صبيحة الحادي عشر من فبراير/شباط عام ٢٠١١، استيقظ فاروق على أمل كبير. ابنه البكر عبدالله قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلمه بالوصول إلى أوروبا. المركب الذي سيقله وآخرين متين، والبحر رائق على غير عادته في مثل هذا الوقت من السنة. كان كل شيء يبعث على التفاؤل، لكن ما حدث غيّر حياته إلى الأبد.
خفتت الحركة على شاطئ جرجيس جنوبي تونس فيما بدأت الشمس تغيب وراء البحر. تحرك القارب الخشبي الذي يقل 120 شاباً من المدينة نحو وجهته، جزيرة لامبدوزا الايطالية. كان على وشك دخول المياه الاقليمية الإيطالية عندما اصطدم به مركب لخفر السواحل التونسي وشطره نصفين. غرق القارب وقُتل 23 مهاجراً توزع مصيرهم بين جثث عثر عليها وأخرى بقيت في عداد المفقودين.
"انا ابني مفقود تَوني (حتى الآن) ما دفنته"، أخبرني فاروق عندما التقيته في منزله البسيط في جرجيس ليسرد لي قصة ابنه المفقود ورحلته في البحث عن جثته.
غرقى ومفقودون
تبعد شواطئ جرجيس عن جزيرة لامبدوزا الإيطالية حوالي 250 كيلومتراً، يقطعها المهاجرون خلسة في قوارب خشبية أو حتى مطاطية صغيرة.
لكن قوارب الحرّاقة (التسمية التي تطلق على المهاجرين السريين في شمال أفريقيا) تنطلق من أماكن أخرى على طول الشواطئ التونسية. من بنزرت ومن المنستير ومن صفاقس ومن جزيرة قرقنة التي لا تبعد عن صقلية الايطالية أكثر من 150 كيلو متراً، ينطلق المهاجرون في رحلتهم نحو الحلم الأوروبي.
وعندما تقع حوادث الغرق داخل المياه الإقليمية التونسية، تتولى فرق من وزارة الدفاع التونسية وخفر السواحل التونسي فضلاً عن وحدات الدفاع المدني مهمة إنقاذ الأحياء وانتشال جثث الغرقى التي تُودع في المستشفيات بانتظار التعرف عليها من قبل الأهالي المكلومين.
قد تستمر عمليات البحث لعدة أيام، لكنها لا تسفر دوماً عن انتشال جميع الغرقى ما يترك كثيرين في عداد المفقودين.
في عام 2015 شكلت الحكومة التونسية لجنة لمتابعة ملف من فقدوا في رحلات الهجرة السرية إلى ايطاليا والذين تقدر أعدادهم ببضع مئات. تضم اللجنة ممثلين عن وزارات عدة إضافة إلى طبيب شرعي وأستاذ قانون دولي.
اقرأ أيضاً:
خفر السواحل الإيطالي ينكرون التقاعس عن إنقاذ ضحايا قارب لامبيدوزا
انتشال 2300 مهاجرا من مياه المتوسط
خفر السواحل الإيطالية ينقذون ألفي مهاجر أمام سواحل ليبيا
وتتعاون السلطات التونسية مع نظيرتها الإيطالية في هذا الملف، إذ تتواصل معها للتأكد مما إذا كان أي من الموقوفين لديها تونسياً كما تقوم بجمع عينات جينية من أهالي المفقودين وإرسالها إلى إيطاليا ليتم مقارنتها بعينات لجثث مجهولة الهوية دفنت هناك.
لم يفض هذا التعاون إلى كثير من النتائج بعد. فأسر كثيرة ما زالت بانتظار جثث أبنائها وأخرى مقتنعة أنهم لا زالوا على قيد الحياة.
البشارة القادمة من لندن!
مسافة قصيرة قطعناها مشياً على الأقدام هي ما يفصل منزل فاروق عن منزل عائلة أبو عاطف. لدى وصولنا، كانت أم عاطف تجلس شاردة الذهن في ساحة المنزل التي تراها في كثير من بيوت الفلاحين في مدينة جرجيس.
بادرتني هي بالقول "كل يوم أقول إن شاء الله سيعود، شوفي عيوني كيف تعبوا من البكا".
السنون السبع التي مرت منذ غياب عاطف لم تدخل اليأس إلى قلب أمه بعد. "قلبي يقول لي إنه حي. يمكن يا بنتي على وجهك أسمع منه خبر يطمني".
كل شيء عند أم عاطف قد يكون بشارة بأن موعد اللقاء اقترب، حتى قدوم صحفية مثلي من لندن للاستماع إلى قصتها.
وبينما تنتظر أم عاطف عودة ولدها المفقود٬ تتهيأ لرحيل أخيه الأصغر علي، مقنعة نفسها أن رحلته ستكون أكثر أماناً. "عندي علي، هذا علي له وقت يقلي نبِّي (نريد) نحرق. نبِّي يروح على بابور تونس، يقولولي باهي (جيد) يا بنيتي".
