إيلاف من أصيلة: استحضر المشاركون في ندوة "الشيخ زايد: رؤية القائد المتبصر"، المنظمة في إطار موسم أصيلة الثقافي الدولي الـ42 "،على امتداد اليومين الماضيين "ذكرى وصورة زعيم عربي وقائد فذ، لم تنقطع الإشادة بمناقبه الطيبة، وسيرته العطرة، في مختلف المحافل الفكرية والسياسية، بالوطن العربي وخارجه، منذ أن غادر هذه الدنيا في مثل هذا الشهر من عام 2004"، وفق ما جاء في الكلمة الافتتاحية للندوة التي القاها محمد بن عيسى، عام مؤسسة منتدى أصيلة.
وتطرق المشاركون للجوانب المميزة من شخصية وتجربة الشيخ زايد، في أبعادها الوطنية والقومية والإنسانية، من خلال شهادات ومقاربات تحليلية وحوارات مفتوحة.

الحاجة الى زعامات من طراز الشيخ زايد
وقال بن عيسى إنه "كلما مر الوقت، وتغيرت الأحوال، وتأزمت الأوضاع، وكثرت المستجدات في المنطقة العربية، إلا واشتدت الحاجة إلى زعامات من طراز الشيخ زايـد، وعمّنا شعور جماعي بالرغبة في استعادة سيرته، للتأمل في ملامحها المتفردة، والتمعن في أسلوب بناء دولته وكيف قادها، في ظرف سياسي حرج، ميزه زخم إقليمي ودولي، لم يكن أقل توترا وغليانا من الذي نعيش تبعاته في الوقت الراهن".


محمد بن عيسى يلقي كلمته الترحيبية

وذكر بن عيسى أن الشيخ زايد "تميز قيد حياته وحكمه المديد، بالتعاطي مع العديد من العواصف والأزمات، بحكمة السليقة وصفاء الذهن جلب عليهمامزايا خِلْقية جعلته يزن القضايا بميزان الحق والإنصاف، دون مبالغة أو تهويل، ولا تبخيس لقيمتها بل وخطورتها".
ورأى بن عيسى أن ذلك التوازن الدقيق بين فكر ومنجزات الغرب وخصوصيات ومقومات الأمة العربية والحضارة الإسلامية الذي ميز نظرة الشيخ زايد هو الذي جعل الباحثين والمحللين السياسيين يضفون عليه، من خلال أعماله، "صفة القائد الفذ" طالما وزع الحكمة، وبشر بفضائلها مطبقا لها في كل شأن، كبر أو صغر، يتعلق بأمته ومصلحتها الآنية والمستقبلة".
واستحضر بن عيسى ما كتب وقيل عن أسلوب قيادة الشيخ زايد؛ مشيرا إلى أن المؤلفين والباحثين أرجعوا نجاح المشروع التاريخي، غير المسبوق، لأسباب واعتبارات في طليعتها الفضيلة التي ميزت شخصية الراحل الكبير. هي ما يصطلح عليه في الأدبيات السياسية المعاصرة بـ"القوة الناعمة" التي طبعت مسار قيادات وزعامات استثنائية ظهرت في فترات تاريخية مفصلية، في الشرق والغرب، غيرت مسار أممها وشعوبها، وحققت لها طموحاتها في التقدم والازدهار.
ولاحظ بن عيسى أن "القوة الناعمة"، التي ميزت كل خطوات الشيخ زايد وقراراته الكبرى، اتسمت أيضا، بــ"التريث وبعد النظر وحصافة الرأي، وعدم الحرج من النقد الذاتي، والقيام بالتصحيح والمراجعة إذا لزم الأمر، مستحضرا كل العناصر والتفاصيل الصغيرة قبل الحسم".
وتحدث بن عيسى عن العلاقة التي جمعت الشيخ زايد بالمغرب، مشيرا إلى أن هذا الأخير، مدين بالأيادي البيضاء الكثيرة للشيخ زايد: بكرمه ومؤازرته للمملكة وشعبها، في ظروف الشدة التي "فرضها علينا الجوار الجاحد".

