بين صفاء عصام الدين في السودان وطارق يزن في غزة مسافة ألفي كيلومتر، ورغم هذه المسافة البعيدة يتقاسمان مصيرا مشتركا، إذ وضعت الحروب والصراعات مستقبلهما التعليمي على المحك.

"التعليم هو مفتاح مستقبلى كفتاة "

تُظهر الصورة صفاء، الفتاة السودانية البالغة من العمر 14 عامًا، وهي تجلس في مخيم للاجئين مع خمسة أطفال آخرين.
BBC
تقول صفاء، الفتاة السودانية البالغة من العمر 14 عامًا، إنها تحلم بأن تصبح جراحة قلب.

في خضم اشتداد المعارك في الخرطوم، دبرت صفاء أمورها بحكمة وإصرار؛ فقد حرصت منذ البداية على حفظ كتبها وملازمها الدراسية، حاملًة إياها في كل خطوة من رحلة نزوحها المرهقة، أملا في يومٍ يُسدل فيه ستار الحرب لتعود العملية التعلمية إلى مسارها الطبيعي.

كانت صفاء، الطالبة المتفوقة في مدرسة "دار السلام" بالخرطوم، تنظر إلى المرحلة الثانوية كخطوة أولى نحو تحقيق حلمها الكبير بأن تصبح طبيبة. لكن هذا الحلم تلاشى قليلاً مع اندلاع الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع في منتصف أبريل/نيسان 2023، ما جعل واقعها يتبدل بمرارة.

ورغم كل الصعاب، لم تستسلم الفتاة ذات الأربعة عشر ربيعًا للواقع المرير؛ بل حولت خيمتها المتواضعة إلى مركز تعليمي مصغر، تقدم من خلاله الدعم والمعرفة للفتيات الأخريات الأصغر سناً. وما زالت متمسكة بطموحها، مؤمنة أن المستقبل لا يُبنى إلا بالتعليم.

ففي حديثها لبي بي سي، تقول: "رغم تراجع شغفي في البداية، إلا أن طموحي جارف لا يعترف بالمستحيل. أنصح الفتيات اللواتي بدأن يفقدن الأمل بالتمسك بالتعليم وعدم الانجرار وراء مشاريع الزواج الذي باتت كثيرات ترى فيها حلا للنجاة في ظل هذا الوضع القاتم".

وتصر الفتاة على ملاحقة حلمها في أن تصبح جراحة ناجحة وتؤكد أن "الحرب رغم بشاعتها شجعتها أكثر على تحقيق ذلك الهدف".

وتسترجع في حديثها ذكريات الحرب قائلة: "عندما غادرنا الخرطوم نحو العيلفون (مدينة شرق الخرطوم)، كانت الجثث ملقاة في كل مكان، ما جعلني أشعر برغبة عميقة في أن أكون سببًا في إنقاذ الأرواح بدلًا من أن تزهق. عندها قررت أن أصبح جرّاحة قلب".

"لم يبق من مدرستي سوى الجدران "

وفي قطاع غزة، لم يستطع طارق يزن ( 10 سنوات) هذا العام شراء القرطاسية التي كان يتطلع إليها مع بداية كل عام دراسي، ولم يحصل حتى على الزي المدرسي. فمنذ اندلاع الصراع المرير، اضطر هو وعائلته إلى النزوح مرارًا؛ فقد رحلوا من شمال غزة إلى قلب القطاع ثم إلى رفح، حتى عادوا أخيرًا إلى منازلهم مع إعلان الهدنة.

وعندما زار طارق مدرسته، وجد أمام عينيه ما تبقى من جدران محطمَة. ويقول :"عندما رأيت مدرستي كومة من الحطام، اجتاحني حزن عميق. وأتوق إلى أن تعود كما كانت."

ويضيف بإصرار: "لم أتوقف عن الدراسة، أتعلم في المنزل وأحرص على استغلال كل لحظة. وحتى إن لم تُفتح المدارس، سنواصل التعلم في بيوتنا وسنحفظ دروسنا كما لو كنا في الفصول. أتمنى أن تُرمم المدارس والبيوت قريبًا."

أما بالنسبة إلى جاره وصديقه يوسف (12 عاما)، فقد كان لخسارته سنة دراسية كاملة أثر عميق على حياته الاجتماعية.

ويقول بحنين: "قبل سنة ونصف، كنت في الصف السادس، أذهب إلى المدرسة يوميًا مع أصدقائي، ندرس ونلعب معًا، ثم نعود إلى منازلنا سويًا. أما اليوم، فقد تفرقنا، منهم من توفي ومنهم من غادر القطاع والحال ذاته مع المدرسين. أفتقد مدرستي كثيرًا. وكل ما أطمح إليه الآن هو أن أصبح طبيباً".

30 مليون طفل مستقبلهم على المحك

ما يقارب 30 مليون طفل باتوا خارج أبواب المدارس في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وفقًا لتقديرات منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)،
BBC
يونيسف: 30 مليون طفل في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا محرومون من التعليم. أكثر من نصف هؤلاء الأطفال يعيشون في السودان.

