لا ينجو لبنان من التدهور الذي يواجهه من دون مساءلة كاملة، والتساهل في التقارير الأميركية السنوية لن يخدم واشنطن ولا الشعب اللبناني.

إيلاف من بيروت: عندما أصدرت وزارة الخارجية الأميركية تقاريرها القطْرية السنوية حول ممارسات حقوق الإنسان في الأسبوع الماضي، كان تقييم الوثيقة الخاصة بسجل لبنان في عام 2022 لافتاً لما ورد فيه من الحذف المميز (لبعض) الأحداث. وعلى الرغم من الطبيعة الشاملة لهذه التقارير التي تجعلها عموماً أداة قيّمة لتحقيق المساءلة، إلا أن محتواها الحساس دبلوماسياً يتم تعديله أحياناً بالمقتضيات المتصورة للإدارة الأميركية. لذلك فإن واقع تجنّب تقرير لبنان إلى حد كبير بعض قضايا حقوق الإنسان الأكثر إثارة للجدل في تلك البلاد يبدو أكثر من مجرد مصادفة. ومهما كان الأمر، فإن عمليات الحذف فرصة ضائعة لتسهيل نوع المساءلة التي يحتاجها لبنان لكي يخرج من مستنقعه الحالي.

لا تقدم في قضية لقمان سليم

يقول ديفيد شينكر، وهو زميل أقدم في برنامج توب في معهد واشنطن ومدير برنامج السياسة العربية التابع للمعهد ومساعد سابق لوزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، إن التقرير لم يذكر في صفحاته الأربع والخمسين سوى القليل عن التحقيق الجنائي الذي فتحته الحكومة اللبنانية في اغتيال الناشط لقمان سليم الي يُرجح أن حزب الله قتله. تم تخصيص فقرة قصيرة فقط جاء فيها: "استمرت التحقيقات في مقتل لقمان سليم، ناشط سياسي بارز ومنتقد صريح لـ ["حزب الله"] في عام 2021، كان قد عُثر عليه مقتولاً بعد إصابته بعدة رصاصات في سيارة مستأجرة في قرية العديسة الجنوبية. ولم يتم الإعلان عن أي نتائج بحلول نهاية العام". ولم تصدر بيروت مذكرة اتهام أو اعتقال واحدة بعد مرور أكثر من عامين على مقتله.

يضيف شينكر: "عادة ما تستشهد وزارة الخارجية الأميركية بتقارير مفتوحة المصدر عن مثل هذه الحوادث للتشديد على مبدأ المساءلة. ومع ذلك، لم يذكر التقرير الخاص بلبنان الوثائق الكثيرة التي تتناول تهديدات حزب الله لسليم، والتي تتفاوت بين التحذيرات التي أرسلتها السفارة الأميركية في بيروت وإلى المقابلات العامة مع أرملة سليم، الناشطة مونيكا بورغمان. وفي إحدى تلك المحادثات، تروي بورغمان بشكل موثوق كيف قدم محققو قوى الأمن الداخلي تلميحاً سخيفاً بأن سليم - الذي أصيب بخمس رصاصات في رأسه - ربما يكون قد انتحر. وتشمل الإغفالات الأخرى الملحوظة مقالاً لـهيومن رايتس ووتش يصف الإخفاقات المتعددة والإهمال الجسيم والانتهاكات الإجرائية في التحقيق، فضلاً عن دعوات خبراء حقوق الإنسان التابعين للأمم المتحدة المتكررة لإجراء تحقيقات فعالة وموثوقة وشفافة في عملية القتل، ما يعني ضمناً أن جهود قوى الأمن الداخلي لم تظهر أياً من هذه السمات منذ فبراير 2021". وبحسب شينكر، مقتل سليم ليس الاغتيال السياسي الوحيد الذي لا يزال عالقاً في لبنان.

تعثر التحقيق في انفجار المرفأ

بالمثل، لم يخصِّص التقرير لانفجار مرفأ بيروت في أغسطس 2020 اهتماماً يُذكر نسبةً لتداعياته الكبيرة، والتي شملت أكثر من 200 قتيل وأكثر من 6,000 جريح ونزوح ما يقدر بنحو 300,000 شخص. يقول شينكر: "تم تخصيص فقرة واحدة فقط في التقرير لحالة التحقيق التي تتقاطع مع عدد من قضايا حقوق الإنسان الملحة، من بينها الفساد، والإهمال الجنائي، وسوء الإدارة، والتعريض المتعمد للخطر. وتشير الوثيقة بإيجاز إلى تقارير إعلامية تتحدث عن مكائد داخل المحاكم حالت دون إحراز اي تقدم. إلا أنها لا تستشهد بمصادر أخرى تشير على وجه التحديد إلى طلب حزب الله عزل القاضي طارق بيطار عن القضية، أو إلى أعضاء مختلفين في البرلمان ومجلس الوزراء ومؤسسات أخرى حالوا دون قيامه بمقاضاة كبار المسؤولين الأمنيين والسياسيين. وهنا أيضاً، تستحق قوى الأمن الداخلي اللوم، حيث رفض مديرها العام عماد عثمان تنفيذ أوامر اعتقال رفيعة المستوى صادرة عن بيطار - وهي نقطة أخرى لم يذكرها التقرير".

