في سنوات طفولته، كان معز ماجد يحرص على حضور الجلسات والسهرات التي تنتظم في بيت والده الشاعر جعفر ماجد الذي لمع اسمه في منتصف الستينات من القرن الماضي، ليكون منذ ذلك الوقت وحتى وفاته عام2009 عن سن تناهز 69 عاما واحدا من أبرز الشعراء الكلاسيكيين الرومانسيين. وكان يحضر تلك الجلسات وتلك السهرات مجموعة من الفنانين والشعراء والكتاب، وخلالها يدور الحديث في مسائل شتى، مُتمحْورة بالخصوص حول الشعر والشعراء.
ورغم أنه اختار في سنوات الشباب دراسة العلوم، فإن معز ماجد لم ينقطع عن حضور تلك الجلسات وتلك السهرات الممتعة.
ولما سافر إلى باريس لمواصلة تعليمه العالي، قرأ أعمال الشعراء الفرنسيين الكبار أمثال رونسار، وفيكتور هوغو، وبودلير، ورامبو، وفرلين، وأراغون، وايلوار، وأبولينير، وسان جون بيرس. كما قرأ في ترجمات فرنسية أعمال مشاهير الشعراء في جميع أنحاء العالم.
وتحت تأثير هؤلاء، شرع يكتب قصائد باللغة الفرنسية لكنه لم يُطلع أحدا عليها، بمن في ذلك والده. وهو يقول: "في الحقيقة، كنت أكتب تلك القصائد لنفسي فقط.. لذا لم أرغب في أفشي سرّها لأي أحد بمن في ذلك أقرب الناس إليّ.. وقد اخترت الفرنسية لأني وجدتها ملائمة لي، وطيُعة أكثر من اللغة العربية.. باختصار اللغة مثل حبيبة القلب.. لذا ليس لي جواب دقيق ومُقنع على هذا السؤال الذي غالبا ما يُطرح علينا نحن المغاربة: لماذا اخترت الكتابة بالفرنسية؟". غير أن تكتّم معز ماجد عن القصائد التي يكتبها في السر، والذي استمر سنوات طويلة سرعان ما انكشف.
لذا شرع في قراءة قصائده لأقرب أصدقائه. وهؤلاء شجّعوه على نشرها وقراءتها أمام الجمهور. وخلال السنوات العشر الأخيرة نشر خمسة دواوين شعرية، وأصدر في فرنسا ترجمة لمختارات من الشعر السعودي المعاصر إلى لغة موليير. كما أنه يشرف منذ سنوات على مهرجان المتوسط للشعر الذي ينتظم في مطلع صيف كل سنة في ضاحية سيدي بوسعيد الجميلة، الواقعة على بعد15 كلم شمال العاصمة التونسية.
ديوانه الأخير الصادر في باريس في منتصف السنة الماضية(2022)حمل عنوان :"يعاسيب". ولعل اليعاسيب تعني هنا قصائد الهايكو التي يحتويها هذا الديوان الصغير الذي ينقسم إلى لوحات. في اللوحة الأولى، قصائد عن أماكن جميعها تونسية. في قصيدة "مقهى المساء" الذي قد يكون موجودا في جادة "باب البحر"، أو جادة "الحبيب بورقيبة" في قلب العاصمة، كتب معز ماجد يقول:
عند شجره التين كبيرة الحجم
يتنفّسُ الظل الأبدي،
وتهبّ ريحُ أعتى عشاقها
عشرة آلاف من عصافير الدوري
تنصبُ على الجادة أقمشة المساء...
وفي قصيدة "لافايات هو يرثي حيّ "لافيات" بالعاصمة الذي كان الحيّ المُفضل
لأعيان الفرنسيين في زمن الاستعمار. وبعد الاستقلال، وبحكم وجود مبنى الإذاعة به، استقبلت مقاهيه ومطاعمه ونواديه الفنانات والفانين والشعراء الذي صنعوا مجد الثقافة التونسية في فترة الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي. أما لآن فإن شوارعه "تبكي" وهي ترى النوافذ تتفتّت" كمدا بعد أن نست عشاقها القدماء، وأسماء من تبادلوا القبلات مُتكئين عليها. وطفلا كان معز يذهب برفقة والده إلى ضاحية "حلق الوادي" الجميلة، شمال العاصمة، المشهورة بمطاعمها ومقاهيها المفتوحة على البحر، وبشاطئها البديع الذي تغنى به، وب "غزلانه البيضاء"، الفنان الكبير فريد الأطرش في أغنيته الشهيرة " :"بساط الريح". متذكرا صيفا بعيدا في "حلق الوادي"، يكتب معز ماجد:
أتذكّرُ نور صيف على جفوني،
وشمسا في لحظة الأفول،
أنا المسافر على مقدّمة ذراعيْ والدي،
تنهّدات الأمواج تأتي إلى أذني من خلف ظهري.
وعن ضاحية صالامبو التي خلدها فلوبير في روايته الشهيرة، يكتب في سماء الصيف الصامتة والوردية
القمر مُدوّر
قلبا مُشوّها.
وفي قصيدة قصيرة أخرى، يرسم لنا معز ماجد مشهدا يكاد يكون فوتوغرافيا في مدينة تونسية لعلها تكون سيدي بوسعيد، أو الحمّامات، ويكتب:
على هذه الجدران التي بُيّضت حديثا،
أبدا لا تُزهر الجهنّمية من دون سبب.
وليس بعيدا، في ساعة القيلولة،
قط يرجفُ مثل رنّانة.
وأمّا الحب عند معز ماجد فيتجلى في هذه القصيدة-الومْضَة:
أن تُنْهك الكلمات والصلوات وتُضْنيها،
أن تُذكّرَ الحياة بحلم تهاوى
ثم تنتصر على البرابرة بلا شيء سوى أنك عشت.
ثم يضيف، واصفا ليلة حب:
أن تعيش يوما يكون كما لو أنه حياة بأكملها
أن تعيش حياة بأكملها في قصيدة
لم تكتملْ بعد.
أن تُروّض الظلّ الوحشيّ للدروب والتيه
ثم تشرب الماء الأصهب في صباح بأمطار غزيرة.
إلاّ أن القصيدة الأخيرة، والتي كانت نثرية، هي برأيي "روح" هذا الديوان الصغير بغلافه البنفسجي. وواضح أنها تعكس حبا لرفيقة حياة معز ماجد الجديد ة، آمنة الوزير التي هي شاعرة أيضا، ومثقفة من طراز رفيع :"إليك أهب هذا الكلمات، هذه القصة بأبيات شعرية، وبإمكاني أن أتحدث إليك على مدى ساعات طويلة عن زمن ليس زمنك، فيه يمكن أن نكون وديعين وسعداء، وفيه العلاقات ثابتة ودائمة، وفيه خواتم الزواج تزين الاصبع على مدى نصف قرن، والأسوار إنسانية، ويمكن للعناق أن يُشفي خُدوشَ على ركبتيْ طفولة مُشاغبة".
آمنة الوزير ذات الشعر الناري المنساب على جسدها الذي بلون الخبز الخارج للتو من الفرن، هي "يعسوب" معز ماجد، يذهب إليها، ويطرق باب بيتها وكأن يطرق باب الخلاص من كل الهموم ومن كل الأحزان. يذهب إليها مُعطرا برائحة الأرض تحت المطر، ورائحة الليمون المزهر، وخبز الشعير الساخن...يحتضنها ومعها يرقصان على نغمات أغنية قديمة تعشقها ويعشقها، ومعا يذوبان في لهب قصيد لن يكتملْ أبدا..
التعليقات