فجرت الملكة الأردنية العبدالله قنبلة دقت فيها "ناقوس الخطر" وفتحت كل ملفات العملية التعليمية والتربوية وتفشي (الأمية) في المملكة الهاشمية التي تباهي بأنها الأقل نسبة أمية في العالم العربي. كما أيّدت الدعوات إلى إعادة النظر في المناهج الدراسية.

إيلاف من لندن: رعى العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني والملكة رانيا، يوم الإثنين، الاحتفال بإطلاق الاستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية، حيث قدمت اللجنة الوطنية الخاصة بذلك توصياتها المستقبلية لتطوير قطاع التعليم في المملكة والموارد البشرية بشكل عام.

ويشكل إطلاق الاستراتيجية، الذي عقد في مجمع الملك الحسين للأعمال بداية لتنمية شاملة للموارد البشرية وفق برامج وخطط قابلة للتطبيق، مؤشرات قياس واضحة، تمهيداً لإقرارها من قبل مجلس الوزراء، لتصبح نهجاً ثابتاً وراسخاً للحكومات المتعاقبة.

العاهل الأردني وحشد من المسؤولين خلال اطلاق الاستراتيجية

&

منظومة متكاملة

وكان العاهل الأردني وجه في مارس من العام الماضي رسالة إلى الحكومة لتشكيل لجنة وطنية لتنمية الموارد البشرية، تسهم في تطوير منظومة متكاملة واستراتيجية شاملة وواضحة المعالم لتنمية الموارد البشرية، وتؤطر عمل القطاعات المعنية بالتعليم.

وقال تقرير لوكالة الأنباء الأردنية (بترا) إن مهام اللجنة تنسجم مع مخرجات الرؤية الاقتصادية للسنوات العشر المقبلة (2015-2025)، والخطة التنفيذية للاستراتيجية الوطنية للتشغيل، والبناء على الجهود والدراسات السابقة، وصولاً إلى تنمية بشرية لبناء قدرات أجيال الحاضر والمستقبل، وتسليحهم بأفضل أدوات العلم والمعرفة.

كلمة الملكة&

وألقت الملكة رانيا العبدالله، خلال حفل الإطلاق، كلمة شاملة شخصت فيها واقع التعليم في الأردن وما يواجهه من تحديات، حيث وضعت الجميع أمام مسؤولياتهم للمشاركة في تشكيل مستقبل أبناء وبنات الأردن.

وقالت: نجتمع هنا اليوم لمناقشة التعليم، ذلك الملف الذي كثر الحديث فيه، واختلفت الآراء حول التعامل معه، لكن لم يكن الاختلاف في يوم على أهميته، لأن التعليم يمس كل بيت أردني؛ لكل منا ابن أو بنت، حفيد أو حفيدة، طفل قريب أو عزيز يذهب إلى المدرسة كل يوم، نجتمع من أجلهم، ليس لتقاذف اللوم. تحديات التعليم كثيرة ومتشابكة؛ لا يوجد جهة واحدة مسؤولة عن المشكلة، لكننا جميعا نتحمل مسؤولية حلها.

المواجهة لا التجاهل&

وأضافت الملكة رانيا: سيدي صاحب الجلالة، أهم ما علمتنا، هو أن أقصر السبل لحل المشاكل: المواجهة، لا التجاهل، أن نرى الأمور على حقيقتها لأن تجميل المشاكل يأتي في المحصلة على حساب أجيال الأردن، وهذا ما لا تقبله أبدا، أنت من يدعونا دائما لرفع الرأس حتى نرى بوضوح فرصا غالبا ما تختبئ في طيات التحديات.

وقالت: أدرك أن واقعنا صعب، ومحيطنا أصعب، على الرغم من ذلك، أملي - بل إيماني - كبير أننا نستطيع أن نحول مجرى تاريخنا، ليس عن طريق ثورات أو معونات أو اكتشاف ثروة طبيعية أو حتى كنز مدفون يحلم به الكثيرون، فالكنز الحقيقي موجود حولنا ولا داعي للحفر والبحث، الكنز مدفون في عقول أبنائنا وعلينا أن نستخرجه.

