إيلاف: يتناول فيلم "فتاة المصنع" إنتاج عام 2014 للمخرج المصري محمد خان ،ثيمات نفسانية و اجتماعية مثل الحب و الكبت الجنسي والفقر والقهر والرغبة في الترقي الاجتماعي ،من منظور خاص، تحضر فيه مباشرة أو مداورة المقارنة بين ما تحقق في زمن صعود الناصرية وبين ما استجد بعد مقتل السادات.
I-المشاهدة واستحضار المخزون الفيلمي:
لا يمكن مشاهدة فيلم "فتاة المصنع " دون استحضار ما يلي:
1-فيلموغرافيا المخرج محمد خان ومعالجته لقضايا و ومشكلات المرأة في زمن الانفتاح بخاصة: نشير هنا بالتحديد إلى أفلامه الكلاسيكية راهنا:"طائر على الطريق" و"أحلام هند وكاميليا "و "موعد على العشاء "و"الرغبة " و"زوجة رجل مهم ".....إلخ؛
2-أفلام سعاد حسني الرومانسية والاستعراضية-الغنائية: فيلم "خلي بالك من زوزو"و" أميرة حبي أنا"و" المتوحشة " ....إلخ؛
3-الأفلام المخصصة لتحرر المرأة المصرية في الستينيات والسبعينيات: " أنا حرة " و"الباب المفتوح" و"حواء على الطريق"...إلخ .
وليس الإقدام –هنا-على المقارنة مجاناً بل هو مفروض بحكم توظيف بعض أغاني سعاد حسني، وبحكم الإشارات والمقارنات الواردة طي الفيلم (تأكيد عيدة /سلوى خطاب على تغير النظرة إلى الأزياء واختلاف معايير الحشمة بين الماضي القريب والحاضر مثلا).
II-توظيف أغاني سعاد حسني:
تم توظيف مقاطع من تسع أغنيات لسعاد حسني في فيلم "فتاة المصنع":
1-أغنية "سيداتي آنساتي ..سادتي "؛وهي من كلمات عبد الوهاب محمد وألحان كمال الطويل؛
2-أغنية "ياواد يا ثقيل " ؛وهي من كلمات صلاح جاهين و ألحان كمال الطويل؛
3-أغنية "آه ..يا هوى " ؛وهي من كلمات صلاح جاهين وألحان كمال الطويل وعمار الشريعي؛
4-أغنية " الحياة بقى لونها بمبي " ؛وهي من كلمات صلاح جاهين وألحان كمال الطويل؛
5-أغنية "منتش قد الحب يا قلبي " ؛وهي من كلمات حسين السيد وألحان محمد الموجي؛
6-أغنية "الدنيا ربيع " ؛وهي من كلمات صلاح جاهين وألحان كمال الطويل؛
7-أغنية "حبيبي أنت يا فيلسوف "؛ وهي من كلمات صلاح جاهين وألحان كمال الطويل؛
8-أغنية "شيكا بيكا" وهي من كلمات صلاح جاهين وألحان كمال الطويل؛
9- أغنية "يا بحر الهوى "؛ وهي من كلمات مرسي جميل عزيز وألحان محمد الموجي.
وظف صوت سعاد حسني وغناؤها كثيرا في الفيلم، لتحقيق ما يلي:
1-إبراز مظاهر التشابه والاختلاف بين زمانين وسياقين تاريخيين-سياسيين مختلفين؛ وتتمثل مظاهر التشابه في مرح الشابات ورغبتهن في الترقي الاجتماعي وتتجلى مظاهر الاختلاف في التحفظ والتحوط واشتداد المحافظة الاجتماعية (تراجع مظاهر الانفتاح الاجتماعي/السباحة بثياب طويلة/توقف الحراك الاجتماعي/غياب وسائط وآليات الحراك الاجتماعي.).
