إيلاف من بيروت: يشكل لبنان المنهار اقتصاديًا وماليًا بيئة خصبة لنمو جرائم الاتجار بالبشر وانتشار عصاباتها التي استغلت فقرا متعدد الجوانب والأوجه، يطال أكثر من 75 في المئة من المجتمع، وفق تقديرات الأمم المتحدة.

وسعت تلك العصابات نشاطها وسط تحذيرات من أن يتحول لبنان إلى مقر ومعبر لإحدى أسوأ أنواع الجرائم البشرية، تمثل ثالثة أكبر تجارة إجرامية في العالم، بعد المخدرات والسلاح غير المشروع، حتى أطلق عليها وصف "الرق المعاصر".

خدمات دليفري

بحسب "الحرة"، ضجت وسائل الإعلام في التاسع من سبتمبر الماضي بخبر إحباط الأمن اللبناني عملية بيع طفل سوري الجنسية، وضبط أفراد عصابة مسؤولة عن العملية في جونية شمال بيروت، أوقف على أثرها 6 أشخاص. ولم تكن الحادثة الأولى من نوعها، إذ سبق لمكتب مكافحة الاتجار بالأشخاص، عام 2019، أن أوقف عملية بيع طفل سوري، يبلغ من العمر نحو ثلاث سنوات مقابل 8 آلاف دولار أميركي.

رصدت تقارير إعلامية عدة حالات يعرض فيها الأهل أولادهم للبيع، لأسباب مادية، بعد عجزهم عن تأمين معيشتهم ومصروفهم وسط الغلاء الفاحش في البلاد... من تجارة الأطفال إلى توريط القاصرين، ومن استدراج الفتيات إلى استغلال أفراد العائلة وتشغيلهم، وصولاً إلى خدمات "الدليفري" و"الدعارة أونلاين" عبر التطبيقات، وليس انتهاء عند المزادات العلنية على البكارة وتأمين طلبات "الجنس الجماعي".

في 16 أكتوبر الماضي، كان لافتاً خبر توقيف عصابة اتجار بالبشر تجبر فتيات سوريات على العمل بالدعارة قسراً... ستة موقوفين بينهم ثلاثة شبان، لكل منهم دور يلعبه. الأول "فضل" يسهل أعمال دعارة لعدد من الفتيات السوريات اللواتي يعملن لصالح القواد "أبو شاكر"، وهو شخصية مجهولة الهوية بالنسبة لقوى الأمن. والثاني يدعى "علاء"، مهمته تأمين سائقين لاصطحاب الفتيات إلى المواقع التي يوجد فيها الزبائن، والثالث يدعى "راغب"، كان يستلم جوازات سفر الفتيات السوريات لدى وصولهن إلى لبنان، ويحتجزها طيلة فترة إقامتهن، منعاً لهروبهن، كما جاء في تقرير "الحرة"

فتيات في شباك العصابات

أظهرت التحقيقات أن اثنتين من الفتيات أجبرتا على أعمال الدعارة، بعد أن استغل "فضل" حاجتهما للمال وللمأوى، كما أقرتا بأنهما كانتا تتعرضان للتعنيف اللفظي والجسدي في كل مرة كانتا ترفضان ملاقاة الزبائن، وممارسة الجنس معهم. أما الثالثة فأشارت إلى أن "طليقها هو من أرغمها على ممارسة الدعارة بعد أن تزوجها وهي في الخامسة عشرة من عمرها بعد وفاة والديها، ورغبة عمها، ولي أمرها، بالتخلص منها بحجة أنه غير قادر على تحمّل مصاريفها"، وفيما ادعى طليقها، حين تزوجها، أنه يتريث في ممارسة الجنس معها حتى نضوجها لمفهوم العلاقة الجنسية، تبين للفتاة أنه أقام "مزادا على غشاء بكارتها" فاز فيه مَن دفع الأجر الأعلى، وأنها لا تعلم كم بلغ هذا الأجر.

