إيلاف من تورتنو: شهد قسم "اكتشافات" بمهرجان تورتنو السينمائي الدولي هذا الأسبوع العرض الأول لفيلم "مندوب الليل"، أحدث إنتاجات ستوديو "تلفاز 11"، وأكثرها انتظاراً لدى الجمهور، وهو من إخراج وكتابة علي الكلثمي، وبطولة محمد الدوخي، وھاجر الشمري، ومحمد الطویان، وأبو سلو، وسارة طیبة، ومحمد القرعاوي الذي شارك أيضًا في كتابة الفیلم.

تحذير: المراجعة تحتوي على حرق احداث مهمة من الفيلم.

يقدِّم الفيلم تجربة ليلية يومية مع الشاب الثلاثيني الأعزب فهد القضعاني (محمد الدوخي)، الذي يعمل كمندوب طلبات بجانب عمله الأساسي كموظف خدمة عملاء، ويعيش في بيت متواضع مع والده الأرمل وأخته المطلقة.

نعيش معه رحلة يومية بين شوارع وحواري الرياض، التي شهدت تطورًا وتحولًا سريعًا في فترة زمنية وجيزة، بدأت بزحف عمراني لا يتوقف، وتزايد سكاني رهيب، ووقت كثير مهدور في أطرافها بسبب الزحام، وصولًا لانفتاح اجتماعي كبير بعد عزل ومحافظة لعقود، وتباين طبقي رهيب بين سكانها.

نشاهد مع البطل "فهد" كل هذه التحولات بشكل يومي، فهو يوصل وجبات طعام لمنزل قديم بنفس طبقته الاجتماعية، ثم نجد الطلب الذي يليه من مطعم فاخر لأحد قصور حي حطين. ولعل أهم ما يجمع بين وظيفتيه أنها "أعمال خدمية" لا تحتاج لشهادة أو مهارة، أي من السهل استبدال من يقوم بها. وبالتالي يسبّب الأمر قلقًا لصاحبه ويترك أثرًا نفسيًا كبيرًا، خاصة مع مشاهدته للطبقة المخملية تعيش حياة وردية بلا منغصات.

كل تلك العوامل تقود بطل الفيلم لأخذ زمام أمور حياته بيده، والتحكم في قَدَره ضمن الأحداث، من خلال الدخول في عوالم محظورة من الصعب الوصول إليها.

الدوخي بعيداً عن الكوميديا

المعرفة السابقة بكواليس تحضيرات الفيلم، وتفاصيل القصة المعلنة عنه من صنّاعه، خاصة عن كونه فيلم درامي سوداوي، جعلتني أتوقع وجود وقت طويل بين بداية الفيلم والدخول في عصب القصة، لكن حدث النقيض ودخلنا مباشرة مع "مندوب الليل" في تفاصيل عمله وحياته، وعشنا معه يومياته.

كما أن هذا النوع من الأفلام القائمة على بطولة ممثل واحد بشكل أساسي، تعتمد على أدائه التمثيلي إلى حد كبير. لذا شاهدنا محمد الدوخي بطل الفيلم (الذي عرف بكاريزمته و جماهيريته الكبيرة حضوره الكوميدي الدائم على مدار سنوات) في دور مختلف، يعتمد على أحاسيس ومشاعر داخلية. بجانب لعبه على تفاصيل الشخصية الخارجية، بدءًا من جسمه النحيل للغاية، مرورًا بطريقة تعامله مع والده، وكذلك مع صديقته والجيران، انتهاءً بطريقة أداء عمله كمندوب توصيل طلبات أو كبائع خمر!

ولأن التفاصيل هي النقاط التي تزيد من جمالية العمل، وتزيد من احترام الجمهور له، فمن السهل ملاحظتها في الفيلم أكثر من مرة، سواء في إخفاء عدة المندوب في السيارة عند وصوله لعمله الأساسي، أو أماكن السهرات شمال الرياض، والألعاب النارية، أو منزل الشيخ، والأزياء.

وتجدر الإشارة أيضًا لتفاصيل البطل الرئيسي من لغة جسد وأداءات، إذ نرى فهد بعد مكالمته لـ (مها) بكامل سعادته وفرحه ونشاهد كيف دبَّت فيه الحياة وأشرق وجهه لمجرد حصوله على اهتمام بسيط من الجنس الآخر!

