في بعض التحف الفنية، يكون الفنان هو ذاته المهندس؛ إذ تحمل نماذج لرسائل تتناقلها الأجيال ليصل المُراد منها مهما طال الزمن، فيكون غموضها معادلًا لشهرتها أحيانًا.

"إيلاف" من بيروت: ثمة لوحات لا يقل غموضها عن شهرتها، والنظر إليها يشبه الغوص في أعماق بحرٍ مظلم، فلا تدري أي أسرار يمكن أن تلمح عيناك لتثير فيك شعورًا زائدًا بالغموض، يقابله صمت مطبق لهذه اللوحات ومن رسمها.

الفلسفة والعجب

منذ العصور القديمة، انقسم الفلاسفة حول أولوية العجب بصفته شرطًا أساسيًا للتفكير العميق. وفي حين أصر أفلاطون على أن "الفلسفة تبدأ في العجب"، ورأى أن العاطفة أساسية للفكر، إلا أن الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت كتب في أطروحته الفلسفية الأخيرة "شغف الروح" في عام 1649 أن العجب يشبه مجموعة من عجلات التدريب لفهم عميق، قد تجعلك تتحرك في الاتجاه الصحيح، لكنك لا تريد أن يراك الآخرون تعتمد عليها.

تقول العالمة والشاعرة الكندية-الأميركية ريبيكا إلسون، التي توفيت في عام 1999 عن 39 عامًا، إن العجب ليس عائقًا أمام المعرفة، لكنه التزام فكري أُخذ على محمل الجد. مع ذلك، في بعض الأحيان، تعترف إلسون بأنها تغفل عن هذا الواجب لتظل وفية لقوة العجب.

جوزيف رايت من دربي

اشتهر الرسام البريطاني جوزيف رايت من دربي في عصر التنوير باستخدامه تأثير الجلاء والقتمة الذي يشير إلى التناقض بين الضوء والظلام، وباستخدامه الشمع لإضاءة الموجودات في لوحاته. كان الاكتشاف الأخير في عام 2019 للوحة لم تكن معروفة للمؤرخين في مجال الفن، سببًا بحد ذاتها وراء الرهبة، ويظهر فيها صبيان يختبران كيسًا مضيئًا يملأه الهواء.

صبيان ينفخان كيسًا قرب الشمعة لجوزيف رايت

ارتبط اسم جوزيف رايت من دربي بما يُسمى "جمعية القمر"، وهي رابطة شهيرة جمعت الرواد من العلماء والصناعيين في القرن الثامن عشر، والذين جذبت أمسياتهم المقمرة المليئة بالحيوية والتجارب المتطورة مجموعة من العلماء البارزين منهم المخترعان الاسكتلنديان لمحرك البخار جيمس وات وماثيو بولتون وعالم الفيزياء إيراسموس داروين، والخزفي الأسطوري يوشيا ويدجوود وبوليماث جوزيف بريستلي الذي يُعزى إليه اكتشاف الأوكسجين وعازات أخرى.
برسم يعود عمره إلى ما قبل عقد من الزمن من اعتقاد بريستلي بعزل الأوكسجين بشكله الجزيئي O2 (أو ما أسماه "هواء مزعج")، تستحوذ لوحة جوزيف رايت من دربي على سحر عصر كان على أعتاب التقدم في الفهم العلمي لكيفية عمل الكون وأجسادنا.

إن الرعب الذي يتردد في أذهان الطفلين وهما يختبران إلى أي مدى يمكن أن يحبسا أنفاسهما وقدرة أعضائهما على القيام بذلك تمتزج مع تجميد عجب السن أو فترات زمنية معينة من حياة البشر قبل أن تنفجر إلى معرفة تجريبية.

كاسبر ديفيد فريدريش

قبل ما يقرب من نصف قرن على لوحة جوزيف رايت من دربي الساحرة، عرف كاسبر ديفيد فريدريش جلال الطبيعة وجاذبيتها في أثناء تجواله في مرتفعات سكسونيا. ففي لوحاته نرى مسحة روحانية صوفية واضحة لا تخلو من حزن.

