تعتبر الدولة التركية نموذجًا لتعدد الهويات، حيث عاشت منذ تأسيسها على يد مصطفى كمال أتاتورك على التنوع العرقي، فبحكم امتداد الدولة العثمانية على 3 قارات، تتنوع أعراق تركيا بين الأتراك الذين يشكلون نحو 70% من السكان، والأكراد الذين يشكلون نحو 20% من السكان، والأرمن والتركمان والآشوريين واليونانيين والألبانيين والبوسنيين والبلغار والجورجيين والشركس والشيشان والعرب وغيرهم من الأعراق.&

إيلاف من بيروت: مع أن لكل مدينة تركية وإثنية أو عرق هوية خاصة بها، إلا أن الجميع في النهاية أتراك، ولقد شهدت الدولة التركية الكثير من التغييرات الإيديولوجية من أتاتورك إلى أردوغان، حيث صعد الأخير على عرش تركيا رغم الكثير من التجاذبات الداخلية والعالمية حوله، إلى أن أصبح ظاهرة سياسية ومحل جدل، وأخذ ورد ودفاع وهجوم في العالم أجمع، وهو من اقتلع تركيا القديمة، ونشر تركيا الجديدة، إلى أن شاع مصطلح الظاهرة الأردوغانية.

تركيا القديمة

ربط أردوغان بين تركيا، التي كانت سائدة قبل وصول حزب العدالة للحكم في العام 2002، وتلك التي كان يتطلع منافساه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة إلى إقامتها في حال فوز أي منهما، واصفًا كلتيهما بـ"تركيا القديمة"، التي كانت تموج بالتسلط والإنقسامات والمؤامرات والصراعات الداخلية إلى حدٍّ كبّلها عن الانطلاق نحو غد مشرق، كما عرقل ترسيخ الديمقراطية والاستقرار في ربوعها.

توخيًا لطيّ صفحة ما وصفه بـ"تركيا القديمة"، التي اعتبر أن حزبَي الشعب الجمهوري والحركة القومية المعارضيْن، اللذين رشّحا أكمل الدين إحسان أوغلو للرئاسة، تحالفا لأنهما يريدان العودة إليها ومواجهة التغيير الذي يقود إلى تركيا الجديدة، من خلال الابتزاز والمؤامرات، بعدما لم ينجزا أي شيء خلال مشاركتهما في الحكومات السابقة سوى دمار ودموع وظلم وفقر وأزمات اقتصادية؛ دشن أردوغان حملته الرئاسية بشعار براق هو "تركيا جديدة 2023"، طوى بين ثناياه ملامح جمهوريته الجديدة، التي يسعى إلى إرساء دعائمها بعد تعظيم صلاحيات رئيس الدولة، والبقاء لمدتين رئاسيتين، كلٌّ منهما خمس سنوات.

وفي آخر خطاب له خلال حملته الإنتخابية في مدينة قونية في وسط تركيا يوم التاسع من أغسطس، حاول أردوغان تفنيد مثالب "تركيا القديمة" من خلال تسليط الضوء على مزايا ومناقب "تركيا الجديدة".

وقال في خطاب النصر الذي ألقاه من شرفة مبنى حزب العدالة والتنمية في أنقرة أمام نحو 200 ألف من أنصاره: "فلنبدأ فترة مصالحة اجتماعية جديدة اليوم، ولنترك المناقشات القديمة في تركيا القديمة". وتعهد بمنع الإلتفاف على الديمقراطية.&

ملامح تركيا الجديدة

حدد أردوغان أبرز معالم تركيا الجديدة، والتي تتمثل في إنتخاب الشعب رئيسه للمرة الأولى بالاقتراع العام المباشر، وليس من خلال اقتراع غير مباشر داخل البرلمان، حيث يعتبر أردوغان إجراء كهذا بمثابة خطوة أولية جوهرية على طريق تركيا الجديدة، الأكثر ديموقراطية ومؤسسية، والتي تحقق مبدأ توكيد السيادة للشعب.&

وعمد إلى جانب ذلك توسيع صلاحيات رئيس الجمهورية. فإبان إلقائه خطاب ترشحه، أعلن صراحة نيته تخطي سلطات رئيس الجمهورية التقليدية، سواء من خلال العمل على تعديل الدستور، أو عبر فرض أمر واقع، بصفته الرجل الأقوى في الحزب الحاكم، الذي وقع نوابه في البرلمان الـ311 جميعًا خطاب ترشيح أردوغان، مع أنه يكفي 20 توقيعًا فقط ليصبح الترشيح قانونيًا. وقبيل ساعات من بدء الاقتراع وجّه أردوغان واحدًا من أقوى نداءاته للشعب مطالبًا إياه بقبول النظام الرئاسي.