ما يقارب 30 مليون طفل باتوا خارج أبواب المدارس في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وفقًا لتقديرات منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، التي تشير إلى أن أكثر من نصف هؤلاء الأطفال، بما يعادل حوالي 16.5 مليون طفل، يعيشون في السودان وحده.

وبيّنت اليونيسف أنّ النزاعات والأزمات في السودان وفلسطين وسوريا وبلدان أخرى تؤدّي إلى "تراجع مهول" في المكاسب التي حُقّقت في مجال التعلّم بالمنطقة.

وتظهر بيانات من 12 دولة في المنطقة أن عدد الأطفال (من 5 إلى 18 عامًا) غير الملتحقين بالمدارس قد ازداد، ما يعني أن طفلا واحدا من كل ثلاثة لم يعد يذهب إلى مدرسته.

وقد حذرت المنظمة من أن هؤلاء الأطفال معرضون لعواقب طويلة الأمد تؤثر على تعليمه ورفاههم.

وفي قطاع غزة، يُقدَّر عدد الأطفال خارج المدارس بحوالي 645 ألف طفل، فيما تحتاج 84% من المدارس إلى إعادة بناء أو تأهيل كامل، كما أفاد سليم عويس، مسؤول الإعلام في اليونيسف لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

يكمل عويس "بتنا نلاحظ نمطًا متكررًا لكيفية تأثير النزاعات وانعدام الأمن والأزمات على تعليم الأطفال وقدرتهم على التعلم." مشيرًا إلى أن "العديد من الأطفال قد أصيبوا خلال النزاع وتعرضوا لصدمات نفسية، أثرت على قدرتهم التعليمية."

وفي السودان، يعيش ملايين الأطفال في مخيمات اللاجئين، حيث بات التعليم متاحًا فقط من خلال مبادرات محلية. ومن اللافت أن 7 ملايين طفل من أصل 16.5 مليون كانوا خارج المدرسة حتى قبل اندلاع الحرب، التي أسفرت عن أكثر من 20 ألف قتيل وأسفرت عن نزوح ولجوء نحو 14 مليون شخص، بحسب بيانات الأمم المتحدة.

ولم يقتصر تأثير الحرب على الأطفال فحسب، بل امتد ليشمل المعلمين والمدارس والبنية التعليمية في البلاد.

فقد أدى تعطل الدراسة وإغلاق المدارس إلى انقطاع رواتب المعلمين، ما دفع حوالي 1.5 مليون مدرس وأسرهم إلى مواجهة ظروف معيشية قاسية؛ إذ اضطر بعضهم إلى التخلي عن مهنة التعليم نهائيًا بحثًا عن بدائل، فيما لجأ آخرون إلى دول الجوار.

وفي الوقت نفسه، دُمرت آلاف المدارس والمرافق التعليمية وتحولت المئات منها إلى ملاجئ للنازحين.

وفي تصريح خاص لبي بي سي، سلط وزير التعليم السوداني، أحمد خليفة، على حجم الأضرار التي طالت المؤسسات التعليمية قائلا " الأضرار طالت جميع الولايات تقريبا يوجد في السودان نحو 15 ألف مدرسة حكومية، وقد تعرض ما بين 60 في المئة و70 في المئة منها لدمار كامل، ما تسبب في فقدان الأساسات والبنية التحتية والأدوات المدرسية".

وتابع: "حتى في الولايات الأكثر أمانًا، تعرضت المدارس لأضرار بسبب التدمير المنهجي من قبل الميليشيات".

بي بي سي تزرع الأمل

صورة من برنامج درس
BBC
ستُعرض الحلقة الأولى من "درس" يوم الأحد 9 فبراير /شباط على قناة بي بي سي نيوز عربي

وفي ظل هذا الواقع المؤلم، قررت الخدمة العالمية لبي بي سي إطلاق نسخة عربية من برنامجها التعليمي "درس" .

يُعدُّ البرنامج، الحائز على عدة جوائز، منصة تعليمية مبتكرة تهدف إلى دعم الأطفال من سن 11 إلى 16 عامًا الذين حُرموا من فرصة التعليم.

تحتوي كل حلقة على مواد في الرياضيات والعلوم وتعليم اللغة الإنجليزية، بالإضافة إلى أخبار وقصص عالمية ملهمة. كما تتضمن الحلقات قصصًا لأطفال مثل طارق وصفاء، الذين رغم معاناتهم في خضم الحرب، يظلون مصممين على مواصلة التعلم.

منذ انطلاقه في عام 2023، يُعرض "درس" بلغتي الداري والباشتو للأطفال الأفغان عبر شاشات التلفزيون والراديو والمنصات الرقمية.

ستُعرض الحلقة الأولى من "درس" يوم الأحد 9 فبراير /شباط على قناة بي بي سي نيوز عربي، إذ تُذاع الحلقات الجديدة أسبوعيا في تمام الساعة 05:30 بتوقيت غرينتش، مع إعادة العرض في الساعة 10:05 بتوقيت غرينتش.

كما يتوفر البرنامج على المنصات الرقمية، بما في ذلك قناة بي بي سي نيوز عربي على يوتيوب، إلى جانب خدمات الراديو في غزة وسوريا.