وبابور تونس هذا هو عبّارة تبحر من تونس العاصمة حاملة المهاجرين بكلف مضاعفة عما يقومون بدفعه للقوارب الصغيرة.
يتداول الناس هنا أن العبّارة آمنة وسريعة تصل الشواطئ الإيطالية في ساعات معدودة ، ويزيدون أن صاحبها أجنبي يتواطأ معه مع خفر سواحل أوروبي، مما يساعد في السماح لها بالعبور.
وبعيداً عن قصة "بابور تونس" فإن حديث الناس عن الهجرة السرية هنا كثيراً ما يشير إلى وجود تجار في تهريب البشر، وهم معروفون للسلطات، لكنهم يبقون بعيدين عن المشهد عند حدوث أية عمليات ملاحقة للمتورطين في هذا الملف.
رحلة نحو المجهول
لم يكن علي بالبيت ساعة زيارتنا. التقيته بعدها في سيارة أحد أقربائه بجانب مقهى كان يجلس فيه مع أصدقائه.
" نحب نحرق مش منحبش"، قال لي. لم يبق عمل لم أقم به، جربت كل شيء لكن لم يعد هناك عمل. وأضاف " قبل الثورة كانت الحال أفضل، كان هناك عمل وكانت الأموال التي نجنيها تكفينا طوال الشهر. الآن لا عمل وأسعار كل شيء تضاعفت وأنا أريد أن أساعد عائلتي". وبعد صمت وجيز يقول "أبي لا يملك ثمن الدواء".
كمثل كثيرين، تشكل الجزر الإيطالية (بوابة أوروبا) الوجهة الأولى لعلي، بينما تعد فرنسا، التي تسكن فيها شقيقته وجهته الأخيرة.
ما دون هذا لا يبدو كثير من معالم الرحلة-المغامرة واضحاً. ففي حال الوصول تبقى احتمالات إعادته من قبل فرنسا واردة وهي التي سبق وأن حدثت لكثير من أقرانه. وإذا ما نجح في البقاء فأغلب الظن أن الأمر سينتهي به عاملاً في "أي شيء" كما يقول وأن وقتاً طويلاً قد يمر قبل أن يتمكن من الحصول على أوراق إقامة قانونية في ظل تشديد التشريعات في مجال الهجرة والإقامة وفرض شروط صارمة بل قد تكون تعجيزية.
لكن كل هذا لا يوقف قوارب الموت..
موجتان من الهجرة
يمثل علي وأخوه المفقود عاطف موجتين من الهجرة السرية التي شهدتها تونس بعد الثورة التي أطاحت بنظام زين العابدين بن علي.
بدأت الموجة الأولى بعد أسابيع قليلة من هذه الثورة واستمرت طوال عام 2011.
شكل اليأس والخوف من المستقبل المجهول العامل الأبرز الذي دفع بآلاف الشباب التونسيين إلى محاولة العبور إلى أوروبا وقتها مستغلين الفوضى وتراجع سلطة الدولة والأمن التي أعقبت الثورة.
وبينما يتحدث السكان في جرجيس عن أكثر من خمسة آلاف شاب غادروا سواحل المدينة في شهر يناير/كانون الثاني 2011 وحده، يقدر المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية والمرتبط برئاسة الجمهورية مجموع الذين حاولوا العبور إلى أوروبا خلال عام 2011 بأكثر من 34 ألفاً، معظمهم تونسيون.
وصل منهم حوالي 26710 إلى الشواطئ الإيطالية، بينما أوقفت السلطات التونسية البقية. ولا تتضمن معلومات المعهد أي إحصائيات لأعداد القتلى والمفقودين من المهاجرين.
عادت سلطة الدولة والأمن إلى حد بعيد لكن الاحباط تزايد بدلاً من أن يتراجع. فالأزمة الاقتصادية تعمقت والبطالة ارتفعت.
ومع قدوم الثلث الأخير من عام 2017 ، كانت أعداد المهاجرين الذين يحاولون عبور البحر إلى الشواطئ الإيطالية ترتفع من جديد بعد أن تراجعت.
في تقريره السنوي لعام 2017، حول الهجرة السرية في تونس كشف منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أن حوالي 55 في المئة من الشباب التونسي يرغب بالهجرة وأن 31 في المئة منهم مستعدون للقيام بالرحلة حتى لو كانت غير نظامية.
وبحسب المنتدى، فإن الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2018، شهدت محاولة أكثر من ثلاثة آلاف شخص العبور إلى أوروبا، وهو ما يمثل، بحسب المنتدى، عشرة أضعاف العدد خلال الفترة نفسها من عام 2017.
لكن هذا ليس الوجه الوحيد للهجرة في تونس.
مصدر ومعبر ومقام
ساعة من القيادة، وصلنا بعدها إلى مركز ولاية مدنين. تتشارك الولاية مع غيرها من ولايات جنوب تونس الشرقي المهمش تصدير أغلب المهاجرين السريين.