2-التعليق على الأحداث الدرامية (تحفظ صلاح/هاني عادل وعدم التفاته إلى هيام ورغبتها في التعرف إليه/فرح هيام وسعادتها الظرفية بعد أن ظنت أن طريق الحب سالكة)؛
3-الكشف عن بعض مضمرات الحدث الدرامي (الكشف عن فرح هيام وسعادتها من خلال توظيف مقاطع طربية مبهجة لسعاد حسني / التعبير عن التخالف والانفصال وما يعتمل في نفس هيام من خلال مقطع غنائي معبر لسعاد حسني........)؛
4-إبراز ارتباط الأجيال الجديدة بعطاء وإنجاز وإبداع مصر بعد ثورة يوليو (غناء أم كلثوم وصوت وأفلام سعاد حسني)؛
5-تحفيز المشاهد على تحريك مخزونه السمعي-البصري ومعارفه ومشاهداته (مقاطع من أفلام رومانسية لسعاد حسني "خلي بالك من زوزو" و " أميرة حبي أنا " و"المتوحشة " وصغيرة على الحب " و"السفيرة عزيزة "ومسلسل "هو وهي " ،ومقاطع من أفلام طليعية عن حرية المرأة مثل :"أنا حرة "و"الباب المفتوح".......إلخ)،والوقوف على الفوارق الفنية والتعبيرية والجمالية ،بين واقع وإبداع الستينيات والسبعينيات وواقع وإبداع العقد الثاني من الألفية الثالثة.

III-الاستلاب وورطات الشخصيات:
1-هيام/ياسمين رئيس:
تتميز هيام/ياسمين رئيس، بالطموح والجسارة وتحدي الصعاب؛ فهي حريصة على تحقيق مرادها، أيا كانت المثبطات والحوائل. وتستمد جسارتها (المبادرة إلى التعرف إلى المهندس صلاح/مساعدته أثناء مرضه /اهتبال الفرص المتاحة لملازمته وخدمته /إحضار الجبن إلى منزله)من معرفتها بحراجة وضعها الاجتماعي وصعوبة التحرر من أغلال الفقر والاستلاب والكبت دون تحقيق قفزة نوعية في مسارها الحياتي.
تعتقد أن الترقي ممكن عن طريق الارتباط العاطفي بشخص مقتدر ماليا، إلا أنها تكتشف أن الحسابات الطبقية صلبة ، وأن الأسر العاطفي للمحبوب متعذر في ظل أسرة متماسكة (صرامة الأم ودرايتها بأهداف هيام).
كما تكتشف قسوة قوى التقليد وتفاني القرابة في الحفاظ (إقدام الجدة على قص شعر هيام بطريقة لا تخلو من الإذلال والتشفي والزجر)على الموروث السلوكي والقيمي مهما تقادمت أو تغيرت معطيات الواقع وطموحات الأفراد.
2-عيدة /سلوى خطاب
تظهر الأم عيدة/ سلوى خطاب كثيراً من الحزم والصرامة في التفاعل مع المستجدات والطوارئ والمتغيرات. ومهما حاولت التأثير في مجرى الأحداث، فإنها لا تفلح في تغيير الموازين، وإحداث نقلة في حياة أسرتها. تجمع الأم بين الرقة والعطف والود (حكايتها الأسطورية عن الصعيدي ضاحي وعن تاريخها الشخصي وزواجها وفساتينها ومقتل زوجها السابق) وبين الصرامة والحزم (تعنيف هيام / ياسمين رئيس بعد الاشتباه الجماعي في سلوكها) والعنف (جرح الزوج بعد أن حاول اقتحام البيت للانتقام من هيام).
تظهر الأم /عيدة كثيرا من الصرامة والشدة (تعنيف هيام ومحاصرتها بعد إيجاد صورة صلاح بين أغراضها الخاصة/مناكدة الجارة الفضولية)؛ كما تظهر كثيرا من الحزم في الدفاع عن ابنتها (حمايتها من الزوج الهائج) والرأفة بها بعد الكشف عن الحقيقة.
