إيلاف من أصيلة: دعا مشاركون،الثلاثاء،ه خلال جلسات اليوم الثاني لندوة "أزمة الحدود في أفريقيا : المسارات الشائكة"، ضمن فعاليات موسم أصيلة الثقافي الدولي ال45، في دورته الخريفية ، إلى عدم تحميل الاستعمار وحده مسؤولية الأزمات التي تعيش القارة السمراء على إيقاعها.

وسعى أغلب المتدخلين إلى رسم صورة داكنة للحاضر، من خلال استعراض أرقام ومعطيات تبين إخفاق إفريقيا في ترجمة الآمال التي عبر عنها الآباء المؤسسون خلال السنوات التي تلت حصول بلدانها على الاستقلال.

وانتقد متدخلون عدم تخلص عدد من دول القارة من "الإرث الثوري"، وانشغالها ببيع الأوهام والمتاجرة بالشعارات، مع تشديدهم على أن الصيغة التي تم بها اعتماد وتنزيل مبدأ الحدود الموروثة عن الاستعمار وقفت عند "ويل للمصلين".


جانب من الحضور

أرقام صادمة
قال حسن أبو أيوب السفير المغربي لدى رومانيا ، ووزير السياحة والزراعة والتجارة الخارجية الاسبق، إن المعطيات والإحصائيات المتعلقة بإفريقيا، رغم كل محاولات التنظيم التي شهدتها منذ نهاية عقد الخمسينيات وبداية عقد الستينيات من القرن الماضي، تبين أن نسبة 37 بالمائة من سكان القارة تعيش تحت عتبة الفقر، وربع اللاجئين في العالم يوجدون في إفريقيا التي لا تمثل سوى نسبة 1 بالمائة من الناتج الداخلي الخام العالمي، ونسبة 4 بالمائة من حجم التجارة العالمية، بينما لا تمثل التجارة البينية داخل إفريقيا سوى 15 بالمائة، فيما تتراوح في قارات أخرى بين 50 و80 بالمائة.

وتساءل أبو أيوب كيف يمكن أن نتحدث، تبعا لمثل هذه الأرقام والمعطيات، عن اندماج، مشددا على أن "التاريخ بصدد معاقبتنا". لكن ما العمل؟ تساءل أبو أيوب، قبل أن يتحدث عن البلدان الفاشلة العديدة غير القادرة على ضمان أمنها وحماية حدودها، ومنح مستقبل كريم لشعوبها.
ودعا أبو أيوب إلى العمل على مستوى الاندماج الجهوي، وامتلاك الشجاعة الكافية لإيقاظ الضمائر، وتوجيه الجهود الجماعية لإعادة التفكير في الطريقة التي يتم بها بناء المستقبل بشكل مفيد.

سياق تاريخي مهم
استحضر حاتم عطا الله السفير التونسي السابق ، ومستشار العلاقات الدولية، السياق التاريخي لمسألة الحدود في إفريقيا، مشددا على أن هذا السياق مهم، مادام أن معظم الحدود الحالية رسمتها القوى الاستعمارية تبعا لمؤتمر برلين، بشكل لم يأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات التاريخية، والثقافية، والاجتماعية والعرقية لكل منطقة.

وبسط عطا الله عددا من عناصر التعاطي مع مسألة الحدود الموروثة عن الفترة الاستعمارية، تشمل "غياب الوضوح"، من جهة أن الآباء المؤسسين لم يقدموا أي تعريف وتفسير للأسس التي قام عليها مبدأ الحدود الموروثة عن الاستعمار.كما تحدث عن "غياب ترسيم مضبوط للحدود"، التي لا يتجاوزالمحدد منها الثلث على مستوى الترسيم، وبالتالي كيف يمكن الحديث عن حدود موروثة عن الاستعمار وأكثر من 67 بالمائة من هذه الحدود غير محدد؟

وتحدث عطا الله أيضا عن السياسات المرتبطة باعتماد الحدود الموروثة عن الاستعمار، خصوصا من حيث الإشكال المرتبط بالساكنة التي تعيش على مستوى هذه الحدود، قبل أن يتوقف عند النزاعات حول الموارد الطبيعية، خصوصا على مستوى الحدود التي تطرح إشكالا بين الدول المعنية، قبل أن يشير إلى الاندماج الإقليمي، والتضامن، وإتمام ترسيم الحدود، والذهاب نحو الاندماج لاستشراف المستقبل، بشكل يضمن تجاوز إشكالات الماضي وإكراهات الحاضر.