الرؤية المستقبلية.. تحقيق إنجازات عالمية
من جانبه، تحدث الشيخ عبد الله بن زايد وزير الخارجية والتعاون الدولي في دولة الإمارات العربية المتحدة، في كلمة ألقتها بالنيابة عنه ،عبر تقنية الفيديو، ريم الهاشمي وزير الدولة لشؤون التعاون الدولي، عن احتفال الإمارات العربية المتحدة بعيد اتحادها الخمسين مع التطلع إلى المستقبل بطموح وتفاؤل.
وأشار الشيخ عبد الله بن زايد إلى أن الرؤية المستقبلية للشيخ زايد مكنت أبناء وحكومة الإمارات العربية المتحدة من تحقيق إنجازات عالمية.
وأوضح أن النظرة الاستراتيجية الأولى والشاملة التي تميز بها الشيخ زايد منذ أن تولى رئاسة دولة الإمارات العربية المتحدة في ديسمبر 1971، كان لها الأثر الكبير في كل ما أنجزته الإمارات حتى اليوم، مشيرا الى أن التمسك بهذا البعد الاستراتيجي لفكر الشيخ زايد مكن الإمارات من الوصول إلى الفضاء لاكتشاف المريخ.
وذكر وزير خارجية الامارات أن الشيخ زايد حرص منذ بداية تأسيس الدولة على أبعاد تنموية أدت إلى إحداث تغييرات جدرية ومنهجية في التخطيط والإدارة والحكامة والتنمية المستدامة والبيئة، مع الحرص على تنمية الرأسمال البشري، كما كان للسلام دور في تحقيق هذه الرؤية من أجل الخير ومصلحة الإنسان في الإمارات وفي كل مكان.

شخصية غير عادية
من جهته، قال مبارك إبراهيم الناخي وكيل وزارة الثقافة والشباب في الامارات في كلمة القاها نيابة عن نورة الكعبي وزيرة الثقافة والشباب، إن الندوة التي تحتفي بالشيخ زايد "تعكس حجم العلاقات الاستراتيجية المتميزة" بين دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة المغربية، والتي كرسها الشيخ زايد بن والملك الراحل الحسن الثاني، والتي "تسير نحو غد مشرق وبخطى ثابتة".
وأشار الناخي إلى أن "الشيخ زايد لم يكن شخصية عادية، بل كان قائدا ومعلما وأبا لكل إماراتي وعربي، كما كان يحمل في قلبه من العزم والطموح ما وضع دولة الإمارات في مقدمة الدول، بفضل حكمته وبصيرته بتأسيس علاقات وثيقة مع مختلف دول العالم، وبالأخص المملكة المغربية".
وأكد الناخي أن الشيخ زايد وضع قبل نحو خمسين عاما أسسا ثابتة وراسخة للدولة، فيما تتطلع القيادة الحالية إلى الخمسين عاما المقبلة بعزم وطموح وتصميم، من خلال حرصها على مستقبل أفضل في شتى المجالات والقطاعات، ومن بينها القطاع الثقافي الذي يعد واحدا من أبرز القطاعات الاستراتيجية التي تلقي الضوء على المنجزات التي تحققت منذ تأسيس الدولة وحتى اليوم، وذلك بشراكة وتعاون مع العديد من الدول البارزة في هذا المجال، ومنها المملكة المغربية.

