الرباط: خلقت مذكرات عبد الرحمن اليوسفي، الزعيم السابق لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والوزير الأول في حكومة التناوب التوافقي في المغرب، الحدث السياسي في البلاد، نظرًا لما اشتملت عليه من معطيات ووقائع تهم الرأي العام، وهو الذي دأب على تحاشي الظهور تحت الأضواء منذ انسحابه من الحياة السياسية.

وحملت المذكرات عنوان"أحاديث في ما جرى"، وتولى إعدادها وتحريرها مبارك أبو درقة (الملقب عباس)، أحد رفاق اليوسفي على درب النضال السياسي والحقوقي، علمًا أن هذا السياسي المخضرم معروف عنه الالتزام بالصمت، ولم يوافق على البوح إلا بعد سلسلة من المحاولات التي أثمرت هذا الإصدار الذي يعتبر رصدا موثقا لمسار زعيم حزبي من صفوف المعارضة إلى مقاعد الحكم.

تتحدث الفصول الخمسة للكتاب عن نشأة اليوسفي ومساره السياسي والحقوقي، بدءًا من مولده في طنجة بشمال المملكة يوم 8 مارس 1924، ودوره في الحركة الوطنية، والمقاومة وجيش التحرير، وإسهامه في الصحافة المغربية عبر جرائد حزبه، وانخراطه في خدمة الشأن العام.

ورغم تقدمه في العمر، تبدو ذاكرة اليوسفي حية ومتيقظة، وهي تسترجع شريط حياته الغنية بالأحداث في ارتباطها مع المغرب، سواء في فترة الاستعمار أو الاستقلال، متوقفًا عند المحطات الأساسية التي بصمت شخصيته، ومن بينها ذكرياته مع شخصيات حزبية وسياسية فذة مثل عبد الرحيم بوعبيد الذي التقاه للمرة الاولى في باريس سنة 1949 1950، حين وصل إلى باريس لإتمام دراسته هناك.

وعن بوعبيد يقول:" كنت على علم أن هذا الأخير مع المهدي بنبركة، من الجيل الجديد والحديث من قياديي الحزب. كان عبد الرحيم بوعبيد قد اعتقل سنة 1944، حيث قضى سنتين في السجن، ثم عاد بعدها إلى باريس لإتمام دراسته، وكان بالإضافة إلى ذلك المسؤول الأساسي كممثل لحزب الاستقلال ويرأس فريق المناضلين الذين كانوا على اتصال دائم مع القادة السياسيين الفرنسيين والصحافيين".

وبما أن باريس كانت في تلك الفترة عاصمة دولية، تنعقد فيها الجمعيات العامة للأمم المتحدة، فقد احتضنت سنة 1948 الجمع السنوي للأمم المتحدة من أجل اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فكانت الفرصة سانحة للمناضلين المغاربة، وفي مقدمتهم المهدي بنبركة، للاتصال بوفود الدول المشاركة للتعريف بقضية المغرب وكفاحه من أجل الاستقلال من ربقة الاستعمار الفرنسي، وكان اليوسفي هو المكلف التنسيق في هذا المجال مع الأمين العام لجامعة الدول العربية آنذاك عبد الرحمن عزام باشا، الذي ساعد على إيصال مطالب الشعب المغربي إلى العديد من الوفود والشخصيات والصحافيين.

وقبل ذلك، كان اليوسفي من ضمن الشباب الذين استدعاهم بنبركة سنة 1943 إلى بيت والديه بحي "الجزاء" في الرباط ليعرض عليهم أفكاره وخططه السياسية، وقد أثارهم في الرجل "هذا الحس التنظيمي والديناميكية وقدرته على الحوار وطرح الأسئلة" تمهيدًا لاستقطابهم سياسيا لحزب الاستقلال.

ويحضر بنبركة بقوة ضمن صفحات الكتاب، ومن بين ذلك مشاركته في مشروع "طريق الوحدة" الرابطة بين تاونات وكتامة في شمال المغرب، على امتداد 60 كيلومترًا، إلى أن يتحدث اليوسفي عن اختطافه يوم 29 أكتوبر 1965 بباريس، وهو الحدث الذي خلف ردود فعل قوية، وطنيا ودوليا، حيث لا يزال مصيره مجهولاً.

وساهم اليوسفي في الإشراف على سير المحاكمة في باريس، مكلفا من طرف عبد الرحيم بوعبيد، إلى جانب المهدي العلوي، وقد تكونت لديه قناعة بدور الجنرال محمد أوفقير، في هذا الجريمة، مستدلاً على ذلك باستقباله بالرباط لمن سماهم بـ"عصابة الأربعة القتلة المطلوبين للعدالة"، وهم جورج بوشيس وجون باليس وجوليان لوني وبيير دوبي، ووعدهم بأن يسهل لهم فتح ملاهٍ فاخرة للدعارة بالمغرب، وذلك طبعا مقابل مساهمتهم في اختطاف المهدي بنبركة".

يحكي اليوسفي في مذكراته كيف تعرض للاعتقال أكثر من مرة، وكانت تلك هي الضريبة التي يؤديها دفاعًا عن مبادئه وقناعاته، سواء كمقاوم أو كمناضل سياسي، أو كمسؤول عن صحافة حزبه.