فرص الحاضر وتحديات المستقبل
من جهته، قال عبد الله محمدي ، الكاتب الصحافي الموريتاني المتخصص في الشؤون الإفريقية:" إننا حين نتحدث عن فرص الحاضر وتحديات المستقبل، نعود إلى التداخل الواضح بين الأمرين، حيث أن الفرص عابرة للزمن تمامًا مثل التحديات، حتى أن القرص تكون، في بعض الأحيان، هي نفسها التحديات"، قبل أن يتساءل: "ولكن كيف يمكنُ تحويل التحديات إلى فرص؟ وكيف يمكن تفادي أن تتحول الفرص إلى عوائق؟".


جانب من جلسات اليوم الثاني من ندوة منتدى أصيلة الاولى

ورأى محمدي أنه لا يمكنُ الحديث عن اندماج إفريقي دون التطرق إلى "التجارة البينية"، مشيرا إلى أن الدول الأفريقية نجحت في قطع خطوات مؤسسية مهمة في اتجاه تعزيز التجارة بينها، من خلال إنشاء منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية، التي تسعى إلى إزالة الحواجز الجمركية وغير الجمركية، لتقليل تكاليف التبادل التجاري بين الدول الأفريقية.

واوضح محمدي أن من الفرص المهمة في إفريقيا كونها ورشة عمل مفتوحة، لا يتوقف فيها البناء والتشييد، إذ هي من بين أسرع مناطق العالم نموًا، ما يعني أنها مقبلة على تطوير هائل في البنية التحتية في جميع أقاليمها، من أجل تسهيل تنقل المواطنين والبضائع عبر شبكات السكك الحديدية والطرق السريعة والموانئ، ولكن أيضًا من أجل ربط مناطقها بالاتصالات وشبكات نقل الطاقة.

وشدد محمدي على عدم تجاهل واحد من أبرز مشاريع الاندماج الإقليمي وأكثرها طموحًا وتأثيرًا في مستقبل القارة ، وهو مشروع أنبوب الغاز الذي يربط نيجيريا والمغرب، مرورا بدول غرب أفريقيا، التي تحدث عنه العاهل المغربي الملك محمد السادس في خطابه الأخير أمام برلمان بلاده، ووصفه بأنه سيعزز التكامل بين دول القارة.

ورأى محمدي أن هذا المشروع يعد فرصة كبيرة لكسر الكثير من القوالب الجامدة للتعاون الأفريقي، ورفع مستواه نحو التكامل والاندماج، حيث أنه أضخم مشروع لنقل الغاز في إفريقيا، ويمتد لقرابة ستة آلاف كيلومتر، ويربط 13 دولة هي: نيجيريا وبنين وتوغو وغانا وكوت ديفوار وليبيريا وسيراليون، وغينيا وغينيا بيساو وغامبيا والسنغال وموريتانيا، ثم المغرب أخيرًا.


جانب من الحضور

وشدد محمدي على مفاهيم مهمة، مثل "التضامن الأفريقي"، حتى لا يتحول الاندماج إلى فرصة سانحة للأقوياء على حساب الدول ذات الاقتصاد الأضعف. وشدد على أن التضامن يفرض العودة إلى القيم الأفريقية الأصيلة، أي قيم ما قبل الاستعمار ووصول الغرب، وهي قيم تؤسس لشراكة قائمة على مبدأ رابح – رابح، الذي لن يتحقق من دون بناء جسور من الثقة والاتزان.