الرؤية الحكيمة والنزعة الانسانية
من جهته، قال زكي أنور نسيبة، المستشار الثقافي لرئيس الدولة الرئيس الأعلى لجامعة الإمارات العربية المتحدة، في كلمة مصورة، أنه خلافا لرجال عرفوا بدولهم لأنهم قادوها ونهضوا بها، وآخرون عرفوا بدولهم أيضا لأنها دعمتهم وقدمتهم للعالم، ثمة قادة انتصرت الآفاق لطيب ذكرهم بسبب رؤيتهم الحكيمة ونزعتهم الإنسانية التي تتجاوز حدود السياسات والدول.
وأشار نسيبة إلى أن "الشيخ زايد تفرد من بين الزعامات السياسية العالمية وألهم الشعوب في بلده وفي الخارج من خلال رؤيته السياسية وبوصلته الأخلاقية القوية وتفانيه في التخفيف من معاناة البشرية لتصبح دولة الإمارات العربية المتحدة اليوم واحدة من أكبر ثلاثين اقتصادا في العالم".
وقال نسيبة إن الإمارات العربية المتحدة استطاعت خلال فترة وجيزة من الزمن، وكما كان ينشد الشيخ زايد، أن تبني مجتمع الرفاهية والازدهار الذي يضاهي أكثر الدول الحديثة تقدما، وأن تتبوأ مركزا رياديا على الساحتين الإقليمية والعالمية، وأن تقوم بدور مسؤول وفاعل على المسرحين العربي والعالمي، وتساهم في جهود الأمن والاستقرار في المنطقة.
وأضاف نسيبة أنه لا يمكن الحديث عن الوحدة وسياسة الإمارات الداخلية والخارجية دون ذكر الرؤية الحكيمة للقائد المؤسس، وهي الرؤية التي رفضت القبول بالواقع المرير الذي كانت تمر به البلاد في سنوات العزلة والوهن.
وذكر نسيبة أن الشيخ زايد عمل على ترجمة مبادئه وأفكاره على الاتحاد والتعاون والمساندة المتبادلة إلى أفعال.
ورأى نسيبة أن الشيخ زايد هو "من عظماء التاريخ، لديه الرؤية الخلاقة والمنهجية المناسبة، يجسد آمال وطموحات تطلعات شعبه ويحول أحلامه إلى حقيقة".
كما شدد نسيبة على أن الشيخ زايد "لم يكن سياسيا صرفا كأغلب سياسيي العالم، بل كان أصدق من ذلك وأنبل، سياسيا، إنسانا وقائدا حكيما وحاكما عادلا، وإلى جانب ذلك كله شاعر رقيق الفؤاد ووالد كريم الشمائل وبدوي سمح المشعر أحب كل العالم فأحبه العالم كله".
واستعرض نسيبة جملة من التحديات التي واجهت الشيخ زايد على درب مسيرة البناء منذ توليه مقاليد الحكم، كما تحدث عن الأبعاد التي ميزت مسيرته القيادية، محليا وعربيا وإنسانيا، معددا خصاله، متحدثا عن الحكمة والاعتدال والمروءة والشهادة والعطاء والنبل والتواضع ورحابة الصدر، مع الحزم والحسم عند الحاجة.
كما عدد نسيبة عددا من مناقب الشيخ زايد، فقال عنه إنه "مدرسة ومؤسسة وثقافة وأسلوب حياة ونظام عمل وعقيدة ركيزتها التضحية والسهر على راحة الآخرين. زرع سنابل الخير والأمل والوفاء في كامل ربوع الإمارات، ونحن نحصد اليوم بفضله ما حققته دولة الإمارات".

المسيرة الخضراء ومبادرة الخمسين سنة القادمة
من جهته، قال علي راشد النعيمي، عضو المجلس الوطني الاتحادي رئيس لجنة الدفاع والداخلية والشؤون الخارجية بدولة الإمارات العربية المتحدة، إن الحديث عن الشيخ زايد يثير شجونا خاصة بالنسبة لكل إماراتي.


وربط النعيمي حدث الاحتفاء بالشيخ زايد في أصيلة بمناسبتين: ذكرى المسيرة الخضراء التي رسخت وحدة تراب المغرب ، والتي وجدت في حينها مباركة من الشيخ زايد، تجسدت بمشاركة ابنه الشيخ محمد بن زايد في تلك المسيرة المباركة، التي ستبقى في الذاكرة الحية للمغاربة على مدى التاريخ. وزاد النعيمي قائلا إن احتفاء المغرب بهذه المناسبة هو كذلك احتفاء إماراتي.
أما المناسبة الثانية، فتتعلق بإطلاق الإمارات مبادرة الخمسين سنة القادمة من خلال عشرة مبادئ، عبر الاحتفاء بمرور خمسين عاما على إنشاء دولة الإمارات العربية المتحدة.

قيادة سياسية افعالها تسبق اقوالها
وقال النعيمي إن الشيخ زايد مثل قيادة سياسية أفعالها تسبق أقوالها، وإذا وعد أوفى.
واستعرض النعيمي بعض ملامح الشيخ زايد، مشيرا إلى أنه أول شخصية عربية تمكنت من إنجاح الوحدة العربية الوحيدة، كما أنه كقائد عربي وزعيم عالمي، على المستويين العربي والكوني، كان دائما جزءا من الحل، حيث كان متفائلا، حاملا لنفْس ونظرة إيجابية.
أما مراد زوين، أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، فتطرق إلى عقيدة من بين عقيدتين سكنتا الشيخ زايد، الأولى هي العقيدة الوحدوية والثانية عقيدة الإصلاح والتحديث.
وقبل التوسع في حديثه عن عقيدة الوحدة، دعا زوين للعودة إلى الأحداث التي طبعت مرحلة ما بين الحربين، ثم النصف الثاني من القرن، التي تشكل الوعي والخلفية السياسية للشيخ زايد، أوجزها في انتشار ثقافة التحرر من الاستعمار، وظهور فكرة القومية في الوطن العربي، والحرب الباردة، وهزيمة 1967، ثم حرب أكتوبر 1973، وأخيرا الوعي بأهمية تحديث البنيات التحتية بعد اكتشاف البترول بالمنطقة.