3-سميرة/سلوى محمد علي
تعاني الخالة المطلقة من التحرش (تحرش زميلها في الإشراف على سنترال الهواتف الدائم بها) والفقر والاحتقار (احتقار ابنتها لها وتشكيكها الدائم في سلوكها/سخرية الجدة من وضعها الاجتماعي) والاستغلال (العمل سرا كخادمة في البيوت ليلا). ومهما تفانت في رعاية أفراد محيطها (تكفلها بأداء تكاليف دراسة ابنتها المرتفعة نسبيا)، فإنها لا تلقى إلا الجحود. ومهما حاولت التلاؤم مع المعايير الاجتماعية (ارتداء الحجاب)، فإنها تقابل بالتحرش الجنسي وينظر إليها نظرة شهوانية.
IV-الطموح والحب:
ولئن تحكم الشغف في أبطال وبطلات أفلام محمد خان في طوره الأول ( منى إسماعيل /ميرفت أمين في فيلم" زوجة رجل مهم"/فوزية /فردوس عبد الحميد في فيلم " طائر على الطريق "...إلخ)،فإن الطموح هو المتحكم في سلوك هيام/ياسمين رئيس في فيلم "فتاة المصنع".
إن هيام طموحة وتتوخى التحرر من وضعية الحرمان والاستلاب والكبت والهشاشة الاجتماعية. تعتقد أن التحرر من وطأة الفقر والحرمان العاطفي والجنسي، ممكن من خلال الحب ومفعوله، لتكتشف صلابة التقاليد (هبة الجدة والأم وزوجها لتلجيمها ومعاقبتها، رمزيا وماديا، لسعيها إلى تجاوز المتاريس الاجتماعية-الأخلاقية التقليدية/تخلي زميلاتها في العمل عنها أثناء محنتها /تشكك الجميع في برءاتها ) وكثافة الحواجز (تصدي أم المهندس صلاح لها مرارا/تهرب صلاح من ملاقاتها ومواجهتها/ استفحال الالتباس وغياب الرغبة في التواصل وإيضاح الحوافز والمقاصد والغايات) واستحالة الترقي الطبقي عن طريق الطفرة العاطفية.
ثمة عاملان مؤثران في سلوك هيام /ياسمين رئيس، هما:
1-الرغبة في التحرر من الفقر والدونية الاجتماعية (امتعاضها من الخدمة في البيوت رفقة خالتها)؛
2-توقها إلى الحب والعشق ولذات الجسد، ونظرتها المثالية إلى الحب بتأثير الأفلام الرومانسية (نظرتها الحالمة إلى القبلة المتبادلة بين عزيزة / سعاد حسني وبين أحمد/ شكري سرحان في فيلم "السفيرة عزيزة".
ليست هيام /ياسمين رئيس فتاة رومانسية حالمة بالحب الخالد، بل هي فتاة واعية بحراجة وضعها الاجتماعي ومقتنعة بإمكان تغيير مصيرها وتحقيق غاياتها وأهدافها الاجتماعية والعاطفية عن طريق الحب. ولتحقيق بغيتها، أظهرت كثيرا من الحذق (اهتبال فرصة مرض المهندس صلاح وإصابته بحريق بسيط في اليد للتقرب منه.) والمرونة (محاولة التقرب وإرضاء أم المحبوب والاعتناء بتنورة أخته/إحضار الجبن القريش إلى منزل أسرته) وارتكبت بعض التجاوزات الصغيرة: سرقة صورة المهندس في غفلة من أخته.). كانت مصرة على الاقتراب منه، واستغلال كل الفرص المتاحة، لإقناعه بحبها له. ومن البين، أن التخطيط والضغط والتجاسر على كسر بعض المحظورات التقليدية (تبادل قبلة مع الحبيب)، دالة على استراتيجية أدائية، لا تنفي الحب بإطلاق، إلا أنها تمنح الترقي الاجتماعي المقام الأكبر.
إن هيام أقل رومانسية، من بطلات السينما الرومانسية المصرية بكل تأكيد؛ فهي لا تكتفي بانتظار إطلالة المحبوب، واستثارة عواطفه المشبوبة ، بل تكثر من المبادرات وتتبع كل الطرق الممكنة، لإقناعه بأهليتها العاطفية والإنسانية. إلا أن مبادراتها، تصطدم بجدار الامتناع الصلب، وتكتشف صرامة التراتبيات الاجتماعية، وحرص المهندس على المواضعات الاجتماعية المقررة.
