مئات الأعين تحملق بنا، رؤوسهم حليقة ويرتدون الثياب البيضاء وبكثرة تغطي الوشوم أجسادهم، لقد كان السجناء يعلمون أنهم سيعودون إلى الزنازين، داخل هذا السجن مشدد الحراسة، الذي بني قبل أعوام قليلة في ولاية الرئيس المنتخب حديثا لدورة ثانية نجيب بوكيلة، ليضم السجناء الخطرين، الذين ينتمون للعصابات الكبرى في البلاد.
سجن سيكوت الضخم بني في منطقة خالية من السكان ليعكس سياسة بوكيلة الأمنية المثيرة للجدل، ووصفه معارضوه بأنه "الثقب الأسود لحقوق الإنسان" والمكان الذي بُني "للتخلص من الناس دون الحاجة لإصدار أحكام بالإعدام" حسب وصف ميغيل ساري، العضو السابق للجنة الأمم المتحدة لمنع التعذيب.
لكن في الوقت نفسه تبقى السياسة الأمنية المتشددة واحدة من أسباب شعبية بوكيلة بين مواطني السلفادور، البلد الذي استهلكت موارده من قبل العصابات الخطيرة مثل مارا سالفاتروتشا، وشارع 18، والثوار، أبناء الجنوب.
ويقول مرافقنا ودليلنا في الجولة، والذي طلب عدم ذكر اسمه "هنا نزج بالسجناء المصابين بازدواج الشخصية، والقتلة والإرهابيين، الذين جعلوا بلدنا حزينا"، ويضيف بلهجة تحذيرية "لا تنظروا إلى أعينهم".
تشير الساعة إلى منتصف الليل، لكن الأمر غير مهم، فالأنوار لا تنطفئ أبدا، بينما تعمل أجهزة التكييف المركزية على ضخ الهواء في المبنى بأسره، ورغم ذلك قد تصل درجة الحرارة في بعض الزنازين إلى 35 درجة مئوية.
ويسمي البعض السجن باسم "الكاتراز أمريكا الوسطى" لكنه يبدو جديدا ولامعا فكل شيء تم طلاؤه حديثا.
وفي الوقت نفسه الحراسة مشددة، وبعض القناصة يتمركزون دوما فوق الأسطح مرتدين الأقنعة.
وفي الزنازين ينام السجناء في أسرة من أربعة طوابق، مصنوعة من المعدن، ولا توفر إدارة السجن أي شيء آخر على الأسرة، فالسجناء ينامون فوق السطح المعدني للأسرة مباشرة دون حتى ملاءات أو أغطية، ويأكلون الأرز أو المعكرونة مع البيض المسلوق، بأيديهم دون أي ملاعق أو أدوات أخرى.
ويقول دليلنا "أي أداة معدنية قد يتم تحويلها هنا إلى سلاح".
وداخل الزنازين لا يوجد أي شيء آخر باستثناء حوضين لغسل الأيدي، ومرحاضين مكشوفين للجميع، دون أي ساتر.
ولا يسمح للسجناء بمغادرة الزنزانة إلا لنصف ساعة يوميا، لممارسة الرياضة، دون أي أدوات.
ويتكون السجن من 7 مجمعات للزنازين، مثل الذي نتجول فيه الآن، وتتسع مساحته لنحو 7 ملاعب لكرة القدم، وتحيط به أسلاك مكهربة، ثم جداران منفصلان من الإسمنت، بني فوقها 19 برجا للمراقبة.
وليس من الواضح كم عدد السجناء هنا، لكن حسب الحكومة يمكن أن يتسع السجن لنحو 40 ألف سجين، وهذا أمر من بين عدة تساؤلات حاولت بي بي سي ولعدة شهور البحث عن إجابة لها، لكن لم تتمكن حتى الآن من الوصول لأي إجابة مرضية.
حتى مرافقنا رد علينا قائلا "لا يمكن أن نقدم هذه المعلومات" وعندما سألنا مرة أخرى بإصرار "كم عدد السجناء في كل زنزانة؟ أجاب "المكان الذي يتسع لعشرة أشخاص يمكنه أن يؤوي 20".
ومنذ افتتاح السجن بداية العام الماضي، طلبت بي بي سي مرارا الحصول على إذن بزيارته حتى استطاعت مؤخرا.
ووصلت الدعوة على تطبيق واتس آب، في السادس من الشهر الجاري، من رئاسة البلاد.
وقالت الرسالة "سنتوجه إلى سيكوت الليلة"، وتلقينا رسالة أخرى بموقع وموعد المقابلة قبل نصف ساعة فقط من التحرك بهدف الحفاظ على الأمن.
وتزامنت الزيارة مع مرور يومين فقط على إعلان بوكيلة نفسه على أنه رئيس للبلاد لفترة ثانية بعد انتخابه من قبل 85 في المئة من المصوتين، مدعيا أن حزبه فاز بأغلبية مقاعد البرلمان، حتى قبل أن تنتهي لجان الفرز من إحصاء الأصوات.
وقال بوكيلة من شرفة القصر الرئاسي "ستكون المرة الأولى التي يفوز بها حزب واحد في انتخابات بدولة بها نظام ديمقراطي، المعارضة بأطيافها تم سحقها، وصنعت السلفادور التاريخ مجددا هذا اليوم".
وها نحن نصيغ لكم هذه القصة الخبرية بعد خمسة أيام من الانتخابات، دون أن يتم إعلان النتائج النهائية للانتخابات في السلفادور، بسبب الأخطاء العديدة في عمليات الفرز، وبرامج الإحصاء الانتخابية، والشكوك في كيفية التعامل مع البطاقات الانتخابية.
