نيويورك: شهد العام الماضي ذكرى مرور 500 سنة على اقامة الغيتو اليهودي في مدينة البندقية. واختلف سكان المدينة بشأن المناسبة وطريقة احيائها لأسباب واضحة. وكان اليهود يعيشون في أي مكان يختارونه من المدينة. ولكن ابتداء من عام 1516 تعين عليهم بموجب القانون ان يسكنوا ويمارسوا عبادتهم في رقعة صغيرة كانت في السابق معملا لصهر النحاس أو "غيتو" بالايطالية. 

وهذا هو أصل كلمة غيتو باستعمالاتها المتداولة اليوم. وسُمح لهم بفتح مكاتب رهون لمنح القروض بفائدة. وكان بمقدورهم الخروج في النهار لممارسة عدد محدود من المهن مثل بيع وشراء الملابس العتيقة وتدريس الموسيقى والرقص والطب. ولكن كان عليهم العودة الى الغيتو والبقاء فيه وراء بوابات مقفلة يحرسها رجال يدفع اليهود أنفسهم رواتبهم. وكان مسموحاً للأطباء اليهود بمغادرة الغيتو مساء لعلاج مريض مسيحي. ويتذكر سكان البندقية عاشوا وقت وجود الغيتو ادانة ثلاثة يهود بقتل مسيحيين في طقوس من اجل دمهم، واعدامهم حرقاً على هذه الجريمة النكراء.

"تاجر البندقية"

من الجائز أن شكسبير كان يعرف ذلك حين جلس ليكتب مسرحيته الكوميدية "تاجر البندقية" ولكن شكسبير لم يفهم أو لم يكن مهتماً بحقيقة وجود غيتو في البندقية. ويبدو انه لم يتأثر بفصل اليهود عن المسيحيين مثلما كان متأثراً بمدى احتكاكهم مع بعضهم البعض. ورغم ان بطله شايلوك يقول انه لن يصلي مع مسيحيين أو يأكل طعاهم غير الكوشر فانه يعدد الطرق العديدة التي يتفاعل بها يومياً مع المسيحيين. 

ويعلن "سأشتري معكم وأتحدث معكم وأمشي معكم". وبنظر الجمهور في انكلترا التي طردت جميع يهودها في سنة 1290 ولم تسمح لهم بالعودة فان هذه التفاعلات اليومية التي يتحدث عنها بطل شكسبير شيء جديد حقاً في حياتهم وموقفهم من الغريب. 

كانت البندقية بنظر الانكليزي في عهد الملكة اليزابيث الأولى مدينة مدهشة بل وحتى كوزوموليتانية وبالتالي لم يتمكن شكسبير ان يتخيل بيت شايلوك معزولا في غتيو مغلق وشدد بدلا من ذلك على ان بيت شايلوك كان "في شارع عام". 

ترخيص للخروج

وإذا لم تغلق ابنة اليهودي باب البيت وشبابيكه فانها تستطيع ان تشاهد استعراض المسيحيين بأقنعة كارنيفالية وتسمع قرع طبولهم. وحين تروي المسرحية خروج شايلوك على مضض ليلا ليأكل على مائدة واحدة مع مسيحيين لم يخطر ببال شكسبير ان المرابي اليهودي يحتاج في الحياة الواقعية وقتذاك الى ترخيص خاص للخروج والاختلاط مع مسيحيين ليلا. وكانت هذه التراخيص جزءا من محاولة سكان البندقية للتعاطي مع موروثهم من العداء للأجانب. 

وأسهم شكسبير في محاولة سكان البندقية نبذ هذا التراث من العداء للأجانب والغرباء، كما يرى استاذ الأدب الانكليزي في جامعة هارفرد البروفيسور ستيفن غرينبلات مشيراً الى ان شكسبير كتب حبكة المسرحية واضعاً نصب عينيه فكرة المساواة امام القانون. 