V-مظاهر الحرمان والاستلاب:
تعاني شخصيات الفيلم من استلاب مركب: اجتماعي وفكري وجنسي وسياسي. وللخروج من هذا الاستلاب المعطل للقدرات والملكات والرغبات، فإنها تبحث –تلقائيا –عن علائق عاطفية قابلة للمأسسة .وتغيب عن الأذهان، في هذا المحيط السوسيو-ثقافي،أية رغبة في فك الارتباط بهذا الوضع المغلق ،وتأهيل الذات وتعميق معارفها وقدراتها ،أو التفكير في إنشاء مشاريع جماعية ،تمكن الذوات المتعاونة والمتضامنة من استيفاء شروط الكفاءة والنجاعة ، تدبيرا وإنتاجا وتوزيعا وتجاوز الاستلاب الاقتصادي.
(والاستلاب الاقتصادي يعني تعرض المرأة المستمر لتبخيس جهدها العملي،مما يسمح للرجل باستغلال هذا الجهد من دون مقابل أحيانا،أو دفعها إلى مواقع إنتاجية ثانوية بعيدة عن الخلق والإبداع ، وهو ما يغرس فيها عدم الثقة بنفسها وبإمكانياتها ،ويجعلها هامشية في علاقات الإنتاج . ) -1-
1-الاستلاب الفكري:
تعتني شخصيات الفيلم كثيرا باللامعقول (قراءة الفنجان/ تفسير الأحلام/ قراءة ركن الأبراج في الجرائد/ الحرص على النذر/الخوف من الموتى/رمي الشعر في النيل /أسطورة الصعيدي ضاحي وإنجابه البنات).لا تكتفي الشخصيات بالمعقول ،بل تستحضر اللامعقول في مواقف كثيرة ،وتستعين بالميثات ومحتوى الأحلام ،في فهم الواقع وفك ألغازه ،وإراحة الذات وحمايتها من القهر والحرمان والتحير.
ويكشف الاهتمام بمعرفة المستقبل المجهول، عن معاناة اجتماعية-وجودية كبرى، لا يملك الفرد، إلا السخرية من الذات ومن الآخر والمرح والمناكدات واستطلاع الأبراج، للتخفيف من تأثيرها النفساني –الاجتماعي الفادح.
تبقى هذه الشخصيات أسيرة وضع مقلق ،لا تملك آليات فهمه والكشف عن أدواته في التعمية والتمويه والاستتباع .وعوض التحرر من وضع فكري –اجتماعي-وجودي مغلق، فإنها تستميت في الدفاع عنه ،والاحتماء بمؤسساته ويقينياته التداولية (عداء صديقات وزميلات هيام غير المبرر لها )،والنظر إلى الذات والآخر من منظور رهاناته لا من منظور رهانات الوجود والكينونة ومتطلبات الأصالة الكيانية.ولا تملك هيام نفسها،مقومات وممكنات التغيير رغم جسارتها وطموحها الكبيرين ،لافتقارها إلى منظور نظري أو رؤية اجتماعية شاملة أو مسوغات قوية لأفعالها(التمسك بالنذر/الرقص في زواج صلاح/محاصرة الحبيب دون معرفة معمقة بشخصه واهتماماته وانشغالاته .).
2-الاستلاب السياسي:
وفيما خلا مشهد المظاهرة، لا تحضر المخاضات السياسية الصريحة في فيلم "فتاة المصنع". لا يشير الفيلم إلى أية مجاذبات سياسية، بين فرقاء يملكون الوعي السياسي والوعي التاريخي، ويتوافرون على آليات وأدوات التغيير .ومن الطريف ،أن يتبنى الفاعل المدني-السياسي الخطاب الثوري التغييري في مشهد المظاهرة ،ويلهج بالمساواة وإنصاف المرأة ،فيما يرزح الإنسان العادي تحت أعباء اجتماعية وثقافية تحول دون تحرره من التمثلات الجماعية وتوافره على آليات جديدة لتدبير الاختلاف(فشل استراتيجية هيام الإغرائية وانسياق صلاح/هاني عادل وراء التهديد بالفضح والتشهير).