ومنذ عام 2002 وحتى العام 2014 فاز أردوغان وحزبه في تسع استحقاقات إنتخابية ما بين برلمانيّة ومحليّة ورئاسيّة وبنسب أصوات متنامية، هذا علاوة على تغيير الفترة الرئاسية من ولاية واحدة فقط للرئيس، مدتها سبع سنوات، إلى ولايتين متتاليتين، مدة كل منهما خمس سنوات، ومن ثم يرون أنه من غير الإنصاف أن يبقى منصبه شرفيًا وفخريًا!.

أردوغان والديمقراطية

لقد نشب الكثير من اللغط حول أردوغان والديمقراطية إلى أن ذهب الغرب إلى حثه على عدم انتهاج استراتيجية القمع ووقف المناقشات الديمقراطية في بلاده، وعلى الرغم من فوز أردوغان بالانتخابات الرئاسية بحصوله على نسبة 52 % من الأصوات، إلا أنه لا بد من التنبه إلى أن 48 % من الناخبين ضده، كما إنه لا يمكن الخلط بين الشعبوية والديمقراطية، فلا يمكن لزعيم سياسي يكمم الأفواه، ولا يحترم الدستور ولا القانون، أن يكون رئيسًا ديمقراطيًا محترمًا لأنه "محبوب" أكثر من غيره من الزعماء السياسيين.&

والجميع يذكر كيف قمع أردوغان المتظاهرين عندما بدأت الإحتجاجات تنديدا بخطة إزالة منتزه جيزي، حيث استعمل نظام أردوغان كل أساليب قمع المتظاهرين، وظهر بمظهر بعيد عن الديمقراطية التي ينادي بها مذ استلام الحكم، وبدلا من أن يمثل الرئيس وحدة الإرادة الوطنية، عمد أردوغان إلى تمثيل نفسه حيث ذكر أحد الصحافيين في مقاله: "مصير تركيا هو جزء لا يتجزأ من مصير اردوغان"، كما وأعلن أحد مستشاري أردوغان أخيرًا: "لا ينبغي لأحد أن يعمل في السياسة التركية بإستثناء أردوغان".

بين العلمانية والإسلام

إن الصراع بين العلمانية والإسلام السياسي في تركيا ليس بجديد، فقد تجذر بعد تأسيس الجمهورية التركية عام 1923 على يد مصطفى كمال اتاتورك، وأصبح من أهم معالم الحياة السياسية في البلاد طوال العقود الماضية.

ولقد سعت القوى التي تبنت العلمانية إلى اقتلاع الإسلام من ذاكرة الأتراك وهوية تركيا، عبر سلسلة إجراءات قسرية حاولت من خلالها تحقيق هذا الهدف، في المقابل فإن قوى الإسلام السياسي ظلت تقاوم هذه الإجراءات وتحاول انتهاج الآليات الممكنة للحفاظ على الهوية الحضارية والثقافية لتركيا.

ولقد وصف أحد الباحثين المتخصصين بالشأن التركي دعوة رئيس البرلمان التركي إسماعيل قهرمان إلى دستور ديني لتركيا بالتصريح الأخطر في تاريخ الجمهورية التركية، إلا أن تدخل أردوغان السريع كان لافتًا، خاصة مع تنصله من تصريحات قهرمان، عندما قال إن تصريحات قهرمان تعبّر عن رأيه الشخصي، وليس عن الحكومة وحزب العدالة والتنمية، وإن الدولة يجب أن تقف على مسافة واحدة من جميع العقائد الدينية.

وقد أعاد موقفه هذا التذكير بالتصريحات التي أدلى بها خلال زيارته مصر عام 2011 عندما قال: "في تركيا هناك دستور علماني، تقف الدولة من خلاله على مسافة متساوية من جميع الأديان، والعلمانية لا تعني الإلحاد بالتأكيد، وأنصح باعتماد دستور علماني في مصر"، وقد فهم يومها من تصريح أردوغان أنه يريد تسويق النموذج التركي لمصر ما بعد الثورة، على أساس أنه وفق بين الإسلام والعلمانية والاقتصاد، وهو ما قوبل باستياء من قبل العديد من القوى الإسلامية في مصر، بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين، التي طالبت حينها أردوغان بعدم التدخل في الشؤون الداخلية المصرية وأعلنت رفضها استيراد التجارب والنماذج من الخارج.