ظن القضاء اللبناني في قراره بالرجال الثلاثة بارتكاب جناية، فيما اتهمت النساء الثلاث بارتكاب جنحة، وذلك بدلاً من أن يتم التعامل معهن على أنهن ضحايا لتلك العصابة، وفق ما أظهرت التحقيقات.

يقول تقرير "الحرة" إن الأسعار صارت أرخص كثيرًا، فالانهيار المالي الذي ضرب القدرة الشرائية للبنانيين انعكس تدنياً في المقابل المدفوع للخدمات الجنسية، وانخفاضاً في الحصة التي تخصصها العصابات نفسها لضحاياها. فبدلاً من 1500 دولار كانت تتلقاها "فتون" كأجر شهري قبل الأزمة، باتت اليوم تتلقى من "مشغليها" 400 دولار فقط، فيما انخفضت "تسعيرة الخدمات" التي يدفعها الزبون، من 100 دولار (في الساعة) بالحد الأدنى قبل الأزمة، إلى مليون ليرة (تساوي اليوم نحو 40 دولار) "في حال كان الزبون لبنانياً"، أما إن كان سائحاً أو أجنبياً فإن التسعير يصبح بالدولار، ولكن بمستويات أدنى من السابق.

أرقام أمنية

بحسب أرقام وإحصاءات للمديرية العامة للأمن العام، عدد السوريات اللواتي قبض عليهن بتهمة العمل في الجنس، بين عامي 2011 و2018، مرتفع جداً. فشكلن نسبة 30 في المئة من الموقوفات. ليصل هذا الرقم إلى 69 في المئة بعد سنتين فقط، ثم 77 في المئة عام 2015، وبلغ 57 في المئة عام 2018.

وبحسب دراسة أجراها مكتب الأمم المتحدة المختص بالمخدرات والجريمة الدولية في بيروت، بالتعاون مع وزارة العدل اللبنانية، فإن عدداً كبيراً جداً من ضحايا الاتجار بالبشر والإجبار على العمل الجنسي في لبنان، يأتي من بلادٍ فقيرة هارباتٍ من البؤس، على أساس أنهن سيعملن كراقصات أو عارضات أزياء، مقابل مبلغ لا يمكن أن يجمعنه في بلادهن. ويوقعن على عقود عمل مكتوبة باللغة العربية دون أن يفهمن مضمونها.

وسجل في عام 2020 توقيف 92 شخصاً بتهمة ممارسة الدعارة، و38 بتهمة تسهيلها (مشغلين)، فيما سجل توقيف سبعة أشخاص بتهمة الاتجار بالأشخاص، حالة واحدة لتهريب البشر. في المقابل سجل عام 2021، حتى نهاية شهر أغسطس، 11 توقيفاً بتهمة الاتجار بالأشخاص، و55 بتهمة ممارسة الدعارة، و46 توقيفاً بتهمة تسهيل الدعارة، إضافة إلى حالة توقيف واحدة تتعلق بتهريب أشخاص.

بحسب "الحرة"، تؤكد قوى الأمن أن الأوضاع الراهنة والانهيار الاقتصادي وتداعياته الاجتماعية زادت من جرائم الاتجار بالبشر في لبنان، حتى أن أزمة النزوح السوري إلى لبنان رفعت نسبة هذه الجرائم بشكل كبير منذ العام 2011 حتى اليوم.

تؤكد شعبة العلاقات العامة في قوى الأمن أن "مكافحة الاتجار بالبشر دخلت ضمن تدريبات قوى الأمن الداخلي وتحضير عناصرها، حيث تلقى حوالي 2000 عنصر من مختلف الرتب، تدريبات على أسلوب التعامل مع جرائم الاتجار بالبشر والتعاطي مع ضحاياه، لا سيما من هم على تماس مباشر مع هذه الحالات في غرف التحقيق والجهات التي تعمل بشكل خاص على مكافحة هذه الجرائم".