (ألفة المكان وألفة الأشخاص) باعتبارهما عصب الكينونة الأصيلة.

يركن البطلان، إذن، إلى الهوامش، ويستميتان في مواجهة سوالب الأصالة الذاتية والصفاء الفكري والتمتع بالمغايرة والاختلاف.
لقد تغلب الدكتور يحيي على حيرته وتردده وضياعه الوجودي، واختار الحب نهجا ومسلكا والألفة موطنا ومسكنا وجدانيا والدفء الإنساني ترياقا ضدا العزلة والعلاقات النفعية أو الوظيفية.
يتغلب الحب والوجدان على المعرفة المجردة هنا؛ إن المعرفة رهينة بالتحير والتشكك والاستغراق في فحص الممكنات والغوص على المعاني واستجلاء الخفايا، أما الحب فمقترن بالطمأنينة والهناءة. يبحث يحيي عن معرفة المجهول، فلا يظفر في مسار بحثه إلا بالحب والفن وحميمية العلائق في فضاء مفتوح على البحر و الفن ( الفن التشكيلي و الغناء وعروض الأفلام وعروض السيرك العجيبة) وآفاقهما الوجودية الواعدة.

-IV-الرؤية الرومانسية وغياب البعد التراجيدي:
لقد بحث الدكتور يحيى المنقبادي/ خالد أبو النجا عن الحالات غير العادية، طبيا وفيزيقيا وعلميا، فظفر بحالات عادية، تستمد فرادتها وألقها من الاحتفاء الجمالي بالحياة(الانحياز الواعي إلى الممارسة الفنية والمثابرة على الإبداع واحتضان الحوار المرح بين تقليدين موسيقيين مختلفين وحساسيتين جماليتين وتعبيريتين مختلفتين: الإنشاد الديني والأداء الأوبرالي واحتضان الاختلاف وإيجاد آليات التواصل وتعميق الألفة الإنسانية رغم الفوارق الثقافية.).إن الفن أكثر قدرة -فيما يبدو- على الاحتفاء بالحياة وقيمها وبهائها، وعلى تذويب الاختلافات والتناقضات بين الفرقاء(الفن التشكيلي و الموسيقى والغناء والفيلم الوثائقي والفكاهة والمرح)، وعلى إدامة الروابط بين أشخاص لا تربطهم جذور ثقافية أو اجتماعية مشتركة.
يمكن التأكيد على فرادة الفن، التعبيرية والأدائية ؛إلا أن ذلك لا يستدعي الأمثلة، والابتعاد عن مفردات التعبير الدرامي. إذ تفضي الأمثلة إلى الرومانسية من جهة وإلى الرؤية المانوية للأشياء والظواهر والشخصيات من جهة أخرى، علما أن للأشياء والعلائق مسارات ملتوية في الغالب، ودروبا متعرجة.
يؤمن أبطال داوود عبد السيد ( يحيى/ آسر ياسين في "رسائل البحر" والدكتور يحيى المنقبادي/ خالد أبو النجا في "قدرات غير عادية") بالاختلاف وإمكان الركون إلى الحب، ولا يلتفتون _إطلاقا إلى البعد التراجيدي للحياة.
إن رؤيته رومانسية في العمق، لا تسمح بإدراك نسبية الحب والمغايرة الكامنة في قلب الألفة نفسها.إن التآلف لا ينفي التخالف، والألفة لا تلغي الجفوة المحتملة.
وثمة سقطات تراجيدية ناتجة عن العجز عن فهم المحبوبين:
(ولكن حتى أكثر الناس حكمة وأشدهم ذكاء والذين يفهمون الوضع الإنساني خيرا من الجميع يفشلون بصورة نموذجية في فهم من هم أقرب الناس إليهم وآثرهم عندهم لأنهم أكثر ارتباطا بهم على الصعيد العاطفي من أن يحققوا هذا الفهم...)-3-
لا ينفي الحب العمى التراجيدي، بل يغذيه. إذ يمنع الارتباط العاطفي المحب من فهم المحبوب وإدراك حدوده.
ينبهر الدكتور يحيى المنقبادي/ خالد أبو النجا، بحميمية العلائق والروابط بين نزلاء البنسيون، رغم اختلافاتهم الفكرية والاجتماعية الكبيرة. يتحول التوافق، الظرفي، بداهة، إلى طوبى، مضادة لقوانين وقواعد الاجتماع القائمة على التنازع والتنافس والتعاند. من الطبيعي، أن يسود الوئام، إن غابت الرغبة والمنافسة المحاكاتية.
لا يسمح المنظور الرومانسي، بتأجيج وتسريع الإيقاع الدرامي للأحداث، ولا بالكشف عن الوجوه الأخرى المخفية والمسكوت عنها.
لقد تمت أمثلة البنسيون وعالمه وأجوائه، علما أن الدراما، ترصد مبدئيا الاعتلال والتنازع والتوترات الكامنة في كل المناحي الحياتية والوجودية مهما كانت رخية أو هنية. لا ينفي التعايش، إمكان التنافس والرغبة المحاكاتية، والركون إلى العنف المادي، بعد الاكتفاء بالعنف الرمزي ( التندر والسخرية والمناكفة).
ينهض الفيلم-مثل فيلم" رسائل البحر"-على منظور رومانسي أو مثالي، يعلي من شأن الحب ومن فضائل الاختلاف ومن بهاء الهوامش. يكفي حسب هذا المنظور الإيمان بالحب والاختلاف، والانخراط في مسارات التحاب والتعايش، للتمتع بالحياة والتحرر من سلطة الأغيار (التقاليد و التسلط والتسلف والدروشة). ومن البين أن هذا المنظور يغفل البعد التراجيدي للوجود ونسبية القيم وانفتاح السيرورات والمسارات الشخصية على احتمالات وإمكانيات وجودية متعددة ومتضاربة تبعا لنوعية السياقات التاريخية والثقافية.