ليس في مدنين شواطئ تشكل نقطة انطلاق للهجرة السرية، لكن المدينة أضحت مقاماً - وإن مؤقتاً- لمهاجرين من دول الجنوب الأفريقي تعثرت رحلتهم نحو أوروبا لينتهي بهم المقام في مركز للإيواء، يشرف عليه الهلال الأحمر التونسي بالتعاون مع منظمات دولية للهجرة.
وصلنا إلى المبنى الذي يشبه بناءاً مدرسياً، يتوسط باحة واسعة حوالي الثالثة بعد الظهر. لم نلحظ وجود أقفال أو حراس وإن طلب منا تسجيل أسماءنا في سجل للزائرين قبل أن يستقبلنا ممثل الهلال الأحمر والمسؤول عن المركز عصام الحضيري في مكتبه.
يخبرنا الحضيري أن المركز "يضم مهاجرين أفارقة من جنسيات مختلفة ويقيم فيه أكثر من 160 مهاجراً جميعهم من الرجال يشكلون حوالي ضعف طاقته الاستيعابية التي لا تتجاوز 90 شخصاً".
وماذا عن النساء والأطفال؟ نسأل، فيؤكد أنهم يقيمون في مركز منفصل داخل المدينة.
إن معظم المقيمين في المركز هم مهاجرون حاولوا العبور إلى أوروبا من الشواطئ الليبية، وتم انقاذهم من قبل خفر السواحل التونسي لدى غرق مراكبهم. البعض منهم تم التحفظ عليه بعد أن حاولوا ركوب البحر من تونس أو عبور الحدود باتجاه ليبيا ومنها إلى أوروبا. وكثيرون منهم خرجوا من المركز ليعودوا إليه بعد تكرر فشل محاولاتهم للوصول إلى أوروبا.
يسمح المركز للمقيمين بالخروج خلال ساعات النهار وحتى العاشرة مساء حين تغلق الأبواب للمبيت. ويقول الحضيري "يخرج الكثير من الرجال، لكن النساء قليلاً ما يخرجن، فاندماجهن في المجتمع أصعب".
لكن اندماج هؤلاء المهاجرين في المجتمع التونسي يواجه صعوبات كبرى، ليس جنس المهاجر أهمها. فقاطنو المركز لا يحملون أي أوراق ثبوتية، وإن تمكنوا من العمل يكون هذا بشكل يومي متقطع وأجر بخس. ولذات سبب غياب الأوراق الثبوتية، يحرم أطفالهم من التسجيل في المدارس وإن كان المتطوعون يعقدون نشاطات ترفيهية لهم كجزء من محاولة تأهيلهم نفسياً.
لا تملك تونس قانونا يتعلق باللاجئين، فمشروع القانون الذي أعد لهذا الغرض منذ سنوات لم يُجهز بعد. تتولى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين اصدار بطاقات اللاجئين والاهتمام بشؤونهم، لكن هذه الجهود تركزت في السنوات الأخيرة على الهاربين من أتون الحرب في سورية.
يقر أحمد الذي أمضى عاماً في المركز بحسن المعاملة التي يتلقاها. هرب أحمد من الحرب مع بوكو حرام في شمال نيجيريا وحاول العبور إلى أوروبا عبر ليبيا، إلا أنه اختطف وسجن من قبل ميليشيات ليبية قبل أن يساعده صديق في دفع مبلغ من المال ليطلق سراحه. ركب البحر من ليبيا، وعندما غرق المركب الذي يقله أنقذه خفر السواحل التونسي وأتى به إلى المركز.
لكن مراده لم يتغير "لقد أخبرتهم أنني أريد الذهاب إلى أوروبا" يقول لي مراراً "ليس لدي أوراق في تونس لأبقى ولا أريد العودة إلى نيجيريا". أحد عشر شهراً أمضاها في المركز لا يعد من أيامها سوى تلك التي تمكن فيها من العمل ليجمع مالاً يمكنه من معاودة الكرة مرة أخرى.
حاله يشبه حال كثيرين التقيتهم في المركز. بالنسبة لهؤلاء فإن التخلي عن حلم الوصول إلى أوروبا ليس وارداً. وفي ظل ما عانوه في ليبيا تمثل تونس وجهة جديدة للانطلاق نحو هذا الحلم.
أمام كل هذه التحديات تقف تونس حائرة بين رعاية أبنائها الذين يفضلون الموت في البحر على العيش في أرضها وتقديم العون لمهاجرين هربوا من حروب وويلات جنوب القارة ليمروا عبرها إلى الضفة الأخرى من المتوسط وبين اتحاد أوروبي تارة يطالبها بمنع مواطنيها وغيرهم من المهاجرين من العبور إلى أوروبا وتارة يريد منها إقامة مخيمات على أرضها تستقبل المرحلين منهم.
ووسط تخبط الاتحاد الأوروبي حول الطريقة المثلى للتعامل مع أزمة الهجرة وتنامي تيار اليمين العنصري في بلدانه تتواصل الأزمات في بلدان الجنوب، وتستمر قوارب الموت بكتابة مأساة الهجرة السرية التي اختارت لتونس مكاناً لأحدث فصولها.
التعليقات