الحراك المدني اللبناني مستمر، والسلطة مستمرة أيضًا في تخريبه، والسؤال: من يصبر على عض الأصابع اللبناني؟ هذه مشاهدات من مشارك في تظاهرة السبت الحاشدة.
غاندي المهتار: عصر السبت، كانت التظاهرة في أوجها أمام وزارة الداخلية اللبنانية، تهوج وتموج بآلاف مؤلفة من الشباب اللبناني، يتظاهرون لأول مرة في تاريخ لبنان خارج الدعوات السياسية والطائفية. فلا كان عنوان التظاهرة "حرية وسيادة واستقلال"، ولا كانت تظاهرة شكر لسوريا أو غيرها، ولا لبّت أمنيات 14 آذار ولا فرمانات 8 آذار، إنما خرج اللبنانيون على كل القيود الطائفية كي يقولوا "لا" مدوية لفساد أكل حياتهم وبلدهم، وأوصل القمامة إلى أبواب منازلهم.
كرنفالية الرفض
سارت التظاهرة هادرة نحو ساحة الشهداء في وسط بيروت التجاري، ينضم إليها الناس من يمين ومن يسار ومن وسط، تركوا انتماءاتهم الطائفية وزعاماتهم المتوارثة في بيوتهم، وخرجوا انتصارًا لمستقبل أولادهم.
في ساحة الشهداء، لم يكن ثمة تظاهرة واحدة موحدة، بل كانت باقة من ميني-تظاهرات، تكبر وتصغر بحسب الشعارات التي ترفعها هذه المجموعة أو تلك، أكبرها حشدًا كانت لحملة #طلعت_ريحتكم، وبعدها لمجموعة #بدنا_نحاسب و#حلو_عنا... لكن الأغنيات الأجمل كانت تبثها مجموعة #كلن_يعني_كلن. أحيانًا، تتعارض الأغنيات، وتحتلف الأمنيات، منها الفردي الخاص، ومنها العام الجامع، فمن النازلين #عالشارع من يريد كهرباء وماء ونظافة، ومنهم من يريد بيع سيارته، ومنهم من نزل ليرمي الطبقة السياسية بأقذع الشتائم.
لكن البعد الرابع للتظاهرة كان عفويتها، وكرنفاليتها، الشبيهة قليلًا بكرنفالية الحراك الأوكراني في أوله قبل أن يتحوّل إلى حرب شبه أهلية، وكل الخوف هنا أن يتحول الأمر إلى حرب أهلية.
ثمة جامع لبناني اليوم خارج قيود الطوائف. إنه الشعور بأن الشعب ما عاد قادرًا على تحمّل أعباء صفقات وفضائح أمراء الحرب اللبنانية وأولادهم وأحفادهم، الذين تحولوا مع السلم الأهلي إلى حكام لمدى العمر، وأتت أزمة النفايات قشة قصمت ظهر بعير المجتمع المدني اللبناني.
شفت شو كتار؟
الاستماع إلى الناس في تظاهرة 29 آب (أغسطس) ممتع، خصوصًا أن الشباب يتحرك لأول مرة في حياته نابذًا موروثه الديني الطائفي المناطقي، ومفضلًا الدخول في بوتقة لبنانية عامة. الاستماع إليهم وهم يتأملون الحشد، الذي يقدر بأكثر من 120 ألفًا، متعة إذ يشعرون بأنهم شريك في هذا الانجاز، ولو كان تعريف الانجاز في هذه اللحظة محصورًا بـ "شفت شو كتار؟".
لا يريد الناس هنا أن يسمعوا كلمة سلبية عن التظاهرة، فهي ناجحة جدًا بمقاييسهم، وبمقاييس شريحة واسعة من الشعب اللبناني، لأن هذا الحراك الذي يكبر ككرة ثلج أربك السلطة اللبنانية فدفعها إلى أربعة قرارات متناقضة في يومين: القبول بمناقصة النفايات ثم إلغاؤها، تثبيت جدار الفصل في وسط بيروت ثم خلعه.