وترفض مسرحية "تاجر البندقية" المحاولات التي تريد ادخالها في عصر التنوير ناهيكم عن ربطها بكامل الثقل المأسوي لعقود من الكراهية العرقية والدينية في اوروبا. وهي" في تصميمها النهائي تبقى كوميديا باصرار"، على حد تعبير البروفيسور غرينبلات. ويرى الأكاديمي الاميركي ان شكسبير تمكن من تسجيل حس الفكاهة اللاذع عند شايلوك والألم الذي ألقى بظلاله على لؤمه واعتزازه بذكائه واقتصاديات بيته الصغيرة وشعوره بالوحدة. 

ونتوصل الى معرفة هذه الصفات لأنفسنا وليس بوصفها مجرد مفاهيم بل عناصر في خبرتنا نحن وحالات انسانية عامة. فان شكسبير الذي لم يستوعب ان الغيتو موجود في البندقية كان لا يطيق الأسوار، الحقيقة منها والمتخيلة، وهدَّمها حتى في مسرحية تغمرها العداوة الدينية والاثنية. 

نجد هذا الموقف في مسرحيات شكسبير الأخرى ايضاً. فان اعمال شكسبير نموذج حي ليس لأنها تقدم حلولا عملية للمآزق التي تستكشفها ببراعة وانما لأنها توقظ وعينا بالأرواح البشرية ومصائرها، كما يقول البروفيسور غرينبلات. 

ويرى البروفيسور غرينبلات ان إرث شكسبير يمنحنا امكانية الهروب من الغيتوات الذهنية التي يسكنها غالبيتنا. وحتى في عالمه هو يبدو ان مخيلته قادته في اتجاهات تثير الدهشة. 

ففي زمن كانت الحانات والخانات تعج بالجواسيس الباحثين عن اقوال تنتقد الحاكم يبرز شكسبير كاتباً يستطيع ان يروي على خشبة مسرح عام قصة مختل منحرف يشق طريقه الى السلطة بالمكيدة، كاتباً يستطيع ان يضع إحدى شخصياته على المسرح ليعلن امام الجمهور "ان كلباً يُطاع في المنصب"، كاتباً يستطيع ان يصف شخصية خادم يوجه طعنة قاتلة الى سلطان الحاكم لمنعه من تعذيب سجين باسم الأمن القومي. 

وأخيرا فان شكسبير مسرحي كتب بيده السطور النقدية المحفوظة في مخطوطة المكتبة البريطانية لمسرحية اليزابيثية ربما منعها الرقيب عن السير توماس مور. وتتحدث هذه الأسطر بعبارات مؤثرة عن قضية معاصرة ملحة اليوم. إذ يصور شكسبير في مسرحيته توماس مور يواجه جمعاً من الغوغاء المطالبين بطرد "الغرباء" أي الأجانب من انكلترا. 

ويخاطب مور الغوغاء طالباً منهم ان يتخيلوا هؤلاء الغرباء المعذبين، وهم يحملون اطفالهم وامتعتهم البائسة على ظهورهم، يجرون اقدامهم الى الموانئ والشواطئ بحثاً عن وسيلة نقل، و"أنتم تجلسون كالملوك في رغباتهم". ثم ينتقل مور الى تعنيف الغوغاء وقسوتهم كأنهم "اسماك مفترسة تتغذى على بعضها البعض". 

يعتبر البروفيسور غرينبلات ان هذه السطور التي كتبها شكسبير دفاعاً عن الأجانب الغرباء تصلح سياسة دولية انسانية متماسكة لحل قضية اللاجئين. ويقول اننا لتنفيذ هذه السياسة نحتاج الى محامين دستوريين ودبلوماسيين أكفاء وقادة حكماء. فخلال لحظة طويلة بمقياس الزمن المسرحي الشكسبيري تختفي المسافة بين سكان البلد والغرباء وتتداعى الأسوار ثم تسقط وتزال الغيتوات. 

أعدت "إيلاف" هذا التقرير بتصرف عن "نيويوركر". الأصل منشور على الرابط التالي:

http://www.newyorker.com/magazine/2017/07/10/shakespeares-cure-for-xenophobia?mbid=nl__daily&CNDID=31115831&mbid=nl_TNY%20Template%20-%20With%20Photo%20(190)&CNDID=31115831&spMailingID=11408874&spUserID=MTMzMTgzMTU4MzUxS0&spJobID=1200401409&spReportId=MTIwMDQwMTQwOQS2