3-الاستلاب الجنسي:
ويبرز الفيلم استمرار الارتهان بالتقاليد والمحظورات القديمة (العذرية /مراقبة الجسد الأنثوي والتحكم فيه /تعنيف وإذلال وإخضاع المشتبه في سلوكها وعزلها اجتماعيا/الارتهان بالشائعات دون التأكد من حقيقة ما يجري /تطويق الفرد الساعي إلى التشخصن ومحاصرته ومعاقبته وعزله عن المجموعة/عدم التحقق من الواقعات والاكتفاء بالشائعات والتمثلات الجماعية.).
وقد أشار مصطفى حجازي إلى بعض مظاهر هذا الاستلاب الجنسي حين عالج مشكلات الإنسان المقهور.
(وهذا كله يوقع المرأة في وضعية مأزقية ،في حالة تناقض مذهل بين اختزال كيانها إلى مجرد جسد جنسي (تضخيم أهمية الجنس) والقمع المفرط الذي يفرض على هذا الجسد ،وعلى إمكاناته التعبيرية ،ويزداد المأزق حدة ،والتناقض عنفا نظرا لموقف الرجل الذي تتجاذبه المرأة ،فهو ينجذب نحو الجسد الذي يضج بالحياة والجاذبية ،ويتمتع ،بقدر من التعبير ،ولكنه لا يتحمل مسؤولية نتائجها ،تقع المسؤولية على المرأة ،ويقع الغرم كله عليها.) -2-
تسعى هيام إلى الحرية والتحرر من أغلال التقاليد الراسخة (موقف الجدة وزميلاتها في العمل)،دون أن تملك وعيا نظريا داعما لسلوكها .تكتفي بالتحمل والتجلد ،في مواجهة الاتهامات والشائعات والتهويلات والعنف الرمزي والمادي ،غير أن سلبيتها الظاهرة وعجزها البين عن إبراز براءتها ،آلت بها إلى الاكتئاب والرغبة في الانتحار(تحريك البلكونة المتداعية قصدا).لا تميل هيام ، بحكم محدودية وعيها، وافتقارها إلى خطاب نظري متسق ،إلى السجال والجدال والإقناع مما يوقعها في مآزق عويصة.
4-الاستلاب الاجتماعي:
الخصاصة والعنف:
تسود الخصاصة وتطبع الفوضى فضاء العشوائيات. وبما أن الإحباط هو الميسم الاجتماعي الطاغي، فإن العنف الرمزي (المناقرة والمناكدة والتعليقات الجارحة واللوم والتقريع والاستهزاء والطنز والتحقير والاستنقاص من قيمة الآخر) والمادي (المشاجرة بين الأسرتين بسبب الاختلاف حول إيراد السيارة /احتجاز هيام / ياسمين رئيس وقص شعرها بطريقة مذلة /سعي زوج الأم والخالين إلى معاقبة هيام.)، هما الخياران الممكنان والمتاحان.
الجوار والقرب والعنف الرمزي:
لا يوفر السكن في العشوائيات، شروط الراحة والطمأنينة والحميمية. ولا يحمي السكن المتجاور، من تلصص الآخر وتطلعه إلى معرفة خصائص الفرد وأسراره الخاصة.
وينشأ العنف الرمزي ويتحكم في مجرى العلائق في الفضاءات المتجاورة (عنف الجدة وحدة أقوالها /المناكدات بين الجيران /تشكك الطفلة في سلوك أمها، سميرة/سلوى محمد علي/تنبيه سميرة إحدى الزبونات إلى خطأ مسلكها، دون أي مسوغ أخلاقي يبيح التدخل في شؤون الآخر)، ويقل التواد إلا في مواقف مخصوصة (ولادة الجارة/حدب الأم/عيدة على البنات).
