تشهد المناطق السورية المحررة من نظام الأسد، حملات توعية ضد الهجرة واللجوء، تحث السوريين على عدم سلوك درب اللجوء الخطير، والصمود في وطنه ومواصلة الثورة حتى إسقاط بشار الأسد.


علي الإبراهيم: تحت فيء أشجار جلست مجموعة من السوريين حائرين في أي طريق يمضون. اقترب مني أحدهم سائلًا عن الوسيلة الأنجع للعبور نحو تركيا. اعتذرت منه فأنا لا أعرف أن أسلك غير السبل الطبيعية، فالمعابر الحدودية مع تركيا مغلقة منذ حوالى ثمانية اشهر.

&
&شباب وعائلات على الحدود بحثا عن طرق للجوء والهجرة - عدسة "إيلاف"
&
&القابون ريف دمشق البخ على الجدران لوقف اللجوء والهجرة - عدسة "إيلاف"

محدثي شاب في أواسط عشرينياته، عرفت لاحقًا أنه الناجي الوحيد من مجزرة ارتكبها الطيران الروسي في ريف إدلب شمال سوريا، قتلت فيها عائلته بالكامل.

من يبني؟

استرعى اهتمامي كهل سمين ظل جالسًا يُراقب الحديث الدائر بجانبه. اشتعل رأسه شيبًا، لكن الذكاء والحزن يشعان من عينيه. دعاني للاقتراب منه وقال: "بربك، لمن يتركون هذا البلد، للروس والايرانيين وكلاب الأسد؟ عليهم التوجه للجبهات للتخلص من الأسد واعوانه".

على بعد أمتار من مكان وجودنا يافطات غطت الشارع وجداريات كتب عليها "لا تهاجر نحن بحاجتك"، سبقها منذ أسابيع قطع الطريق الذي يصل معبر باب الهوى والمناطق الحدودية شمال سوريا، ومطالبة الشباب المهاجرين بالتوقف عن الهجرة، لكن من دون جدوى.

يدمدم الكهل بجانبي مرة ثانية: "لمين تاركين هالبلد آه؟"... لم أجد ما أجيبه به سوى القول إن بلاد الشام فتية وفيها من الشباب الكثير.

&
&يافطات تحث الاطباء على وقف الهجرة - عدسة "إيلاف"
&
&بوستر ويافطات على الحدود السورية التركية لوقف الهجرة - عدسة "إيلاف"
قاطعني غاضبا: "بشار الأسد قتل نصف الشباب والنصف الآخر نزح وشرد وهجر لم يبق في البلاد أحد فمن يبنيها؟".

هجرة غير مسبوقة

شهدت المدن السورية أخيرًا هجرة غير مسبوقة، فلم يعرف السوريون تغريبة بهذا الحجم في وقت سابق؛ إذ هاجر كثير من الشباب والعائلات في السنوات الأولى للثورة. لكن مع دخول الثورة عامها الخامس، زادت الهجرة بشكل أكبر بسبب القصف الممنهج من الطيران السوري والروسي.

وهذا ما دفع مجموعة من الناشطين والشباب لتنظيم وقفات احتجاجية رفعت خلالها لافتات تطلب من الشباب وقف الهجرة، كتب عليها "يا أستاذ لا تهاجر بدي اتعلم"، "يادكتور لا تهاجر بدي اتعالج"، "يا مهندس لا تهاجر البلد مين رح يعمرها"، "يا مجاهد لا تهاجر الشام مين رح يحميها".

&
&البخ على الجدران في حلب لوقف الهجرة - عدسة "إيلاف"
&
&مخيمات النزوح داخل سوريا - عدسة "إيلاف"
وتم قطع الطرق المتجهة باتجاه الحدود السورية التركية، ونشر يافطات وعمليات بخ على الجدران، عبر حملة اعلامية ومسيرات نظمها مجموعة من الشباب والناشطين بالاشتراك مع هيئات ومنظمات محلية، بهدف حث الشباب على وقف الهجرة واللجوء خارج البلاد.

البحر وطنا

عبد العزيز محمد، احد القائمين على المشروع، يقول لـ"إيلاف": "هدفنا توعية الناس بوقف اللجوء للدول الاوروبية، فكثير من الشباب هاجروا وعادوا بسبب عدم القدرة على الاندماج في المجتمع، نحن نعلم أن البلاد تشهد صراعًا وفي كل لحظة يقتل الناس بالطيران الروسي والأسدي، لكن هذه البلاد بحاجة لشبابها حتى يتم بناؤها بعد سقوط الأسد ومن معه".

