ترسيخًا للذاكرة السينمائية المغربية، وتخليدًا لأعمال فنانين مغاربة تركوا بصماتهم شاهدة عليهم في مجال الفن السابع، صدر أخيرًا كتاب جديد تحت عنوان "وجوه من المغرب السينمائي" لمؤلفه الناقد السينمائي المعروف أحمد سيجلماسي.

الرباط: القاسم المشترك بين هذه الوجوه هو أن أصحابها كلهم رحلوا من هذه الدنيا، مخلفين وراءهم الذكر الطيب والصدى الحسن، بعد مسار سينمائي حافل بالعطاء والإبداع، وهم الناقد السينمائي مصطفى المسناوي، والممثلون محمد بسطاوي ومحمد مجد ومحمد الحبشي وحميدو بنمسعود، والمخرج محمد ركاب.

الكتاب من منشورات مهرجان سيدي عثمان للسينما المغربية بالدار البيضاء، ويندرج، كما جاء في كلمة التقديم، ضمن إصدار سلسلة كتيبات ذات طبيعة توثيقية، بهدف "تذكير الأجيال الحالية والقادمة ببعض وجوهنا السينمائية الرائدة"، والسعي إلى لم شتات جانب من الذاكرة السينمائية المبعثرة.

المسناوي المثقف الموسوعي
يتصدر هذه الوجوه الناقد السينمائي مصطفى المسناوي، الذي عرف بمقالاته النقدية الموضوعية، وبإلمامه الكبير بكواليس الفن السابع من خلال معايشته عن كثب للعاملين فيه، ومواكبته لتجربة الأندية السينمائية وحضوره الدائم في كل المهرجانات السينمائية.

يحق القول عن صاحب كتاب "أبحاث في تاريخ السينما المغربية"، إنه مثقف موسوعي، فهو، كما يسرد ذلك سيجلماسي، خريج شعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ومبدع في مجال القصة القصيرة، تشهد على ذلك مجموعته الأولى "طارق الذي لم يفتح الأندلس"، وممارس لتدريس الفلسفة بالتعليم الثانوي والجامعي.

اضافة إلى ذلك فهو صاحب قلم يفيض سخرية بأسلوب راق، تجلى في ركنه "يا أمة ضحكت.." بصحيفتي "الاتحاد الاشتراكي" و"المساء"، وقد تم نشر محتوياته ضمن كتيب بالعنوان نفسه.

المسناوي هو أيضا كاتب سيناريو لسلسلات تلفزيونية كوميدية ناجحة، من بينها "سير حتى تجي" و"قنال36"، ومترجم لبعض الكتب ذات الحمولة الثقافية المهمة، ومساهم في إطلاق وإدارة منابر رائدة في الصحافة الثقافية والفكرية، مثل "الثقافة الجديدة" و"بيت الحكمة" و"الجامعة".

واعتبارًا لثقافته السينمائية ورصانته الفكرية، فقد تمت الاستعانة به لإدارة بعض الملتقيات الفكرية والفنية، أو تعزيز لجان تحكيم المهرجانات السينمائية، عضوًا أو رئيسًا، وقد فارق الحياة، وهو في عز عطائه، إثر أزمة صحية ألمت به، خلال وجوده في مهرجان القاهرة السينمائي يوم 17 نوفمبر 2015.

بسطاوي النجم الاستثنائي
ثاني الوجوه السينمائية المحتفى بها في كتاب سيجلماسي هو الممثل المسرحي والتلفزيوني والسينمائي محمد بسطاوي، الذي اشتغل في بداية حياته العملية ضمن القواعد العسكرية التابعة للبحرية الملكية بشمال المغرب، قبل أن تقوده قدماه إلى ايطاليا التي استقر بها مدة من الوقت، لكنه سرعان ماعاد إلى المغرب لتحقيق حلم طفولته في ممارسة فن التشخيص.

كانت البداية، وفق ما يحكيه الكتاب، مع التلفزة المغربية بالرباط، في برنامج الأطفال الصباحي "القناة الثانية" كممثل ومؤلف لنصوص مسرحية وأعمال فنية ذات بعد تربوي.