كما تمكن هذا الحراك، وهذه من المسلمات فعليًا وهذا فضله الحقيقي أيضًا، من تخويف الطبقة السياسية الحاكمة، ودفعها إلى إعادة حساباتها، طالما أن في ساحتي الشهداء ورياض الصلح كتلة بشرية كبيرة جدًا، إذا ما قيست بمدنيتها، خرجت على قوانين الطوائف، وكوّنت رأيًا عامًا خاصًا بها، واتخذت قرارها بالتحرك، وتحركت وأبقت الزعماء على الهامش.
التراكم مطلوب
يسأل البعض أنفسهم هنا: "كيف نحمي حراكنا من مصادرة القوى المؤلفة لهذه السلطة اللبنانية الفاسدة؟". لكن ثمة شباب سبقوا الحراك تفكيرًا، يسألون: "كيف نكسر خطوط دفاع نظام المحاصصة الطائفية ونصيبه في صميمه؟" كلمة السر: التراكم.
الشباب هنا أخذوا على محركي الحراك أمرين اثنين: أولًا، لماذا ننتظر السبت لنحتشد في المكان؟ لم لا يتراكم الحراك يوميًا ليكيل الضغوط أكثر على النظام؟
ثانيًا، لم نقلنا حراكنا من ساحة رياض الصلح، القريبة من السرايا الحكومي والبرلمان، إلى ساحة الشهداء الأبعد نسبيًا عن خطوط التماس مع السلطة وأدواتها الأمنية؟
الحماسة تزرع الحمية في الرأس، وتدفع الشباب إلى مواقف متهورة، ولو بالمعنى السلمي. فأرباب الحراك لا يتحلون بخبرة السلطة أو الأحزاب في إدارة الحشود، وهذا يحسب لهم لا عليهم، وهمهم الأول، حتى قبل طرح المطالب، هو إنجاح الحشد وتأمين الناس من أي خطر، أأتى من السلطة أو من أدواتها أو من موجات المتسببين بالحوادث الأمنية، أكانوا "مندسين" أو "معثرين لا يعرفون وسيلة احتجاج إلا الحجر والمولوتوف".
لذا، يترك أهل الحراك أيامًا ليلتقطوا الأنفاس. وكان قرار نقل التحرك إلى ساحة الشهداء لتخفيف الاحتقان الذي لا يجد متنفسًا له إلا بوجه قوة مكافحة الشغب، ما يجعل الحراك الفعلي عرضة لخطر التشهير بالتخريب، وهذا هيّن طالما أن للقوى المهيمنة على السلطة في لبنان وسائل إعلامية لا تغادر فرصة إلا تنتهزها كي تشهر بالحراك، وتتهمه بتخريب "وسط بيروت".
سم في دسم
من يتابع أرباب السلطة اللبنانية اليوم، وفي مقدمهم النائب وليد جنبلاط، يراهم يتسابقون للتمسح بجوخ الحراك، وتوجيه النصائح للمحتجين "كي لا يصادر أحد حراكهم". حتى يخيل للبعض في لبنان أن الزعماء الذين يقوم الحراك ضدهم قد وقفوا معه ضد أنفسهم، في حالة انفصام سياسي غير مستغربة في لبنان.
فالحشد السبت كان مهولًا، دفع بالسلطة اللبنانية، بكل مكوناتها، إلى البحث عن مخرج لها من مأزق ما، حتى لو كان بعد بعيدًا عن التأثير الفعلي في مسيرتهم المليئة بالصفقات. وما إبداء الخوف على هذا الحراك إلا من باب دس السم في الدسم، ليس إلا.
وما دعوة رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، في مهرجان تغييب الامام موسى الصدر، إلى حوار يقتصر على رؤساء الكتل والقوى السياسية، إلا دعوة لإعادة التعاضد بين مكونات النظام الطائفي اللبناني، في خطوة مضادة لحراك بدا لوهلة أولى يسحب البساط الطائفي الضيق من تحت أقدام الجميع، خصوصًا أن الحراك لا يستثني أحدًا.
وما المشكلات التي صارت السبت مساءً في ساحة الشهداء، بسبب رفع صورة حسن نصرالله، أمين عام حزب الله، بين صور مكونات السلطة الفاسدة إلا تأكيد على أن هذه السلطة مستعدة لفعل أي أمر متاح لها كي تخرب الأمر برمته، علمًا أن مخربي الحراك معروفو الانتماء.