وتحدث محمدي عن "معضلة الأمن"، التي "تشكل حاليًا أكبر عائق أمام تحقيق التنمية، ليس في القارة الأفريقية وحدها، وإنما في العالم أجمع". وتوقف، في هذا السياق، عند منطقة الساحل التي تحولت إلى واحد من أكبر أسواق بيع السلاح، تستهدفه قوى عالمية لتجريب منتجاتها من الأسلحة، وبيع وتسويق مخازن السلاح العتيق، وتجريب أدوات حروب العصر من تقنيات إعلام لفبركة المعلومات ونشر الأخبار الكاذبة، في إطار ما أصبح يعرف بحرب البيانات والمعلومات.

ورأى محمدي أن هذه الصراعات ساهمت في إرباك العلاقات بين عدد من الدول الأفريقية، الشيء الذي يؤثر بشكل مباشر على مشروع الاندماج والتكامل الأفريقي، الشيء الذي اتضح في المشاكل التي تمر بها المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، مع إشارته إلى أن هذا المشروع الإقليمي الذي حقق قفزات مهمة خلال العقود الأخيرة، وأصبح نموذجًا أفريقيا يحتذى به، يواجه اليوم تصدعات كبيرة تهدد مستقبله، بسبب التدخل الأجنبي، وغياب الحلول المحلية والأفريقية.

ومع ذلك، يضيف محمدي، لا بد من التأكيد على أن كل هذه التحديات لا يمكن أن تصادر حق الأفارقة في الحلم، وتحويل التحديات إلى فرص، وتفادي أن تتحول هذه الفرص إلى عوائق.

وذكر محمدي أن "الحاجز بين الفرص والتحديات رقيق وشفاف جدًا، ولكي نكون أكثر قدرة على رؤية الفرص لا بد من التحلي بالكثير من التفاؤل العقلاني، ولا بد أن "نعشق التحدي" وأن نؤمن بأن مصيرنا واحد ومشترك، وأنه لا خيار آخر سوى السير معًا، كما كانت تسير القوافلُ من مراكش إلى تمبكتو، دون أن توقفها مفازات الصحراء الوعرة، ولا عواصف الأودية الهوجاء".


جرح تاريخي
قال أغيبو ديارا، مدير مدني من مالي، إنه قد مضى على اعتماد منظمة الوحدة الإفريقية للحدود الموروثة عن الاستعمار نحو ستة عقود، أظهرت مع الممارسة أن الأمر يتعلق بجرح تاريخي، بعد أن عملت 13 دولة أوروبية على تمزيق إفريقيا، لتتقاسم 30 مليون متر مربع من الأراضي، وترسم 83 ألف كلم من الحدود البرية و50 من الحدود البحرية.

وتطرق أغيبو إلى تسجيل اعتراضين من الصومال والمغرب خلال اعتماد منظمة الوحدة الإفريقية لمبدأ الحدود الموروثة عن الاستعمار، مشيرا إلى أن النزاعات الحدودية بين دول القارة، بعد اعتماد هذا المبدأ، تناهز 22، رفعت 8 منها إلى محكمة العدل الدولية، دون الحديث عن النزاعات الانفصالية، فضلا عن وجود 76 مجموعة مسلحة تنشط داخل إفريقيا. وتساءل أغيبو أ لم يحن الوقت للنظر مجددا في مسألة اعتماد مبدأ الحدود المورثة عن الاستعمار.

ويل للمصلين
تواصل النقاش حول اعتماد منظمة الحدود الموروثة عن الاستعمار، خلال مناقشات الجلسة الثانية، التي سيرها محمد لوليشكي السفير المغربي السابق والباحث بمركز السياسات من أجل الجنوب الجديد، والذي شدد على أن الأمور،بخصوص هذا المبدأ، كان يتعين ألا تقف عند حالة امتلاك ما تحوزه، ولكن هناك مرحلة ثانية تقول بامتلاك ما تحوزه إلى أن تستقر الأمور، بحيث يمكن للأطراف المعنية الخوض في الأمر وتقديم الحجج لتسوية الوضع نهائيا. وتبعا لذلك، رأى لوليشكي أن منظمة الوحدة الإفريقية، وقفت، عند اعتماد هذا المبدأ، عند ويل للمصلين.

