عقدت مؤسسة "بيروت إنستيتيوت" حلقة افتراضية خامسة من سلسلة حلقاتها "إعادة الاستقرار"، استضافت فيها الإعلامية راغدة درغام، المؤسسة والرئيسة التنفيذية لمؤسسة "بيروت انستيتيوت"، كلًا من جهاد أزعور، مدير منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في البنك الدولي، والسفير روبرت بلاكويل، نائب رئيس قضايا الأمن القومي للرئيس ألأميركي السابق جورج بوش والخبير في شؤون الصين والولايات المتّحدة، وأندريه بيستريتسكي، رئيس نادي فالداي للنقاشات، وكيشور محبوباني، السفير السابق لسنغافورة في الأمم المتّحدة مؤلّف كتاب "هل فازت الصين؟".

مزيج من الأزمات

قال أزعور إن العالم يمرّ بالطبع في لحظة من اللحظات التي تمثّل تحديًا كبيرًا، "لأنّنا نشهد على مزيج من الأزمات الأكثر صعوبة التي تواجه الاقتصاد العالمي، وتتمثّل الصعوبة في ارتفاع درجة الغموض، الأمر الذي ينطبق على المنطقة أيضًا التي مرّت بأزمة غير مسبوقة، وهي أزمة مركّبة؛ إذ كان لفيروس كورونا أثرًا كبيرًا في الاقتصاد، الأمر الذي تفاقم نظرًا إلى انخفاض أسعار النفط، ما ترك بلدانًا عدة في ظروف اقتصاديّة واجتماعيّة صعبة، وخلال الأشهر القليلة الماضية رأينا بلدانًا وحكومات تعمل لمساعدة الاقتصاد، والتوصّل إلى توافق بين الحفاظ على حياة الناس وبين سبل عيشهم، ورأينا بلدانًا تعمل في مجال تصدير النفط تحاول التوصّل إلى اتّفاق لتحقيق الاستقرار في السوق ورفع أسعار النفط، لكن لن نتوقّع بالطبع أن تعود هذه الأسعار إلى المستويات التي عرفتها قبل الأزمة، لأنّ معدّل الطلب على المستوى العالمي انخفض، والتعافي التصاعدي السريع والمستدام الذي كنّا نتوقّعه سيكون تعافيًا أكثر انكماشًا وأكثر صعوبة".

تبدلت أنماط الإنتاج

بحسب أزعور، لا بدّ من العمل على 3 جبهات: "كيف سيتمكّن صنّاع السياسات من التوفيق بين التعافي الاقتصادي وتقرير الاستقرار الاقتصادي، ولا سيّما أنّ كثيرًا منهم دخل في ظلّ الأزمة على أسس ضعيفة، وهذا هو التحدّي الأوّل. التحدّي الثاني هو أنّنا نعيش اليوم في عصر عولمة ما بعد عصر الحداثة، فبعض الخصائص التي عرفناها خلال العقد الفائت بالنسبة إلى سلسلة القيمة العالميّة وتسريع التبادلات التجاريّة والاستخدام الكبير للهيدروكربونات تذهب نحو التغير، فكيف نتكيّف مع تبدل أنماط الإنتاج فيما تزداد مساحة التكنولوجيا. أمّا التحدّي الثالث، فنحن في وضع يمكن التحديات الاقتصاديّة أن تؤدّي فيه إلى اضطرابات اجتماعيّة، فكيف نحول ذون ذلك؟، خصوصًا في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وهي منطقة في قلب التبدلات التجاريّة العالميّة، وتصدّر أكثر من 40 في المئة من الحاجات النفطيّة العالميّة".

في أسوأ أحوالها

تحدّث بلاكويل عن العلاقات الأميركية - الصينية "بطريقة علميّة"، من دون أن يعتمد المنظور الأميركي، كما قال، "بل سأسعى إلى توخّي الموضوعيّة بقدر المستطاع. وواقع الحال هو أنّ العلاقات الأميركية - الصينية هي في أسوأ أحوالها منذ نصف قرن من الزمن، فالبلد مرّ بالكثير من التغييرات وأفضى ذلك إلى مواجهة ما سيكون سيّئًا بالنسبة إلى البلدين والعالم، ولعلّ البعض اعتبر أنّ فيروس كورونا يشكّل فرصة كي يتعاون البلدان بهدف التعامل مع هذه الجائحة، إلّا أنّ العكس هو ما حصل".