وحتى دخول العونيين على خط التخريب بنشر آراء خاصة لأحد منظمي هذا الحراك المدني من أجل شيطنته وشيطنة الحراك برمته دليل على تهافت هذه الطبقة السياسية الحاكمة، وعلى ضعف حجتها.
أمر جديد
ما يحصل اليوم أمر جديد كليًا على المجتمع اللبناني، ربما شهد سابقة له، لكن مسيسة، في 14 آذار (مارس) 2005، بعد اغتيال رئيس الحكومة اللبناني رفيق الحريري، حين اجتمع اللبنانيون من مختلف انتماءاتهم، إلا المنتمين إلى حزب الله والقوى المؤيدة للنظام السوري، على هدف واحد هو طرد العسكر السوري من الأراضي اللبنانية.
كانت حينها حركة احتجاج 14 آذار في بدايتها وعز عنفوانها، مدفوعة بدم الحريري المراق على رصيف بيروت. كان الطرح حينها سياسيا صرفا، يرفع لواء الحرية والسيادة والاستقلال. كان لقوى 14 آذار ما أرادت، فبدأ تقهقرها حتى تبدّدت.
وفي ساحة الشهداء وجوه كثيرة شاركت في تحركات 14 آذار، إلى أن عافت سياسة التصنيف الضيقة، والانقسام العامودي اللبناني الذي كاد يؤدي عبثًا إلى حرب أهلية في 7 أيار (مايو) 2008.
اليوم، جمهور 14 آذار "سابقًا" موجود هنا بكثافة، بينما احزاب 14 آذار مقاطعة، بل تقف في وجه الحراك لأنها جزء من السلطة. وإلى جانبهم شريحة عريضة من جمهور 8 آذار، وخصوصًا من الشيعة الذين ساقهم نصرالله إلى الموت في سوريا، وكم أفواه من اعترض منهم، ورماهم بألفاظ عدة مثل "شيعة السفارة".
فصل الخطاب
كلمة أخيرة. الخطاب في ساحتي الشهداء ورياض الصلح ضائع قليلًا. الشباب يهتف عاليًا "الشعب يريد إسقاط النظام"، وفي المعنى أنهم يريدون الخلاص من هذا النظام الطائفي. وإلى جانبهم من يريد فقط تقسيط المطالب، واحدًا بعد آخر، بداية بأزمة النفايات وصعودًا، من دون رفع سقف المطالب إلى حد المطالبة باستقالة الحكومة اللبنانية، لأن هذه الدعوة كفيلة بإخافة شريحة لبنانية واسعة من وقوع البلاد في براثن الفراغ الكلي، طالما أن لا رئيس للجمهورية، وأن مجلس النواب مشكوك في شرعيته ومحكوم بمزاجية رئيسه.
الجدل مستمر هنا، ولو كان خافتًا. لكن المطالب التي قدمها المسؤولون عن الحراك السبت، كاستقالة وزير البيئة المسؤول عن ملف النفايات، ووزير الداخلية المسؤول عن القمع والقوة المفرطة التي واجهت بها السلطة الأمنية المتظاهرين في الأسبوع الماضي، والاسراع في انتخابات نيابية، تنتج سلطات جديدة تتولى انتخاب رئيس، وبالتالي تنتج سلطة تنفيذية جديدة، مطالب يجتمع عليها اللبنانيون اليوم... وماذا عن مهلة 72 ساعة لتنفيذ المطالب، تنتهي الثلاثاء؟ سؤال يصعب الجواب عليه اليوم.
لكن، أين قانون الانتخاب الذي لا يعيد إنتاج هذه السلطة نفسها؟ لذا، كلمة السر التي يتوافق عليها كل الحراكيين هي "النسبية"، التي تخرج لبنان من دائرة الطائفية الضيقة... فهل من أمل؟
الجموع المحتشدة، والتصميم على العودة إلى الشارع الثلاثاء، وكلما دق النفير، أدلة على أنه.. "إيه في أمل"... وللبحث صلة.
التعليقات