ويلفت شينكر إلى حذف التقارير التي تشير إلى أن كمية مادة نترات الأمونيوم التي تسببت في انفجار المرفأ لم تبلغ سوى خُمس الكمية التي تم تفريغها في الميناء في عام 2013. وكان سليم ق قال إن حزب الله سرق الكثير من هذا السماد القابل للاحتراق لاستخدامه في البراميل المتفجرة التي استخدمها نظام الأسد ضد المدنيين السوريين خلال الحرب الأهلية، "وهذا انتهاك صارخ آخر لحقوق الإنسان".

استثناء للجيش اللبناني

وفقاً لوزارة الخارجية الأميركية، شكّل الإفلات من العقاب مشكلة كبيرة للجيش اللبناني والفروع الأمنية الأخرى في عام 2022، وافتقرت تحقيقاتهم في انتهاكات حقوق الإنسان المبلّغ عنها إلى الشفافية والعجلة.

مع ذلك، لا يتطرق التقرير بما يكفي إلى انتهاكات محددة للجيش اللبناني أو إخفاقه في حماية المدنيين وموظفي الأمم المتحدة، وهي مقاربة مزعجة بالنظر لتمتع واشنطن بعلاقة وثيقة وداعمة مع الجيش، حيث وفرت له تمويل قدره 236 مليون دولار في السنة المالية 2021 وحدها، بحسب شينكر، مضيفًا: "يستشهد التقرير بحالة واحدة بشأن محاكمة عسكرية لمدني متهم بالتعرّض لسمعة قوى الأمن الداخلي. ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2021، حكمت محكمة عسكرية على الصحفي رضوان مرتضى بالسجن 13 شهراً لانتقاده التحقيق في انفجار المرفأ، وفي العام الماضي، أمرت محكمة عسكرية باعتقال رئيس الأساقفة الماروني موسى الحاج واستجوابه بحجة مساعدة اللبنانيين الضعفاء اقتصادياً على الهجرة. وفي عام 2022 أيضاً، اتهمت محكمة عسكرية السياسي سمير جعجع بتورطه في أحداث العنف الدامية في الطيونة في عام 2021".

في المقابل، يؤكد شينكر أن تقاعس المحاكم العسكرية ظهر في القضايا المتعلقة بالعنف ضد قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. يقول: "في عام 2022، اعتذر الرئيس آنذاك ميشال عون عن الاعتداءات المستشرية على قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان. إلا أن الرؤساء السابقين أدلوا بتصريحات مماثلة عديمة الفعالية فيما يتعلق بعشرات الجرائم من هذا النوع التي ارتُكبت في العقود الأربعة الماضية، في حين تمت إدانة قاتل واحد فقط".

التجاوزات الاقتصادية

شملت المواضيع الأخرى التي تم حذفها من تقرير وزارة الخارجية الأميركية ما وصفه المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان، أوليفييه دي شوتر، في أيار/مايو الماضي بأنه "إفقار غير ضروري للسكان". يقول شينكر: "سلّط التقرير الضوء على دور الحكومة في التسبب بالأزمة وملقياً باللوم على القطاع المصرفي في التأثير على المفاوضات مع صندوق النقد الدولي على حساب الفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع. ووفقاً لتقديره، أدّت تصرفات القطاع المالي ومصرف لبنان إلى تخلّف لبنان عن الوفاء بالتزاماته، بينها التزام ضمان مستوى معيشي لائق لسكانه، وهو ما صنفه على أنه انتهاك لحقوق الإنسان".

يختم شينكر مقالته بالقول: " واضح أن لبنان يمر بوقت عصيب، لذلك ربما كانت الإدارة الأميركية متحفظة في عدم إضافة مصاعب (أخرى) هذا العام. أو ربما كانت قلقة من أن تقريراً أكثر صرامة من شأنه أن يمنح المنتقدين في الكونغرس حافزاً لقطع بعض المساعدات الكبيرة التي تقدمها واشنطن للبنان، والتي تشمل دفعات غير مسبوقة قدرها 72 مليون دولار من رواتب القوات المسلحة اللبنانية وقوى الأمن الداخلي".

أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن مقالة كتبها ديفيد شينكر ونشرها موقع "معهد واشنطن"