لحسن حظنا، الموهبة الآن هي أغلى سلعة في عالمنا، المعرفة، الإبتكار، التكنولوجيا هي مقومات النجاح لأي دولة، ولسنا استثناء، كل ذلك في متناول أيدينا إن استثمرنا في التعليم، اليوم، ليس غدا، فلا يقف بين حاضرنا والمستقبل الذي نطمح إليه إلا أنفسنا.

أول خطوة&

وتابعت: لنأخذ أول خطوة في أقصر السبل، وننظر بعين الناقد إلى حاضر تعليمنا، 150 ألف طفل يسجلون في الصف الأول الابتدائي كل عام، ماذا نقدم لهم؟ ما شكل رحلتهم في منظومة التعليم الأردنية؟.

90 بالمئة من تطور الإنسان الدماغي يحدث قبل سن الخامسة، لكن في الأردن نسبة قليلة يحظون بتعليم مبكر: 2 بالمئة ممن هم دون سن الثالثة، و28بالمئة تقريبا ما بين سن الثالثة والخامسة، بالمقابل تصل نسب إلتحاق أقرانهم في دول منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي إلى أضعاف ذلك.

بعدها يأتي يوم المدرسة الكبيرة الأول؛ وتلمع عيون الصغار من الحماسة والرهبة في آن واحد، يؤازرهم أهلهم، ويشجعونهم "لأنو اللي ما بيروح على المدرسة ما بيتعلم... وشو بدك تصير إذا ما تعلمت"؟ وبعد وثوق الطفل في منطق أهله؛ ومن منطلق وثوق الأهالي وآمالهم بأن طفلهم ورأس مالهم -ورأس مالنا أيضا- سيتلقى تعليما يحقق له طموحه، يحمل الطفل الحقيبة والأقلام والدفاتر، وتبدأ رحلة المرحلة الابتدائية.

وشيئا فشيئا تبدأ الطموحات الكبيرة تصغر أمام نوعية التعليم، فحسب الدراسات، 80 بالمئة من طلاب الثاني والثالث الابتدائي هم دون مستوى مرحلتهم في القراءة، وطلاب المرحلة الابتدائية في الأردن متأخرون في مادة الرياضيات.

ونصل إلى الصف الثامن، لنرى تقييم الأردن في اختبار التميز الدولي للرياضيات والعلوم لم يتحسن في الدورتين الأخيرتين، بل تراجع! ثم في الصف العاشر، نجد أردننا الطموح ضمن الدول العشر الأواخر في اختبار البيزا من أصل 56 دولة.

التوجيهي&

أما التوجيهي، فرغم الجهود التي تبذل في تطويره وإعادة هيبته، إلا أن نتائجه غير مرضية، العام الماضي ترفع مئة ألف طالب للصف الثاني عشر، أقل من ستين ألفا تقدموا لامتحان الثانوية العامة، نجح منهم 40 بالمئة فقط، يعني من بين كل أربعة طلاب على مقاعد الدراسة في الصف الثاني ثانوي يتخرج أقل من واحد من الثانوية العامة! ونتائج هذا العام اتبعت نمطا مشابها.

ونوهت رانيا العبدالله في كلتمها بأنه في كل عام نتفاجأ بعناوين كبيرة في الصحف على غرار "ثلاثمئة مدرسة لم ينجح منها أي طالب"! وسأذكر هنا حادثة لا أحب أن أتذكرها، لكن علينا جميعا ألا ننساها: وصلتني ورقة امتحان دون أجوبة، كتب عليها مشرف القاعة بالحرف: الطالب أمي؛ أي: لا يعرف القراءة والكتابة! طالب أمضى اثني عشر عاما في مدارسنا، ولم يتعلم كيف يقرأ ويكتب!

اصلاح التعليم

وقالت الملكة إن إصلاح التعليم عملية متداخلة ومتشعبة وتتطلب منا جهدا غير مسبوق، لنحقق نتائج غير مسبوقة، علينا إعادة النظر في القضايا الهيكلية مثل إدارة التعليم، ووضع سياسات تجلب الكفاءات العالية لمهنة التعليم وتحافظ على مستواهم، وبالأهمية نفسها المساءلة وتحمل مسؤولية ضعف مخرجات التعليم وأسبابه.