رد بلاكويل ذلك إلى أسباب خمسة: الأول، القلق الطبيعيّ من حصول الصين على مستوى قوى عظمة؛ الثاني، تمتّع الصين بسياسات خارجيّة عدائيّة أكثر في ظلّ إدارة الرئيس شي جين بينغ في بحر الصين الجنوبيّ وعلى طول الحدود بين الصين والهند والهيمالايا وفي هونغ كونغ، كما بالنسبة إلى خطاب الصين تجاه تايوان وما إلى ذلك؛ الثالث، اتباع الرئيس الأميركي دونالد ترمب سياسة غير متّسقة بالنسبة إلى الصين، فهو يشيد مرارًا وتكرارًا بـشي جين بينغ كقائد عظيم، بينما لا تصدر إدارته سوى قرارات تدين الصين؛ الرابع، القوميّة المتنامية والجاهلة والمتفلّتة في البلدين، فالناس يتحدّثون عن حربٍ حتمية بين البلدين؛ الخامس، غياب أي دبلوماسيّة بين الولايات المتّحدة والصين.

قوة معتلة

أضاف بلاكويل الوضع الآني بين البلدين بأنه غريبٌ فعلًا، "ومع كلّ ما يحدث من مشاكل نرى أنّ الطرفين يتبادلان الاتهامات العلنيّة، ولا يسعني أن أفسّر لمَ هذان البلدان اللذان يشغلان على تدهورٍ حادّ بين العلاقات الثنائيّة لا يسعيان إلى استخدام الدبلوماسيّة طريقة للارتقاء فوق الخلافات".

برأيه، يمكن كلّ طرف أن يكفّ عن التجاوزات والمبالغة في الخطاب لتهدئة النفوس.

وعن قوله إن سمعة الولايات المتّحدة تفيدُ بأنّها قوى عظمة معتلّة، أكد بكلاويل أنه لم يبالغ، "بل في هذا الاصطلاح دقّةٌ فعليّة، فكلّ المحاورين الدبلوماسيين الأميركيين لا يعرفون بكلّ بساطة ما الذي ينوي أن يفعله الرئيس بعد ظهر اليوم، بالتالي لا يمكنهم أن يعتمدوا على أيّ تناغم في السياسة الأميركيّة، ولا يمكن الحلفاء أو أي شخص آخر ذلك ايضًا، وعندما يحدث أمر كهذا، لا شكّ في أنّ البلدان تكون حذرة جدًا في التعاطي مع الولايات المتّحدة".

تحدث بيستريتسكي فقال إنّ خطر حصول حرب بين الولايات المتّحدة والصين هو خطر منخفض إلى حدّ كبير، "بالطبع كلّ الأمور تبقى مطروحة على الطاولة، لكن لا احتمال الحرب، وفي الوقت عينه، المساحة الدبلوماسيّة إلى اضمحلال".

أضاف أن الوقت حان كي نتعلّم كيف نتعايش مع عالم بلا ولايات متّحدة، أو مع ولايات متّحدة كأنّها أيّ بلد آخر، "ويبدو أنّ الولايات المتّحدة نفسها لا تريد أنّ تؤدي بعد اليوم دور القائد العالمي، ولذلك الحلّ الأفضل بالنسبة إلى الجميع هو أن ينتقلوا إلى نظام تفاعليّ، حيث يتفاوض الجميع مع الجميع".