الانجذاب العاطفي والترقي الاجتماعي:
الطريقة الوحيدة للترقي اجتماعيا، في غياب الحراك الاجتماعي: هي الحب والارتباط بالآخر دون معرفة عميقة به والزواج. فهيام تميل إلى المهندس صلاح وترغب في استهوائه وإغوائه، دون معرفة عميقة بشخصيته وفكره وميوله ومشاريعه الشخصية. وتتحيل للتقرب منه ،رغم أنه لم يكشف عن أية مؤهلات أو مقدرات إنسانية تبرر الرغبة في الارتباط به ؛علاوة على أنه لا يملك جاذبية كبيرة. يغيب تحصيل المؤهلات والكفاءات والمهارات، وتحضر العواطف وتتوهج الرغبات والأشواق ويحتد التوق إلى الخلاص الاجتماعي من خلال الإغواء والانجذاب العاطفيين.
التحايل العاطفي على القهر الاجتماعي:
تلتجئ شخصيات الفيلم إلى المرح والسخرية والفكاهة والغناء والمزاح والمناكدة والمناوشة والاستفزاز والزغاريد والاستيهامات العاطفية، للتخفيف من ضغوط الحياة الاجتماعية ولتجاوز الإحساس الدائم بالإحباط والقهر العاطفي والكبت الجنسي.
(فإذا نحينا "الفقر" جانبا واعتبرناه "اللفظ الأساسي "، فإن "القهر" يتضمن معنى الحزن على المصير الذي آل إليه المرء الذي يشعر به،وهذا المصير يغلفه الفقر في الغالب من الأمر؛أما "الفكر " هنا-فلا علاقة له بالمعنى المصطلحي المعجمي المعروف،إنما يعني-تقريبا- التدبر في أمور المعاش والرزق الضيق.)-3-
لا ينفصل التحايل العاطفي، عن التحايل الاجتماعي؛ فكلاهما يساعد على التخفيف من وقع القهر،وقوة الحرمان وقسوة الاستلاب المركب المشار إليه ،وعلى إيجاد حلول ظرفية ،لمشكلات مؤرقة وإشكاليات اجتماعية ذات جذور تاريخية في الغالب.
VI-تركيب:
مكن تتبع قصة حب عادية، من اكتشاف واقع معقد، يخضع فيه الإنسان لاستلاب متعدد الأوجه: استلاب فكري وجنسي وسياسي واجتماعي واقتصادي. لا يملك الإنسان، في هذا الواقع المشبع بالفقر والقهر والحرمان والبؤس والهدر والعنف، سوى التحايل والمرح التعويضي والبحث عن مخارج. إلا أنه سرعان ما يكتشف قوة التقاليد والتمثلات الجماعية وصلابة التراتبيات الاجتماعية والطبقية واستحالة التفاعل الجاد مع محيط، يتمسك بمنظورات أبوية-ذكورية، ولا يلتفت إلى مطالب ورغبات وأفكار الأفراد.
ولئن حاولت هيام، تغيير واقعها البائس، من خلال التمسك بالحب والحلم بالترقي من خلاله، فإنها تكتشف أن التجاسر على تخطي المعايير المكرسة مكلف، نفسانيا ووجدانيا وجسديا، وأن الحذق العملي لا يفيد كثيرا في اكتساب الحظوة الاجتماعية.

الهوامش:
1-إبراهيم الحيدري، النظام الأبوي، و إشكالية الجنس عند العرب، دار الساقي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 2003،ص.360.
2-مصطفى حجازي ،التخلف الاجتماعي ،مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور ،المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ،بيروت ،الطبعة التاسعة 2005،ص.215.
3-علي فهمي ،التحايل على المعاش بمصر المحروسة :دراسة في آليات التعامل مع الفقر والقهر /ضمن : الإبداع في المجتمع العربي ، المجلس القومي للثقافة العربية ، الرباط ، المغرب ، الطبعة الأولى 1993،ص.245.