التحولات وتأسيس الدولة
وأشار زوين إلى أن هذه التحولات والمستجدات كانت دافعا للتكتل والخروج من الكيانات الصغيرة والإمارات المتناثرة، إلى تأسيس الدولة والسعي نحو قيام الدولة.
وشدد زوين على أن هذا الإحساس كان خلفية فكرية وسياسية تحكمت في وعي الشيخ زايد، وهو ما يظهر بجلاء في خطبه وممارساته السياسية إقليميا وعربيا.
وفي جلسة اليوم الثاني للندوة ، التي سيرها راشد العريمي، المستشار الإعلامي بديوان ولي عهد أبو ظبي، الأمين العام السابق لجائزة الشيخ زايد ورئيس تحرير جريدة "الاتحاد" سابقا، جرى تناول الصفات القيادية للشيخ زايد، وأبرزها البصيرة التي تميز بها، والتي تمثل القدرات العقلية والحدس السليم في تحليل الأمور وفهمها واستشراف المستقبل على إثر إدراك هذه القدرات والحواس؛ حيث تحتاج الحقائق السامية دائما إلى بصيرة تعجز عنها الحواس التقليدية الظاهرة. البصيرة التي تمثل بالنسبة لعظماء الرجال معيارا لمقياس للإنسانية، وبالتالي فبدون بصيرة لا تكتمل إنسانية الإنسان.

الحس الانساني الاستثنائي
من جهتها ، قالت الصحافية المغربية فاطمة نوك، إن في سرديات عطاء الشيخ زايد وقربه من الناس "قصص كثيرة حكاها من اشتغل إلى جانبه، ومن جمعته به أحداث أو حتى صدفة، ويوم رحيله، كان لهم يوم يتم وحزن كبير، ومن هؤلاء عرفت رجلا همه الإنسانية".
واشارت نوك الى الحس الإنساني الاستثنائي الذي تمتع به الشيخ زايد ، وقالت إنه جعل سيرته ندية وعطرة وحية بعد وفاته.
وركزت نوك على نقطتين: رؤيته للعمل الإنساني، ودعمه الاستباقي لدور المرأة، وقالت انهما تؤكدان أنه "كان رجلا سابقا لعصره".

انصاف رؤياه في مهدها
أما هيثم الزبيدي، ناشر ورئيس تحرير جريدة "العرب "اللندنية، فقال إنه يبقى "من السهل اليوم امتداح الشيخ زايد"، وأن "ما قام به يشهد"، حيث أن أي شخص يزور الإمارات اليوم يستطيع أن يرى ما فعله الشيخ زايد في الدولة، وكيف أقيمت الدولة.
وحث الزبيدي على النظر إلى بذرة نشأة الاتحاد في حينه، عبر الاستماع إلى شهادات معاصريها، ذاكرا منهم الشيخ سلطان بن محمد القاسمي باعتباره أحد المعاصرين لتلك المرحلة .
وقال الزبيدي إن من الأشياء اللافتة الاطلاع على وثائق تلك المرحلة، وعندما ننظر إلى الشيخ زايد وكيف كان يفكر ويتصرف وقتها، نكون قد أنصفنا رؤياه في مهدها وليس بنتائجها، وبالتالي كيف استطاع أن يرى الاتحاد وماذا يمكن أن يحقق؟

الشغف الشعري والحلم الاماراتي
من جهته ، قال عبد الله ولد اباه، الاستاذ والباحث الجامعي الموريتاني، في كلمة ألقيت بالنيابة عنه ، إن الشيخ زايد عرف عنه شغفه بالشعر، الذي هو الشعر ديوان العرب ومستودع حكمتهم، مشيرا إلى أن في شخصيته الشعرية الثاقبة والمتبصرة ما دفعه إلى الحلم، لا بمعنى الخيال المستحيل، بل بمعنى شجاعة الإبداع وبعد النظر. ورأى ولد اباه أن حلم الإمارات الحديثة كان من إبداع الشيخ زايد وحصيلة نور بصيرته.
وشدد ولد اباه على أن قيام الاتحاد الإماراتي يظل من الإنجازات والمكاسب التي يعتز بها عموم العرب، مشيرا إلى أن هذا الاتحاد صمد بل تعزز وتوطد، وأصبح في مأمن من التفكك والتراجع، على عكس ما توهم الكثيرون.
ورأى ولد اباه أن هذه "الهندسة السياسية الفريدة التي جمعت بين الوطنية الصلبة والخصوصية المحلية تشكل درسا لا يزال جديرا بالاحتذاء والدرس في عالمنا العربي الذي فشلت فيه كل تجارب الوحدة بين الكيانات الوطنية، بل إن حركية التمزق والانفصال تتفاقم في أيامنا أكثر من أي وقت مضى".