-V- شحوب النص النغمي-الإيقاعي:
لا تغني موسيقى الموسيقار راجح داوود كثيرا، المفاصل الدرامية للفيلم؛ ولا تضئ علل ومخاوف وأشواق الأبطال، ولا تكشف عن أوجاعهم الدفينة وتطلعاتهم المكتومة ومخاوفهم المطموسة. كان من الممكن، إبراز كثير من المضمرات والكوامن والتوترات، الذهنية والوجدانية والفكرية، من خلال أنغام وإيقاعات أكثر كثافة من الناحية التعبيرية.كما كان من الممكن إبراز -عبر النغم والإيقاع- كثافة وقوة الشحنات النفسانية الملازمة لبعض المفاصل الدرامية الدالة والقوية: سقوط التفاحة ورد فعل الدكتور يحيى/ رقصة الخادم النوبي حبيب الله/ إيهاب أيوب الانخطافية أمام البحر/ وقوف يحيى على آثار الحريق...إلخ.
وتتضح الأهمية الكاشفة للموسيقى، إذا أدركنا الخصائص النفسانية والذهنية والفكرية لشخصية الدكتور يحيى. كان من الممكن إذن الكشف عن التمزقات الذاتية (الشك في الذات وفي قدراتها والحيرة وعدم الاقتناع بالتعليلات المكرسة ثقافيا واجتماعيا.) والدفق العاطفي (حب حياة/ نجلاء بدر والتمسك بالعلائق الوجدانية رغم توالي الإخفاقات والخيبات والأوجاع الوجدانية لهذا الشخص، ولاسيما بعد انفصاله الاضطراري عن حياة/ رجاء بدر وابنتها فريدة/مريم تامر.)
لا يكتسب النص النغمي-الإيقاعي قيمته إلا متى أغنى المواقف واللحظات والمنعطفات الدرامية، وكشف عن المضمرات وأضاء المناطق المعتمة في النفس والوجدان والوعي الفردي. فعلاوة على التمتع والتلذذ بانسيابية الأنغام وتدفق الإيقاعات، فإن النص النغمي-الإيقاعي، يوفر، إضافات دلالية، قادرة على إغناء المشهد الدرامي (اكتشاف الدكتور يحيى لقدراته غير العادية بالمستشفى/ السباحة المرتجلة في البحر/ اللقاءات المحتدمة المشحونة بالتوتر مع عمر البنهاوي/ إقرار عمر البنهاوي بفشل رؤيته النفعية والأداتية للمعارف والطاقات الخاصة)، وشحنه بإيحاءات تعبيرية وجمالية ودلالية، جاذبة للأذن ومغذية للوجدان وموقظة للوعي.

-VI-تركيب:
ثمة خيطان دراميان يتشابكان بعد تفريعات وتعرجات ومنعطفات متعددة: البحث والتحقق من القدرات غير العادية و السعي إلى استعادة الحب المفقود ؛وتنتهي مسارة الدكتور يحيي المنقبادي/ خالد أبو النجا، بإطراح مسلك التقصي أو المراقبة المتجردة واختيار مسلك الوجدان والفن والاختلاف والحرية.فبدلا من إنعام النظر العلمي في الحالات المرصودة والانشغال بتفسيرها علميا تبعا لمقتضيات وقواعد ومعايير المنهج العلمي أو اقتراح معالجة نقدية _شكية كما في دراسات هنري بروك أو جورج شارباك، فإن الدكتور يحيي المنقبادي/ خالد أبو النجا اختار مسلك الوجدان والفن والحرية.
فقد تخلى عن المراقبة العلمية، ليتبنى المعايشة الوجدانية، وقبل وهو المنعزل الاندماج في مجموعة بنت توافقها على احترام الخصوصيات الثقافية والاختلاف.

هوامش:
1-أبو القاسم القشيري، الرسالة القشيرية، تحقيق: عبد الحليم محمود و محمود بن الشريف، دار المعارف، الطبعة الثالثة 2019، الجزء الأول، ص.329.
2- أبو القاسم القشيري، الرسالة القشيرية، تحقيق: عبد الحليم محمود و محمود بن الشريف، الجزء الأول، ص.331.
3-والتر كاوفمان، التراجيديا والفلسفة، ترجمة:كامل يوسف حسين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1993، ص.139.