وحول قبول الشباب تلك الحملة، قال: "الحملة جديدة ولا يمكن أن نتوقع نتائجها في الاسابيع القليلة، لكن إن شاء الله سيكون لها وقع قريبًا وستشمل باقي المحافظات المحررة في سوريا".

دموع الحزن غطت وجه فراس فياض وهو يحدثنا عن عشرات العائلات التي غرقت في البحر بعد محاولتها الهرب، لكنه رغم ذلك لا يجد ضيرًا في الهجرة واللجوء لمكان أكثر أمنًا. يقول لـ"إيلاف": "لم يبق لدينا وطن، وطننا هو البحر، لو سألت اي سوري من هو وطنك سيقول لك إن البحر هو وطني، ولن اضع اللوم على احد ترك سوريا وهاجر بعدما ضاقت بهم السبل من كل الاتجاهات".

انتحار

لكن ثمة من يعتبر أن اللجوء انتحار. محمد سليم عمل مدرسًا في بلدته أكثر من عشرين عامًا، وفصل أخيرًا من عمله بسبب ولائه للثورة السورية. لكن رغم ذلك لم يفكر هذا الرجل في اللجوء.

يقول: "تكالبت علينا الامم، من روسيا إلى ايران إلى حزب اللات وغيرهم من الميليشيا الداعمة للاسد، يجب أن نبقى هنا حتى نحرر البلد، هذه الدول الغربية فتحت باب اللجوء والهجرة حتى تتوجه عيون الجميع إليهم وينشغلوا بجمع الاموال وايصالهم لاوروبا فقط، فهم يريدون تفريغ البلاد من أهلها".

اللجوء والهجرة لا يقتصران فقط على المناطق المحررة وعلى المناهضين لنظام الاسد، حيث وثق ناشطون آلافا من "الشبيحة" الذين هاجروا طالبين اللجوء في الدول الاوروبية وتم نشر صورهم عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي تطالب سلطات الدول التي وصلوا اليها بمحاسبتهم بسبب ارتكابهم جرائم ضد المدنيين.

تداعيات خطيرة

لا يخفي سكان المناطق المحررة خوفهم من تداعيات الهجرة واللجوء باتجاه الدول الاوروبية وانعكاسها سلبا على الثورة السورية، حيث ارتفعت في الاونة الاخيرة أصوات منددة بتلك الهجرة واللجوء وحثهم على عدم ترك الثورة وخاصة عبر المنابر والزيارات الاجتماعية أو المراكز الثقافية.

فقد لوحظ أن معظم المهاجرين هم من فئة الشباب واليافعين اي بعبارة ثانية من اطلق شرارة الثورة في سوريا، إضافة لعوائل تقطعت بهم السبل.

لكن مع ذلك لا يزال كثير من الشباب السوريين متمسكين بالثورة حتى الرمق الأخير.

يوسف الهادي مقاتل في جيش الفتح ترك دراسته والتحق بالثورة منذ سنتين يقول لـ"إيلاف": "على الجميع أن يبقى ويكون مع الثورة لمواجهة هذا الظلم والقتل وخاصة بعدما تخلى العالم عن السوريين، علينا أن نعرف أنه لا احد يمكن أن ينهي الأسد ومن معه سوى سواعدنا وبنادقنا، يجب علينا أن نضحي ولو بمستقبلنا كشباب حتى ينال اطفالنا الحرية والعيش الكريم".

لكن ثمة من يجد أن هذه الهجرة مشروعة وأن الثورة السورية في مراحلها الاخيرة من الانتصار وأن هجرة بعض الشباب ما هي الا "غربلة" فكما يرحل الكثير هناك ايضا من هو باتجاه سوريا ومن شبابها المغتربين سابقا للالتحاق بالثورة.

الحل منطقة عازلة

ما يزال السوريون في طريقهم إلى الدول الاوروبية برًا وبحرًا، ومنهم من هو عالق في البحر أو مات غرقًا في أثناء هربه من الموت وبحثه عن الأمان.

لكن، رغم ذلك، فإن معظم من التقتهم "إيلاف" في الداخل السوري أو الذين لجأوا وتم التواصل معهم عبر وسائل الاتصال، أجمعوا على أن السبب الرئيس للهجرة واللجوء هو البراميل المتفجرة والقصف المستمر، وخصوصًا مع التدخل الروسي، مطالبين باسقاط نظام الأسد أو إقامة منطقة عازلة تحميهم من حمم القذائف والبراميل والصواريخ الفراغية، وتنهي معاناة الشعب السوري في النزوح واللجوء والهجرة، حينها فقط سنجد هجرة معاكسة باتجاه سوريا، كما يقولون.