وتابعت: نعم، النسب صادمة لكنها للأسف منطقية، ماذا نتوقع إن كان أقل من 10بالمئة من موازنة وزارة التربية والتعليم يذهب لتطوير العملية التعليمية، بينما تصل النسبة في بلد مثل فنلندا إلى 40 بالمئة.

دور المعلم&

وتساءلت الملكة الأردنية: ماذا نتوقع إن كان 50 بالمئة من معلمينا اختاروا مهنة التعليم لأنها كانت أفضل المتاح أو الخيار الوحيد؟ ماذا نتوقع وثلث المعلمين فقط في الأردن تخصصوا في التربية، أما الباقي، فنضعهم اليوم في مقدمة الصف بشهادات مثل العلوم أو الرياضيات أو اللغة العربية، لكن دون أن نوفر لهم أي تدريب نوعي يذكر على كيفية التعليم.

نقول دائما إن المعلم هو محور العملية التعليمية لكننا لم نجعله محور اهتمامنا، نحمله مسؤوليات جسيمة دون أن نمكنه من حملها، ونجده رغم ذلك يقف في مقدمة الصف يبذل قصارى جهده من أجل أبنائه الطلبة.

كيف نتوقع من أبنائنا التفوق في عالم اليوم إن لم نوفر لهم التكنولوجيا الحديثة والإنترنت ونعلمهم أبجدياتها منذ الصغر، هناك مئات المدارس في الأردن غير مربوطة بالإنترنت، أما المدارس المشمولة بشبكة الإنترنت، معظمها تعاني ضعف حزم الربط وقلة سرعتها، ولذا نتطلع بتفاؤل إلى الجهود التي تبذل لاستكمال شبكة الألياف الضوئية في المملكة، مع تأكيدنا على ضرورة ربط جميع مدارسنا فيها.

تابو المناهج&

ولا يمكننا أن نغفل دور ما نعلمه لأطفالنا، وهنا يجب أن نضم صوتنا للإعلاميين وغيرهم ممن كسروا تابو الحديث عن المناهج التي هي أحد أسباب تخريجنا طلابا يفتقرون إلى مقومات النجاح في القرن الواحد والعشرين.

لم يكن الهدف من هذا العرض أن يضعنا في خندق معتم لا أمل ولا نور فيه، أو أن يسرد واقعا محتما علينا.

التغيير صعب؛ لكنه ليس مستحيلا، بين أيدينا خطة طريق لعشر سنوات؛ تحدد أنجح وأقصر الطرق لإصلاح التعليم؛ وها نحن ماضون باتجاه الضوء، والشكر الموصول للجنة الوطنية لتنمية الموارد البشرية على كل جهودها.

لغة العصر&

واستطردت الملكة رانيا العبدالله قائلة: لم يوصف الأردن بأرض العزم عرضا، فقد أثبت الأردنيون مرارا أنهم إن أرادوا فعلوا، ونحن نريد تعليما نوعيا لأبنائنا، فلنبدأ من حيث نطمح لأن نصل، نريد أن يعمل وينافس أبناؤنا في القرن الواحد والعشرين، فلنزود مدارسنا بالتكنولوجيا وأدوات التعليم الإلكتروني ليصبح طلابنا طلقاء بلغة العصر.

نريد مناهج تثري التعليم وتفتح آفاق المعرفة، فلننشئ مركزا مختصا بمتابعة أحدث الأساليب التربوية وتطوير المناهج وتحديثها، وهو نموذج تبنته كثير من الدول المتقدمة في التحصيل العلمي.

وقالت: نريد معلمين مؤهلين، لذا نتعاون اليوم مع وزارة التربية والتعليم والجامعة الأردنية وأكاديمية تدريب المعلمين لإنشاء كلية لتأهيل المعلمين وتدريبهم لمدة عام قبل دخولهم الصفوف، ليقفوا في أول الصف جاهزين وواثقين بأن لديهم ما يلزم من العلم والمهارات لتعليم أجيال الأردن.