قوة غير غربية

قدم مهبوباني مداخلته، فقال إنّنا نعيش في ظروف استثنائيّة: "أنا أبلغ من العمر 71 عامًا، وفي سنوات عمري الـ 71، هذه هي المرّة الأولى التي أجد نفسي عالقًا في منزلي مدّة شهرين، لا يمكنني أن ألتقي أصدقائي ولا يسعني أن أسافر، ولم أشهد على تجربة مماثلة، أغلق العالم برمتّه أبوابه، وإن كانت الإنسانيّة النوع الأكثر ذكاءً بين المخلوقات، لا بدّ أن نلتئم وأن نجتمع كي نتعامل مع هذه الأزمة، وأن نقتنع بمقولة أنّ عدّو عدّويّ صديقي، فإن كان فيروس كوفيد-19 عدوّ الولايات المتحدة وهو كذلك عدوّ الصين، بالتالي لا بدّ للصين والولايات المتّحدة من أن يتعاونا ليتعاملا مع هذا العدوّ المشترك، لكنّ ذلك لم يحدث كما تعرفون، وهذا بحدّ ذاته يبيّن كيف أنّ الشقاف بين البلدين بات عميقًا وهيكليًّا".

أضاف: "أعتقدُ أنّه كلما تبرز قوة ناشئة ستهّبّ القوى العظمى الأخرى لمواجهتها، إنها المرة الأولى منذ 200 عام نشهد فيها على قوى غير غربيّة تبرز بهذا الشكل، وقد تكون القوى العظمى الأولى في العقليّة الغربيّة. على مرّ أكثر من 200 سنة، جرى تكريس في عقول الناس الخشية من الخطر الأصفر، الخشية من استيلاء بلد شعبه من العرق الأصفر على العالم، وهذا يفسّر بعضًا من دروب انعدام المنطق التي نشهد عليها، ويندرج الأمر في سياق العوامل العاطفيّة غير العقلانيّة، ما يفسّر الأفعال غير العقلانيّة التي نشهدها في هذا الوقت. إضافة إلى ذلك، إنّه لفترة طويلة تعتبر الولايات المتّحدة أنّه في حال التواصل مع الصين، ستنفتح الصين بشكل إقتصاديّ، وبعدها تنفتح بشكل سياسيّ، فتتحول إلى مجتمع ليبيراليّ ديمقراطيّ، وسيكون الجميع سعيدًا. لكن ذلك لم يحصل".

وراهن مهبوباني بـ 1000 دولار "أنّ لا حرب ستقع في السنوات الخمسة المقبلة". وهو رأي بلاكويل أيضًا.

المطلوب هو التعاون

علق أزعور على هذا الرهان قائلًا: "لسنا في قطاع المغامرة والرهانات، عملنا يقضي أكثر بالعمل على تصميم السياسات، وأعتقدُ أنّ تحدّيًا أساسًّا يسيطر على بالنا جميعًا، فهذه الأزمة لا تشبه غيرها، ويتطلّب الإقتصاد العالميّ مستوى كبيرًا من التعاون كي نتمكّن من معالجة مفاعيل هذه الأزمة، ونرى أنّ الأزمات السابقة مثل الحرب العالميّة الثانية أو مرحلة الركود الكبرى أو حتّى ما حصل خلال أزمة عام 2008 تطلّبت تنسيقًا كبيرًا على المستوى الدوليّ، بهدف انتشال الإقتصاد العالميّ من حالته ولاسيما بالنسبة إلى البلدان النامية والناشئة التي لها قدرة أقلّ على الدفاع عن إقتصاداتها، ولذلك هي بحاجة إلى تعزيز التنسيق بشكل أفضل، وما يمكن أن يسمح بخفض مستوى التوترات بين للأطراف المختلفين على الطاولة، ولذلك القمم بين المجموعات كمجموعة السبع ومجموعة العشرين هي خطوة أساسيّة".

وتحدث بلاكويل عن القضية الفلسطينية، فقال إن الولايات المتّحدة لن تفرض العقوبات على إسرائيل بسبب ضمها الأراضي، "فالحكومة الاي اقترحت أن تضمّ إسرائيل أكثر من 35 في المئة من أراضي الضفّة الغربيّة هي حكومة الولايات المتّحدة في خطّة سلام كوشنر".