يعتبر البعض لوحته "رجلان يتأملان القمر" أوضح أنموذج لعالمه الذي يسكنه حب الطبيعة، كما يظهر بها رؤيته التأملية الروحانية. يلفت انتباهنا من النظرة الأولى جمال القمر الذي ينثر نوره الهادئ في الأفق، وشجرة السنديان الضخمة التي تبعث أفرعها الشبيهة بالمخالب على الرهبة، يخيل إلينا أن هذه الأفرع تتحرك نحو الرجلين لتطبق عليهم. لكن، على الرغم من ضعف الإنسان أمام قوة الطبيعة، فهو أسير سحرها.

رجلان يتأملان القمر لكاسبر ديفيد فريدريش

يمكن اعتبار هذه اللوحة أنموذجًا لعالم فريدريش المسكون بحب الطبيعة إلى درجة التقديس، وبالميل إلى الروحانية والتأمل. وفيها نرى رجلين يرتديان ملابس سكان المدن، يقفان بمحاذاة الطريق، يحدقان في ضوء القمر الذي يلقي بوهجه الأرجواني على المكان.

قد يُخيل للناظر أن هذا القمر الذي يتضخم أمام أعينهما، بالمعنى الحرفي، هلال صامد، لكنه في الحقيقة مجرد استعارة متوهجة أخرى لروحهما المتسعة، حيث إن الشخصين يبدوان كما لو أنهما يخطوان خارج الحيز المكاني الذي يقفان فيه، أو كأنهما يبحثان عن شيء ناءٍ لا يمكن بلوغه، إضافة إلى الحضور الدائم للقمر وأشجار السنديان وكذلك الأفق الذي يتعمد الفنان جعله منخفضًا بشكل غير مألوف لإبراز قرب السماء وسيطرتها في مشهد عجيب يمكن العقل تحسسه، على الرغم من تلبثه بالغموض.

ليليان توماسكو

قبل قرن من تعبير أينشتاين عن قلقه من أن العلم "هو في الواقع هروب مستمر من العجب"، شكا الشاعر الإنكليزي جون كيتس من أن المنطق التجريبي "سيقطع أجنحة الملاك" و"يقهر كل الألغاز بالسيادة والحكم".

وقال كيتس إن النتيجة المحزنة لهذا الغزو هي تأثير العلم، وهي قتل العجب و"تفريغ الهواء المسكون" و"إزالة قوس القزح".

بعد مرور قرنين على تعبير كيتس عن مخاوفه بشأن زوال الرهبة، أعادت ليليان توماسكو، الرسامة التجريدية المولودة في زيوريخ، حلم إضاءة الظلمة.

سلسلة أعمالها الحديثة الرائعة بعنوان "أميغدالا"، أو اللوزة الدماغية التي تتحكم في العواطف (بما في ذلك السعادة والخوف والقلق والرهبة)، هي مجموعة متشابكة من الحماس المفرط في مواجهة جمال العالم والمخاطر، وتعرض لوحاتها رحيلًا من التناغم إلى التنافر، ومن الصمت إلى الضجيج، ومن الوضوح إلى الغموض.

يستطيع فن توماسكو الكشف عن وجودنا وحضورنا من دون الحاجة إلى أن يكون وصفيًا، لأنه يترك لنا مكانًا للحدس واستخدام أحاسيسنا؛ إذ ينتقل بين الممرات السريعة للمخ التي تتصور الظواهر العجيبة للكون وشرائط الضوء المنكسر لقوس القزح، التي تثير رعبنا.

في رؤيتها للضبابية والغموض، تتوقف الروح عن العد بأصابعها غير المرئية وتندمج مع الغموض، وبذلك تتأمل في كيف نتناسب مع النسيج السحري لوجودنا هنا.


أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن "بي بي سي". الأصل منشور على الرابط التالي:

http://www.bbc.com/culture/story/20191219-a-lost-masterpiece-rediscovered