ورغم عدم وجود أي شخص يشكك في فوز بوكيلة، إلا أن الجدل يثار حول 60 مقعدا في البرلمان تعد شديدة الأهمية لبوكيلة، حتى يتمكن من تنفيذ برنامجه.
وفي نفس الوقت الذي أعلن فيه نصره الانتخابي، هنأ بوكيلة نفسه بإنجازاته الأمنية، خلال ولايته الأولى، وهاجم معارضيه خلال خطابه أمام المواطنين من شرفة القصر الرئاسي.
وقال "لقد تحولنا من أخطر دول العالم إلى أكثر الدول أمنا في النصف الغربي من الكرة الأرضية، وفي كلا القارتين الأمريكيتين، وماذا قالوا عن ذلك؟ اعتبروه انتهاكا لحقوق الإنسان".
وأضاف "أي إنسان يتحدثون عن حقوقه؟ الأشخاص الذين لا يتمتعون بالأمانة، ربما نولي الأمناء أولوية الحفاظ على حقوقهم أكثر من المجرمين، هذا كل ما فعلنا".
ويمكن اعتبار الجولة التي ضمت مراسلي صحف عالمية، امتدادا لهذا النقاش، فقد كان مركزها هو السجن الذي يعد أساس المشاكل والجدل في سياسة بوكيلة الأمنية، والوسيلة الأساسية لها، التي تتسم بالقهر كحالة استثنائية توفر سلطات أوسع للشرطة والجيش خلال العامين الماضيين.
لقد تم اعتقال أكثر من 70 ألف شخص بموجب القوانين الاستثنائية المؤقتة وهو أعلى معدل اعتقال في العالم بأسره.
ويقول نشطاء حقوق الإنسان في البلاد إن الآلاف من المعتقلين لم تكن لهم أي صلة بعمليات العنف او العصابات، والبعض كانوا مجبرين على التعاون مع العصابات، بحيث يخبؤون لهم مخدرات أو أسلحة بشكل قسري بعد تهديدهم بقتل أسرهم.
ووثقت منظمة كريوتسال، المنظمة الرئيسية لحقوق الإنسان في أمريكا الوسطى، حالات تعذيب أسفرت عن مقتل أكثر من 150 شخصا في سجون السلفادور "الدولة الاستثنائية".
وفي تقريرها نهاية العام الماضي، انتقدت منظمة العفو الدولية "الاستبدال التدريجي لعنف العصابات بعنف الدولة" في السلفادور.
ورغم أن مدير السجن أكد لنا أنه لم تزر أي مؤسسة غير حكومية أو منظمة خارجية السجن، إلا أنه حاول طمأنتنا بأنهم يلتزمون بجميع المعايير الدولية للسجون.
الأمن بأي ثمن
وتواردت الأسئلة على ذهننا بمجرد عبور البوابات الأمنية للسجن، حول مواضيع عدة بداية من الوشوم على أجساد السجناء إلى أجهزة الأمن باستخدام الأشعة والتي تكشف كل شيء في جسدك.
وأعلن بوكيلة الحرب على العصابات بوسائل أكسبته شعبية غير مسبوقة، لكنه تسبب أيضا بالكثير من الانتقادات بسبب خروقاته لحقوق الإنسان.
واختار السجانون خمسة من السجناء لعرضهم، وبعد وضع الأصفاد في أيديهم جاؤوا بهم، ولم يكن مسموحا لهم بالكلام.
وبدأ مدير السجن في إلقاء الأوامر "تعال هنا لف من فضلك، انزع قميصك" هكذا تحدث مع أول سجين يدعى ميغيل أنطونيو دياز، وهو قاتل محترف في عصابة مارا سلفاتورشا، كما قال المدير.
وصدر ضده حكم بالسجن 269 عاما قبل عامين فقط، بسبب جرائم اختطاف وتعذيب وقتل ضد عناصر الأمن عام 2016.
ورأينا أيضا ماريو برادا، المدان بقتل تلميذة عام 2012، والذي أمره مدير السجن بكشف ظهره لنشاهد الوشم الضخم المرسوم عليه.
وقال مصور محلي يجلس إلى جوارنا "أتذكر كيف عثروا على جثة التلميذة بعد تقطيع بعض أعضائها في قناة مائية في سان فيسينتي".
وأضاف لاحقا ونحن في طريق العودة "لقد دخلت إلى غرفة التشريح ورأيت كيف كان العاملون يضعون أعضائها على المنضدة".
وبعد ذلك بدأ الحديث عن الفواجع التي ارتكبها أعضاء العصابات ومنها حرق حافلة وقتل 17 شخصا داخلها عام 2010.
وواصل القول "لقد قضيت أعواما دون التمكن من زيارة عمي، الذي كان يعيش في نفس الحي"؛ بسبب وجود منزله في منطقة سيطرة عصابة مختلفة، مردفا "لو دخلت هناك فلن يكون بإمكانك العودة".
وقد سمعت قصصا مماثلة في السوق، وقعت في الأحياء الفقيرة، وفي الفنادق وعلى الشواطيء، وقعت قبل الانتخابات الأخيرة.
وقد جلب ذلك تعليقات كثيرة مؤيدة للإجراءات الحكومية الاستثنائية، وبعدها توقعت جميع استطلاعات الرأي أن يفوز بوكيلة بالانتخابات.
وأبدى جميع مواطني السلفادور، الذين تحدثت معهم، استعدادهم للتضحية بأي ثمن لبوكيلة في سبيل تحقيق الأمن، خاصة بعد عقود من العيش تحت وطأة الابتزاز والعنف من قبل العصابات.
التعليقات