وتبقى الانطلاقة الحقيقية لبسطاوي هي تلك التي دشنها مع فرقة "مسرح اليوم" بإدارة الممثلة ثريا جبران وزوجها المخرج عبد الواحد عوزري، وذلك على مدى تسع سنوات شارك فيها بأدوار رئيسة في العديد من الأعمال المسرحية.

عند توقف "مسرح اليوم"، عمد بسطاوي إلى تأسيس فرقة مسرحية جديدة رفقة الكاتب يوسف فاضل ومبدعين آخرين أطلق عليها إسم "مسرح الشمس"، وساهمت في اثراء المشهد المسرحي.

من خلال جرد واسع، استعرض الكتاب مجموع الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية التي حقق فيها بسطاوي انتشارًا فنيًا واسعًا كنجم استثنائي بكل المقاييس، أمكن له الحصول على جائزة أحسن ممثل، وحظي بحفلات التكريم، قبل أن يرحل عن هذه الدنيا، يوم 17 ديسمبر 2017، وهو في عز نضوجه الفني، بعد صراع مع المرض.

الحبشي "الممثل العملاق"
الممثل محمد الحبشي هو ثالث شخصية فنية في كتاب" وجوه من المغرب السينمائي"، وقد وصفه المؤلف والناقد سيجلماسي بأنه ممثل عملاق، مستدلًا على ذلك بمشاركته في أفلام أصبحت تشكل علامات بارزة في التاريخ السينمائي، مثل " شمس الضباع" و"رماد الزريبة" و"عرس الدم" و"تاغونجة" و"حلاق درب الفقراء" و"بامو".

كل هذه العناوين تحيل على أعمال سينمائية معروفة، مازالت موشومة في ذاكرة متتبعي الحركة الفنية بالمغرب، في ارتباطها مع الحبشي كوجه فني لاتخطئه العين، وسط العديد من الممثلين، إذ كان يتميز بأداء خاص في التشخيص جعل كبار المخرجين المغاربة يفضلونه لتأدية أدوار البطولة السينمائية.

الحبشي من مواليد الحي الشعبي درب السلطان بمدينة الدار البيضاء عام 1939، لكنه توقف مبكرا عن الدراسة ليلتحق سنة 1958 بالمركز المغربي للأبحاث المسرحية بالرباط، حيث أبان عن قدراته كممثل موهوب بشهادة جميع أساتذته.

ورغم ما راكمه من تجارب مسرحية وسينمائية، جعلت منه ممثلا مشهورا، فقد انسحب فجأة، وسط دهشة متتبعيه، لينصرف الى الفلاحة بعد "تحسن شروط عيشه نسبيا"، حسب الكتاب بفضل الإرث الذي خلفه له والده في شكل أراض زراعية بمنطقة النواصر، (ضواحي الدار البيضاء)، ولم تنفع معه محاولات المخرجين للعودة باستثناء الممثلة ثريا جبران التي أقنعته بمشاركتها في مسلسل "لاباس والو باس" التلفزيوني مع المطرب عبد الوهاب الدكالي، من إخراج حسن غنجة.

حميدو نجم في هولييود
سطع نجم الممثل المغربي أحمد بنمسعود، ولقبه الفني حميدو، عاليا في سماء الشهرة الدولية، بعد أدائه للدور الرئيس في فيلم " المخرج الفرنسي كلود لولوش "الحياة، الحب، الموت"، في سنة 1968، وكان ذلك مالفت إليه أنظار صناع السينما الكبار في هولييود.

فقد أصبح حميدو المولود في الرباط يوم الثاني من اغسطس في سنة 1935، بفضل هذا الفيلم اسمًا متداولا بقوة، وهو الذي كان قد بدأ حياته الفنية كممثل بفرقة مسرحية تابعة لإذاعة "راديو ماروك" في الخمسينيات من القرن الماضي، تحت إشراف المرحوم عبد الله شقرون.

قاده طموحه وعشقه للتمثيل للهجرة إلى باريس، وهناك التحق بمعهد الفن الدرامي، وسرعان ما تخرج منه بحصوله على الجائزة الأولى في التشخيص، لتنطلق مسيرته المسرحية والسينمائية.