وعلى غرار تصريحات أردوغان، حاول كبار قادة حزب العدالة والتنمية، بمن في ذلك قهرمان نفسه، التخفيف من تداعيات دعوته، بالقول إن القصد من الدعوة كان إعادة دراسة وضع العلمانية في الدستور، وليس إبدال العلمانية بدستور ديني، على اعتبار أن الاقتصار على حصر الدستور بالعلمانية لا يعبّر بشكل دقيق دقيق عن واقع الحال، وأن العلمانية تبقى جزءًا من الدستور.&

على مفترق الإتحاد الأوروبي

تسعى تركيا منذ سنوات طويلة إلى الانضمام إلى الاتحاد، ويشكو الأتراك مما يسمونه "مماطلة" بروكسل، وعبّر أردوغان عن غضبه إزاء تعامل الاتحاد مع أنقره بالقول إن تركيا يمكن أن تنظم استفتاء، على طريقة الاستفتاء البريطاني، يقرر فيه الأتراك ما إذا كانوا يريدون مواصلة مساعيهم الى الانضمام إلى الاتحاد أم التوقف عنها.

وقال أردوغان "يمكن أن نطلب من الناس أن يصوتوا كما يفعل البريطانيون. يمكن أن نسأل هل نستمر في المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي أم نوقفها. وإذا ما صوّت الناس بالاستمرار سنفعل ذلك"، وأضاف أردوغان القول إن الاتحاد الأوروبي لا يريد أن يقبل تركيا كعضو فيه لأنها "دولة معظم سكانها من المسلمين".

وقال أردوغان إن تركيا وُعدت بالعضوية منذ عام 1963، ولكن وبعد 53 عامًا لم يحدث شيء. وتساءل "لماذا تماطلون؟"، وكان اتفاق عام 1963 هو الأول بين بروكسل وأنقرة، ونص على أن تسعى تركيا الى الانضمام إلى التكتل الأوروبي. وتقدمت تركيا بطلب الانضمام عام 1987، وبدأت في مفاوضات الانضمام عام 2005، إلا أن طلب عضويتها تعطل بسبب العديد من المشكلات.

وأدت إثارة مسألة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، في الاستفتاء البريطاني حول بقاء بريطانيا أو خروجها من الاتحاد، إلى إثارة غضب تركيا بسبب تعليقات لندن، التي أشارت إلى أن تركيا ليس لديها أمل حقيقي في الانضمام إلى الاتحاد على المدى المتوسط.

وكان رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون قد قال إنه "ليس هناك احتمال ولو ضئيل" في عضوية تركيا في الاتحاد، وإن هذا لن يحدث قبل عام 3000، وأسفرت الحملة التي صاحبت الاستفتاء في بريطانيا، إضافة إلى بروز اليمين الشعبوي في أوروبا، إلى تضاؤل أمال تركيا في دخول الاتحاد الأوروبي، وأدى ذلك إلى تجاهل أردوغان لانتقادات الاتحاد الأوروبي، وإضعاف الاصلاحات التركية.

ولا تبدو هناك مصلحة مباشرة لتركيا أو الاتحاد الأوروبي في وقف مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد التي بدأت منذ أكثر من 10 أعوام. ويبدو التعامل بين الطرفين، في المرحلة الحالية، قائمًا على الاحتياج المتبادل في قضايا مثل الهجرة والتجارة والأمن، أكثر منه على أساس التحول التركي نحو النمط الأوروبي في الديمقراطية والحقوق الأساسية.

إن عهد رئيس حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان قلب موازين الدولة التركية، وعلى الرغم من المعارضة للنظام الأردوغاني، إلا أن بعض الأتراك يرددون أن تركيا لم تعد بحاجة إلى نظام علماني، بقدر حاجتها إلى دستور ينسجم والهوية التركية، التي هي مزيج بين الإسلام والعثمانية، ومما لا شك فيه أن المعركة بالنسبة الى أردوغان وحزب العدالة والتنمية هي معركة التخلص من جمهورية أتاتورك التي وضعت تركيا في قطيعة وعداء مع بنيانها الحضاري والإسلامي والانتقال إلى تركيا فاعلة ومؤثرة في محيطها الإسلامي.