وفي هذا الصدد، يروي أن السلطات المغربية حجزت يوم 14 ديسمبر 1959 جريدة "التحرير"، ومنعتها من التوزيع، بحجة أن الافتتاحية تتضمن جملة تقول: "إذا كانت الحكومة مسؤولة أمام جلالة الملك، فإنها ايضا مسؤولة أمام الرأي العام".

واستنادا إلى ما ورد في الكتاب، فإن السلطات المغربية لم تكتفِ بقرار حجز الجريدة ومنعها من الوصول إلى القرّاء، بل قامت باعتقال مدير الصحيفة محمد الفقيه البصري من بيته في الدار البيضاء، واعتقال اليوسفي كرئيس للتحرير من مكتبه بالجريدة، وتم نقلهما مباشرة إلى سجن العلو بالرباط.

أول قرار اتخذه اليوسفي في السجن هو الإضراب عن الطعام، مستغلاً وضعه الصحي الهش نتيجة استئصال رئته اليمنى خلال عمليتين جراحيتين بمدينة مدريد، ما أدى إلى نقله لمستشفى ابن سينا بالرباط.

وبعد ذلك، جرت المواجهة بين قاضي التحقيق واليوسفي الذي بسط في جوابه لدى استنطاقه المقصود من وراء كلمة "أن الحكومة مسؤولة أمام الرأي العام"، مؤكداً أن الهدف هو "بناء الدولة الحديثة اعتمادًا على مبادئ الديمقراطية وسيادة العدل والقانون".

سيتعرض اليوسفي للمحاكمة ضمن عدد من رفاقه في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية آنذاك، وكان ذلك سنة 1963، وبالضبط يوم 23 نوفمبر بتهمة المس بأمن الدولة الداخلي، وهي القضية التي اصطلح على تسميتها بـ"المؤامرة"، واستمرت إلى غاية 14 مارس 1964، صدرت عقبها أحكام تراوحت بين الإعدام والسجن المؤبد والسجن المحدد والبراءة، وكان نصيب اليوسفي منها هو سنتين مع إيقاف التنفيذ.

من الفصول المهمة التي تابعها الوسط السياسي والإعلامي في المغرب بشغف وترقب وانتظار طويل، الفصل الخامس والأخير المعنون به "رئاسة الحكومة" الذي يتطرق فيه اليوسفي لقيادته لأول حكومة "للتناوب التوافقي" في المغرب، يتزعمها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.

في هذا الفصل يتحدث عن "التعيين الملكي" له في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، وزيرًا أول، والأجواء التي رافقته، وما سماه بـ"التجسس على الاستشارات" التي كان يقوم بها لتشكيل فريقه الحكومي.

إلا أن خبر وفاة الحسن الثاني يوم 23 يوليو 1999 نزل عليه كالصاعقة، على حد تعبيره، بعد أن تلقى اتصالاً من ولي العهد آنذاك الأمير سيدي محمد يخبره بموته، وبالترتيبات الأولية لإعداد مراسيم البيعة، والاستعداد لاستقبال ضيوف المغرب.

استحسن اليوسفي كثيرًا الطريقة التي تمت بها البيعة، لأنها كانت في نظره حضارية "أدخلت نوعًا من الأبهة على مراسيمها، وأكسبتها وزنًا قانونيًا وشرعيًا قويًا".

وفي تطور لاحق، وبعد ظهور نتائج الانتخابات التشريعية لسنة 2002 التي حصل فيها حزب الاتحاد الاشتراكي على المرتبة الأولى، عرض اليوسفي على الملك محمد السادس تقديم استقالته من الوزارة الأولى، حتى يتمكن من تعيين الوزير الأول الذي سيتولى تدبير المرحلة المقبلة .

واستحضارًا لتلك المرحلة، قال اليوسفي في كتابه إن الملك محمد السادس، وبعد المجلس الوزاري ليوم التاسع من اكتوبر 2002 بمراكش استقبله وهنأه على المجهودات التي بذلها على رأس الوزارة الأولى، وأخبره بتعيين ادريس جطو، وزيرًا اول.

وأضاف أنه شكر الملك على تلبيته لرغبته في إعفائه من المسؤولية، نظرًا لظروفه الصحية، مشيرا إلى أن الدستور الحالي (1996) يمنحه حق تعيين من يشاء كوزير أول، لكن المنهجية الديمقراطية تقتضي بتعيين الوزير الأول من الحزب الذي احتل المرتبة الأولى في الانتخابات.

وخلص إلى أن حبل التواصل بينه وبين الملك محمد السادس لا يزال مستمرًا إلى غاية كتابة هذه المذكرات، حتى عندما قدم استقالة الاعتزال نهائيًا من الحزب والنشاط السياسي.

حفل الكتاب بلقطات من الحياة الشخصية لليوسفي ومن بينها ارتباطه بزوجته هيلين، وعائلتها (من أصل يوناني)، وقد تعرف عليها بالصدفة حين ذهب إلى والدها الخياط بشارع مولاي عبد الله بمدينة الدار البيضاء، لتحضير لباس "نادل في المقهى" للقيام بهذا الدور المسرحي في حفل ختام السنة الدراسية، ولم يتم عقد القرآن إلا بعد واحد وعشرين سنة، بسبب كثرة التزاماته السياسية وتنقلاته واعتقاله مرتين، ومتابعته لملف المهدي بنبركة.