نظرا الى اقتناع المخرج الفرنسي لولوش به كممثل حقيقي، فقد أسند إليه أداء الأدوار الرئيسة في 13 فيلما سينمائية، أولها "تفرد الإنسان"، وآخرها فيلم "والآن سيداتي سادتي" الذي التقطت بعض مشاهده في مدينة فاس المغربية.

وفي حوزة حميدو أكثر من خمسين فيلما سينمائيا، من بينها أفلام أميركيةً وقف فيها أمام كبار نجوم السينما في هوليوود، إضافة إلى أشرطة سينمائية ألمانية وإيطالية ومغاربية، مثل"شمس الربيع" و"ظل الحارس" و"شامبانيا مرة" و"كوماني" وللاحبي".

توفي بنمسعود بباريس يوم 19 سبتمبر 2013، بعد معاناة مع المرض. وهو والد الممثلة والمخرجة سعاد حميدو المقيمة بفرنسا، وسبق له الاشتغال تحت امرة ابراهيم السائح في دبلجة الأفلام الهندية وغيرها إلى العامية المغربية في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي.

محمد مجد.. الممثل الهادئ
احتفى كتاب سيجلماسي بمحمد مجد المولود بالدار البيضاء سنة 1940، والمتوفي فيها يوم 24 يناير 2013، واصفا إياه بأنه من الممثلين المغاربة القلائل، الذين لايمكن نسيانهم بسهولة، وذلك باعتبار ان هذا الممثل الهادئ يملك قدرة هائلة على تقمص مختلف الشخصيات والأدوار السينمائية.

تعتبر مسيرة هذا الممثل الكبير الممتدة على مدى نصف قرن، غنية بالمحطات والتجارب المختلفة، سواء في المسرح أو التلفزيون والسينما، تترجمها حصيلته المزدحمة بالكثير من الأفلام والمسرحيات والمسلسلات التي يستحيل رصدها كلها، نظرا الى تنوعها.

ومن أشهر الأفلام التي شارك فيها، يمكن ذكر "صلاة الغائب" و"علي زاوا" وعود الريح" و"الرحلة الكبرى" و"في انتظار بازوليني" و"سميرة في الضيعة" و"عود الريح"، وكان الفيلم الأخير فاتحة خير عليه، عقب حصوله على جائزة أحسن تشخيص بمهرجان القارات الثلاث بمدينة نانت الفرنسية، فقد تقاطرت عليه الأدوار، حتى أصبح وجهًا مألوفا مرتبطا بالتكريمات والجوائز في مختلف الملتقيات السينمائية الوطنية والعربية والدولية.

محمد ركاب..المرتبط بالمجتمع
آخر فنان استعرض كتاب سيجلماسي مساره الفني هو محمد ركاب، المخرج السينمائي الذي شكل تجربة مختلفة قوامها الصدق في التعامل مع نبض الواقع الاجتماعي، وهو الأمر الذي تجسد بشكل واضح في فيلميه "رماد الزريبة" في منتصف السبعينيات، و"حلاق درب الفقراء" في مطلع الثمانينات.

اتسمت حياته بالصراع مع المرض "بشجاعة وايمان وأمل إلى ساعة الانطفاء الأبدي"، حسب تعبير المؤلف، وعاش ظروفا مادية قاسية في طفولته، نتيجة موت الأب، واستطاع أن يتغلب على كل تلك المعوقات بعد تخرجه من المدرسة العليا للسينما بموسكو بدبلوم في التصوير السينمائي.

بعد عودته الى المغرب التحق بمؤسسة الإذاعة والتلفزيون المغربية، منتجًا ومصورًا لباقة من الأشرطة الوثائقية والسهرات والمسرحيات، ما أكسبه خبرة فنية واسعة لم يبخل بها على شباب وطلبة معهد الفن الدرامي بالبيضاء، والمعهد العالي للصحافة بالرباط.

وخلص الكتاب إلى القول إن الركاب عاش السينما لا كوسيلة تسلية ديماغوجية، بل كأداة إبداعية، تساهم في نشر الوعي بقضايا المجتمع المختلفة، قب