الحلم والواقع
من جهته ، قال محمد المدني الأزهري (ليبيا) الأمين العام السابق لتجمع دول الساحل والصحراء، إن هناك أمران فيما يتعلق بإشكالية الحدود الموروثة عن الاستعمار، يتعلقان بالحلم والواقع.

واستحضر الأزهري مبررات من كانوا وراء اعتماد هذا المبدأ، ذاكرا الرئيس التنزاني يوليوس نيريري، الذي قال له إن إقرار عدم المساس بالحدود الموروثة عن الاستعمار كان أحد أفضل الحلول.

وزاد الأزهري أن الآباء المؤسسين كانوا يرون أن مسألة الحدود ستختفي إدا تحققت الوحدة؛ غير أن "الواقع غير الحلم"، يضيف الأزهري، مشيرا إلى أن الظروف كانت أصعب وأقوى من حلم الآباء المؤسسيين.

كوارث الإرث الثوري
خلال الجلسة الأخيرة، سعى المتدخلون إلى بسط معطيات حول أمثلة لبلدان وجدت نفسها ضحية تداعيات مؤتمر برلين وسوء تدبير مرحلة ما بعد الحصول على الاستقلال.

وقال خير الله خير الله ، الكاتب الصحافي والمحلل السياسي اللبناني ، إن هناك أنظمة إفريقية لم تستطع مواجهة تحديات مرحلة ما بعد الاستعمار، من حيث تدابير الحكامة ورهانات التنمية. وتحدث عن نجاحات وإخفاقات وكوارث، في علاقة بما سماه "الإرث الثوري" الذي ما زال يتحكم في بعض الدول أو في بعض الأحزاب الحاكمة. وشدد على أن هذا الإرث لا علاقة له ببناء دولة مؤسسات حديثة، تستطيع التعاون مع محيطها.

ورأى خير الله أن الاستعمار بات عند البعض مبررا للتهرب من الواقع وتحمل المسؤوليات التي يفترض تحملها.

وتحدث خير الله عن جنوب إفريقيا، التي قال إنها استطاعت الانتقال من دولة عنصرية إلى دولية طبيعية، سوى أنها لم تستطع التخلص من الإرث الثوري، فعجزت عن لعب الدور الطبيعي والإيجابي الذي كان من المفترض أن تلعبه على الصعيد القاري.

وشدد خير الله على أن جنوب إفريقيا كانت قادرة على لعب هذا الدور بعيدا عن تأثير دول من داخل القارة السمراء مثل الجزائر، ومن خارجها مثل إيران، الشيء الذي جعلها عاجزة عن مواكبة الأحداث والتطورات في القارة والعالم، وبالتالي فشلت في أن تكون نموذجا يحتذى.

كما تحدث خير الله عن ليبيا، وقال إنه كان بإمكانها أن تكون دولة واعدة لو لم تنقل إليها عدوى الانقلابات في 1969. وتساءل عن عدد الدول الفاشلة في إفريقيا، ذاكرا الصومال فضلا عن السودان التي قال عنها إنها تعيش حربا عبثية.

وخلص خير الله إلى أن معظم الدول الإفريقية فشلت في بناء دولة المؤسسات، كما عملت على بيع الأوهام والمتاجرة بالشعارات من قبيل تقرير المصير للشعوب، هذا الشعار الذي هو حق يراد به باطل، في أغلب الأحيان.

ورأى خير الله أنه يبقى من حسن الحظ أن تكون هناك نجاحات تجسدها دول إفريقية استطاعت أن تضع الأولوية لرفاه شعوبها، مشيرا، في هذا السياق، إلى التخطيط لمشروع أنبوب الغاز نيجيريا – المغرب، الذي سيوفر الغاز لجميع دول غرب إفريقيا ويفتح طريق تصدير جديد إلى أوروبا.