في خطوة وصفت بأنها باكورة لظهور مجسمات جمالية جديدة في مدينة جدة السعودية، بعد سنوات من الإزالة وتغيير أماكن المجسمات القديمة بسبب مشاريع الجسور والأنفاق، تم هذا الأسبوع نصب مجسم فني جديد، من تصميم الفنانة السعودية مها الملوح، وذلك ضمن مبادرة "الفن جميل" التي تكفلت بإعادة ترميم المجسمات القديمة ونصبها في أماكن جديدة.

جدة: المجسم الجديد، الذي سمي غذاء للفكر "أبراج"، تم نصبه في "المتحف المفتوح" في الكورنيش البحري، وهو المقر الجديد للمجسمات التي تم تغيير مكانها، حيث كانت السلطات البلدية قد أزالت في العام 2011 العديد من المجسمات المنصوبة على شاطئ البحر، بسبب اعتراضها خط سير عمل مشروع تطوير الكورنيش، حيث تم نقلها إلى المتحف المفتوح بعد عمليات صيانة، وتم الاستغناء عن بعضها بسبب ضعف مستواها الفني.

إعادة إحياء
يعود معظم تلك المجسمات إلى فنانين عالميين وعرب، من أبرزهم البريطاني هنري مور، والفرنسي فيكتور فزارالي وسيزار، والإسباني جوان ميرو، & &والأميركي ألكسندر كالدر، والألماني جين آرب، وغيرهم، حيث خضعت تلك المجسمات لورشة صيانة، بتمويل من مبادرة "الفن جميل"، والتي كلفت شركة بريطانية متخصصة بفك المجسمات وصيانتها، ومن ثم إعادة تركيبها على قواعد جديدة في المتحف المفتوح، مع تركيب إضاءات ولوحات تعريفية عليها، فيما تمت صيانة المجسمات الكبيرة في مواقعها نظرًا إلى صعوبة تفكيكها ونقلها.

لا تكمن أهمية المجسم الجديد "غذاء للفكر" - "أبراج" الذي تم بناؤه من أوعية الطهي والقدور التي كانت تستخدم لطهي الأرز في إقليم الحجاز، في كونه عملًا فنيًا سعوديًا خالصًا، بل أيضًا كونه يعتبر باكورة المجسمات الفنية المهداة إلى مدينة جدة، وذلك بعد سنوات عجاف من عمليات إزالة واستغناء وانتقالات، تعرّض لها الكثير من المجسمات الفنية في المدينة، حيث أصبحت أثرًا بعد عين.

يعود تاريخ المجسمات في جدة إلى بداية الثمانينات، حيث أنشأ المهندس محمد سعيد فارسي، أمين أمانة جدة في ذاك الوقت، نحو 620 مجسمًا، معظمها جلب من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، واستخدم في تصميمها شتى المدارس الفنية المعروفة، هذا فضلًا عن مجسمات عملاقة، مثل الدراجة والفلك والسفن والطائرة، نصبت في التقاطعات والميادين العامة، بعضها تم تسجيله في موسوعة غينيس، وذلك قبل أن يتم تقليص هذه المجسمات، بسبب مشاريع الجسور والأنفاق وتطوير البنى التحتية.

ذاكرة ممسوحة
الإزالات والتغييرات التي طالت المجسمات الفنية لاقت استهجانًا من عدد من الفنانين في جدة، حيث قال الفنان السعودي، حمزة صيرفي، عضو المجلس الفني السعودي، إن زوال بعض المجسمات الفنية، التي مثلت علامة فارقة في جماليات جدة، هو بمثابة زوال لكثير من ذكريات سكان المدينة، مشيرًا في حديثه لـ "إيلاف" إلى أنه يأمل أن تمنح المجسمات الجمالية الاهتمام اللائق بها، لكونها تمثل تراثًا فنيًا، و تعتبر واجهة سياحية جاذبة للسياح والزوار، وحتى لا تتحول المدينة إلى مدينة صامتة، وإلى مجرد شوارع وأنفاق وجسور، ليس فيها أي إبداع أو ذوق.

في الجانب المقابل، يؤكد القائمون على مشاريع التطوير أن إزالة &المجسمات جاء لحاجة ماسّة، حيث قال الدكتور عدنان البار، نائب رئيس المجلس البلدي في جدة، إن التنامي الكبير في عدد السكان والكثافة المرورية أجبرا المشاريع التطويرية على إزالة &بعض تلك المجسمات، لا سيما أنها كانت تستحوذ على مساحات شاسعة في التقاطعات وتسبب الزحام، مشيرًا في حديثه لـ "إيلاف" إلى أن بعض المجسمات الفنية يتم نقلها إلى مناطق أخرى بعد تطويرها وصيانتها. أما المجسمات التي لا تحمل قيمة فنية فيتم الاستغناء عنها.

بالعودة إلى مجسم "غذاء للفكر" أبراج، وهو الوافد الجديد إلى عالم المجسمات الفنية في جدة، فقد تم بناؤه من أعمدة &الألومنيوم، عبر استخدام قطع من أواني الطهي، التي تم جمعها من أسواق الحراج.&

رمزية تاريخية
وتقول مصممة العمل الفنانة السعودية مها محمد الملوح، لـ "إيلاف" إن المجسم ذو رمزية ودلالات تاريخية، حيث يعكس الروايات والأقاصيص والطرائف التي كانت تحضر دائمًا مع تسامر النساء حول قدور الطبخ، وبالتالي تدخل هذه الأواني ضمن مفردات التاريخ العربي لكونها شهادات ملموسة على تلك السير الشخصية.

الفنانة السعودية مها الملوح، التي بدأت أعمالها الفتية من الكولاج (فن اللصق) مرورًا بالفوتوغرام (الرسم الضوئي بدون استخدام الكاميرا) وصولًا إلى المجسمات، قالت إنها تتمنى أن يكون "غذاء للفكر" باكورة أعمال ومجسمات فنية قادمة من فناني&الوطن وشبابه.

صونًا للهوية
أضافت: "هذا ما نحتاجه في مجتمعنا، فقد ترك الأجداد حصيلة من الإرث، والطريقة الوحيدة للحفاظ عليه هو تطويره، بواسطة&التعبير بالفن التشكيلي في أعمال إبداعية، حتى لا تضيع الهوية، خاصة في زمن هيمنت الثقافات الأخرى الغازية بوسائل التواصل المختلفة". & &

تجدر الإتشارة إلى أن غالبية المجسمات التي كانت منصوبة على الكورنيش البحري في جدة وفي أماكن أخرى، تمت إعادة نصبها في "المتحف المفتوح" الذي يضم حتى الآن 26 مجسمًا جماليًا عالميًا، هذا ويعتبر المتحف المفتوح الذي تم تدشينه في آذار/مارس 2014 أول متحف مفتوح للمجسمات الجمالية في السعودية، ويقع بين مسجد العناني الشهير وقصر السلام للضيافة على مساحة سبعة آلاف متر مربع، وقد استغرق إنشاؤه ثلاث سنوات، حيث أخذت المجسمات الفنية التي تم تفكيكيها وقتًا طويلًا لصيانتها، ونقل بعضها إلى خارج السعودية لإعادة صيانتها.