الدوخي في هذا الفيلم يجسد حرفيًا شخصية مواليد الثمانينيات الغارقة بين جيلين، والتي تعاني أزمات عديدة؛ كالجفاف العاطفي، والتدين المتناقض في أوضح صوره، فتجده يبيع ويسرق ويضطر لممارسات قاسية ، لكنه يهرع بعد ذلك للصلاة بخشوع وخوف .

صورة الرياض

اعتمد الفيلم بشكل رئيسي على الصورة، بحيث تظهر الرياض بالشكل الذي يراه صناع الفيلم. وهنا يبرز المصور المصري طاحون، والذي كنت قلقًا من وجوده كونها تجربته السينمائية الأولى، لكنه صوَّر الرياض وكأنه عاش حياته بين جدرانها، فنجد تكوينات بصرية سينمائية بجانب الثيمة المظلمة التي أشعر بها المشاهدين، والتي تعكس دواخل شخصية البطل فهد. أما بالنسبة لموسيقى الفيلم للفنان أبو حمدان، فكانت معبرة عن القلق والإثارة التي نعيشها مع "مندوب الليل"، وإن كنت أرى أنه كان من المفترض ظهورها بشكل أكبر في عدد من المشاهد.

اختلاف بين جيلين

مواضيع عديدة تناولتها السينما السعودية، خصوصًا مع توالي الأفلام القصيرة والطويلة في منتصف الألفية، التي تدور في معظمها حول مواضيع الصحوة، والمجتمع الشرقي المحافظ، والسلطة الدينية. حتى انضم إليها مؤخرًا موضوع جديد يواكب التحولات الكبرى والتطورات السريعة في المجتمع السعودي؛ من انغلاق لانفتاح تام، من فصل كامل بين الجنسين لوجود المرأة في كل شيء، حتى الألعاب الرجالية كالملاكمة.

هذا التحول سبّب صدمة لدى جيل كبير من السعوديين، صدمة ليس لها بالجانب الديني، أكثر من كونها حالة من عدم الإستيعاب .

وفي مشهد المطعم ـ الذي التقى فيه فهد بمها ـ ، الذي أراه أحد أميز المشاهد التي بيَّنت أزمة التناقض بين جيلين، نلاحظ كيف تم تقديمه بشكل بسيط دون تكلف، ومعبر للغاية.

"تلفاز 11" مابين اليوتيوب والسينما

المتتبع لمسيرة "تلفاز 11" على مدار أكثر من عقد، يرى أنه رغم النجاح والشعبية الكبيرة والمتوالية لأعمالهم، خاصة بعد دخول المجال السينمائي، ومع كل عمل يقدمونه سواء في بعض أعمال ست شبابيك للصحراء أو الأفلام التي قدمت العام الماضي (سطار، الخلاط +)، دائمًا ما تنعت تلك الأعمال بأنها أعمال ذات نفس يوتيوب ، وأن قالبها ليس سينمائيًا.

وبعيدًا عن صحة تلك العبارة، لكن بمجرد مرور 20 دقيقة من الفيلم تشعر بسينمائية العمل ، من ثيمة وأجواء عامة وإثارة .

وبالتأكيد وجود مثل هذا الفيلم في مهرجان سينمائي دولي مهم مثل تورتنو، دلالة على نجاح المخرج علي الكلثمي في هذا التحدي، فقد غيّر جلده تمامًا عن كل ما قدمه سابقًا، ليظهر لنا في تجربة درامية مليئة بالسواد عن شخصيات تعاني الكثير والكثير، فيقترب من المحظور ويلامس الخطوط الحمراء.

فيلم "مندوب الليل" لا يشابه أعمال علي الكلثمي السابقة، إلا في اختيارته المميزة في الممثلين، فبجانب البطل محمد الدوخي وفق الكلثمي كثيرًا ببقية الخيارات، بدءًا من محمد القرعاوي مرورًا بأبو سلو وأحمد التركي والفنان القدير محمد الطويان، وانتهاء بالوجه الجديد هاجر الشمري، التي قدمت المطلوب منها دون مبالغة في الأداء ولا برود يخل بالشخصية.

ختام الفيلم كُتبت عبارة عن معنى مندوب، وهي "المصاب بجرح أو علة ظاهرة بعد حادث أو إصابة"، لكن ما شاهدناه هو شخص يعاني من جراح داخلية عديدة أكبر من كونها على ظاهر الجسد.

في النهاية، "مندوب الليل" عمل مؤثر يأخذنا لمنطقة فنية مختلفة، عانى في نصه الثاني فيما يخص الكتابة والسرد لكنه يظل عمل سينمائي مهم ويفتح آفاقًا ومساحات جديدة فيما يخص السينما السعودية.