واضافت الملكة: سنعمل مع إحدى أفضل كليات تدريب المعلمين في العالم، لأننا نريد أفضل تعليم لأطفالنا، وأفضل تدريب لمعلمينا، لا خجل من أن نستفيد من التجارب الأجنبية،أن نستقطب الموهبة أينما كانت، ونوسع مداركنا، ففي عالمنا السريع لا وقت لدينا لإعادة اختراع العجلة، لنتعلم ممن نجحوا، لنستورد ونستعين بخبرات غيرنا، لنأخذ الأساسات ونبني صروحا أردنية قادرة على تنشئة أجيال عالمية مداركها، وأردنية هويتها.

كسر القوالب الفكرية&

وشددت الملكة الأردنية على القول: حين نريد نفعل، ولهذا، فالتغيير الأهم هو أن نكسر القوالب الفكرية والمحددات التقليدية التي جعلت تعليمنا جامدا لا حوار ولا حياة تنبض فيه، ثابتا تتغير الأزمان وتكبر طموحاتنا وهو لا يجاريهم، فأصعب العقبات نتخطاها بتحرير أنفسنا من الأسوار العالية التي بنيناها داخلنا والتي تحجب رؤيتنا عما يمكن لنا أن نكون.

يجب أن يكون التعليم الذي نقدمه لأبنائنا، على مدى اثني عشر عاما، رحلة تستحق طفولتهم، تستحق وقتهم وثقتهم، رحلة تبدأ بزرع بذور حب العلم فيهم، فيمضون بعقول متفتحة وحواس عطشى، ومن منا لا يريد ذلك؟

اولوية وطنية&

يجب أن يكون إصلاح التعليم أولوية وطنية ومطلبية شعبية، اليوم والغد وبعد عشر سنوات، ثم نضع استثمارنا الأكبر، حيث أولويتنا الأهم فتعكس مخصصات الحكومات طموح الأردنيين بتعليم نوعي، ونمضي معا بخطوات واثقة وسريعة نحو المستقبل الذي نريده دون خوف أو خجل.

لقد دعوت من قبل إلى نهضة شاملة في التعليم، لكن لا يمكن لجسمنا الأردني أن يقف إن لم تتحرك جميع أجزائه للنهوض، فالأردن دولة مؤسسات، وأنتم جميعا من أصحاب القرار، والتغييرات التاريخية كالتي نحن أمامها اليوم تحتاج القرار الجماعي والعمل المشترك، وبسرعة، كم أتمنى أن لا نصبح على حماسة للتغيير، ونمسي على تقاذف للمسؤولية، أعود وأؤكد أننا لسنا هنا اليوم لتبادل اللوم فهو مضيعة للوقت.

لنقفز 10 سنوات&

ودعت رانيا العبدالله إلى القفز عشر سنوات من الزمان؛ إلى الأسبوع المدرسي الأول لعام 2026 سنجد أبناءنا وأحفادنا يحملون حقائبهم بحماسة ويذهبون إلى مدارس ستحقق طموحهم وطموحنا لهم، سنجد في استقبالهم معلمين متلهفين لرفدهم بالمعرفة التي عملوا جاهدا على تحصيلها وتطويرها.

سنجد حصصهم تنبض بالسؤال والتعبير، مناهجهم حينها، لا أدري!! ففي المنظومة التعليمية الحية التي سنبنيها لا يمكن لنا اليوم أن نتنبأ بمنهاج العقد القادم!

وأكدت: سنجد الأردن من أفضل عشر دول في تحصيل الطلاب بالامتحانات الدولية، ويوم نتائج التوجيهي سيكون فرحة وطنية نفاخر بها، يوم يتخرج فيه 150 ألف شاب وشابة واثقين بقدرتهم على تحصيل وظائف يبدعون فيها، وقادرين من خلالها على توفير العيش الكريم لهم ولعائلاتهم.

وخلصت الملكة في كلمتها إلى القول: بين - ما نحن عليه اليوم - وذلك اليوم، إجماع على أولوية التعليم، وعزم أردني لا يثنيه شيء، والتزام بخطة وطنية واضحة للخروج من هذا النفق، فلدينا بين جدران هذه القاعة -وخارجها- ما يكفي من المسؤولية، والموهبة، والإيمان بالتعليم لقيادة التغيير ودفع عجلته، لنعقد العزم ونمضي حتى يرى تعليمنا نور العلم ونحقق طموح الأردن والأردنيين.