روسيا بريئة

قال بيستريتسكي: "روسيا تُحاول أن تبني علاقات في سياق المساحة الخاصّة بأوراسيا مع مراعاة دور كازاخستان وأوزباكستان والدول الموجودة في هذه المنطقة، ويعني ذلك أنّ الأمر لا يتعلّق بصورة محدّدة بالعلاقة بين روسيا والصين، يمكن أن نتحدّث عن منظومة من البلدان ومنظومة من العلاقات، لأنّ البلدان كثيرة في مناطق العالم الأخرى ما خلا الصين والولايات المتّحدة، ولها نفوذ. نُعطي أمثلة خاصّة بإيران وتركيا وبعض البلدان الأوروبيّة، هي البلدان صاحبة النفوذ وهذا هامٌ جدًّا بالنسة إلينا نحافظ على العلاقات معها، وأعتقد أنّه مبالغة في التبسيط أن نتحدّث فحسب عن العلاقات بين روسيا والصين، فالأمر أكثر تعقيدًا من ذلك. روسيا تعمل بصورةٍ مستقلّة وهي تسعى إلى تحقيق توازنٍ جديد، لا إتّحاد مباشر أو ربما علاقة رحم بين عاصمتين.

وعن الاتهامات التي تساق لروسيا بالتدخل في الانتخابات الأميركية، قال: "أعرف قطاع التكنولوجيا الروسي، ويبدو لي أنّ ما يُساق ضرب من الاساطير. بالطبع، ذلك مفيد كمزاعم تُستخدم في الصراعات الداخلية ومن القوى السياسيّة المختلفة، لكن أعتقد أنّ النفوذ الروسيّ غائب عن الولايات المتّحدة".

وضع خطر

علق بلاكويل على المظاهرات وأعمال الشغب في الولايات المتحدة، فقال: "كلّ جيل يعتقد أنّه يقف عند نقطة تحول، ومعظم الأجيال لا تكون عند نقطة تحول، وهذا وضع خطر بالفعل في الولايات المتّحدة، لكن الخطأ الذي غالبًا ما يرتكبه الأجانب بالنسبة إلى الولايات المتّحدة هو الشّك في قدرتها على مواجهة الصدمات".

أضاف: "كنت اقول لأصدقائي الاوروبيين أنّهم لا يحلّون المشاكل فحاولوا أن يحلّوها منذ 50 عامًا وفشلوا، في حين أنّ الولايات المتّحدة تُعيد الكرّة وتحاول أن تحلّ مشاكل حاولت أن تحلّها منذ خمس سنوات وفشلت وذلك لأنّها نسيت أنّها حاولت ذلك، لكن السؤال يبقى: هل جرى أيّ تحول جوهريّ في الداخل الامريكيّ على المستوى الدوليّ؟ لا.

الأكثر تنوعًا

قال مهبوباني: "في العالم منطقة واحدة كان يجدر بها أن تكون محور النزاعات، وما كان يجدر بها أن تكون منطقة الشرق الأوسط، كان يجدر بها أن تكون جنوب شرق آسيا، المنطقة التي اعتمدناها لأنّها الأكثر تنوعًا في العالم، حيث يعيش 650 مليون شخص و250 مليون مسلم و150 مليون بوذي، وهناك الهنديّة والطاويّة والكونفوشيوسيّة وغيرها.. كان يجدر بها أن تكون محور النزاعات في العالم، لكن تبيّن أنّ هذه المنطقة ومنظماتها الإقليميّة هي ثاني أنجح منظّمة في العالم".

أضاف: "لماذا؟ سأخبركم سببًا واحدًا، نجحنا في منع الحروب في منطقتنا، وقمنا بإنشاد ثقافة من البراغماتيّة ومن التوفيق، وأنا شخصيًا أعتقد أن على الرغم من أنّ الكثيرين يعتقدون أنّ في حال خرجت الولايات المتّحدة من الشرق الأوسط ستسوء الأمور، أعتقد أنّ خروج الولايات المتّحدة من المنطقة سيعطي فرصه للمبادرات المستقلة الأصلية المتأصلة في المنطقة كي تبصر النور. جرّبنا كل هذه الحروب ولم تجد نفعًا، فلنجرّب البديل".

الحلقة الافتراضية الخامسة لـ "بيروت إنستيتيوت" بالصوت والصورة منشورة هنا.