مرت العلاقة بين العراق وسوريا على مدى العقود الماضية بتحولات كثيرة وكبيرة وشهدت مدا وجزرا ربما لم يشهدهما بلَدان جاران يفترض أن تتسم العلاقة بينهما بالاستقرار سلبا أو إيجابا.
ولكي نلقي بعض الضوء على العلامات الفارقة التي شهدتها تلك العلاقة بين البلدين نبدأ بعام 1978 عندما بدأ العراق وسوريا خطوات على طريق تحقيق وحدة سياسية بين البلدين، وتم الاتفاق على أن يكون الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد رئيس دولة الوحدة وأن يكون الرئيس العراقي في حينها أحمد حسن البكر نائبا له.
لم يصل مشروع الوحدة ذاك إلى مراحله النهائية ففي عام 1979 استقال الرئيس العراقي البكر واستلم السلطة الرئيس الأسبق صدام حسين الذي بدأ ولايته بالإعلان عما سماه مؤامرة ضد العراق تقودها سوريا ما شكل ضربة قاصمة لمشروع الوحدة لتبدأ مرحلة عداء وجفاء بين العراق وسوريا ستستمر لعقود.
العراق وسوريا بعد الغزو الأمريكي للعراق
في عام 2003 حصل الاجتياح العسكري للعراق والذي نفذه تحالف دولي قادته الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وذلك لاتهام العراق بحيازة أسلحة دمار شامل تهدد السلم العالمي، بعد أن كان العراق يرزح تحت عقوبات فرضتها الأمم المتحدة عقب الغزو العراقي لدولة الكويت صيف عام 1990، تحظر على العراق تصنيع أو حيازة أسلحة دمار شامل.
بعد فترة وجيزة من احتلال العراق وسقوط حكم الرئيس الأسبق صدام حسين اجتاحت العراق موجة عنف شرسة شملت هجمات مسلحة وتفجيرات واغتيالات أدت إلى قتل عشرات الآلاف من المدنيين العراقيين ونفذتها مجاميع مسلحة مختلفة التوجهات والانتماءات.
وجه العراق أصابع الاتهام إلى سوريا من ضمن من اتهمهم بدعم تلك المجاميع المسلحة وأشار إلى أن سوريا فتحت حدودها لتلك المجاميع لتدخل العراق وتنفذ هجمات ضد المدنيين العراقيين ومنتسبي الأجهزة الأمنية والمنشآت الأخرى، سوريا من جانبها نفت تلك الاتهامات واعتبرها الرئيس السوري السابق بشار الأسد "اتهاما غير أخلاقي".
ابتداء من عام 2010 بدأت العلاقة بين العراق وسوريا تتحول تدريجيا من العداء والجفاء إلى الود والتقارب، مردُّ هذا التحول هو الصعود السياسي للفصائل الشيعية المسلحة التي تتماهى مع الخطاب السياسي الإيراني وتنسجم مع سياسة إيران التي تمتلك علاقات جيدة جدا مع نظام حكم الرئيس السابق بشار الأسد.
قسم من الفصائل الشيعية المسلحة كان يمتلك أجنحة سياسية تمكنت من الوصول إلى البرلمان العراقي ودعمت حصول رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي على ولاية ثانية في عام 2010 الذي كان بداية التحسن في العلاقة بين العراق وسوريا.
الأزمة السورية وتبعاتها
بعد فترة من بدء الأزمة السورية عام 2011 وبعد أن أصبح نظام حكم بشار الأسد في خطر كبير بعد أن سيطرت المعارضة السورية على أجزاء واسعة من الأراضي السورية، دخل قسم من الفصائل العراقية المسلحة وبدعم من إيران إلى سوريا لتقاتل إلى جانب الجيش السوري ضد المعارضة السورية.
إلى جانب الدور الروسي الكبير في سوريا ودور حزب الله اللبناني، لعبت الفصائل العراقية المسلحة دورا كبيرا في دعم حكم الرئيس السوري السابق بشار الأسد وساعدته في استعادة الكثير من المناطق السورية والقضاء على المعارضة السورية هناك.
وتمتعت سوريا في السنوات التي تلت استعادة الحكومة السورية للكثير من الجغرافية السورية ببعض الهدوء النسبي حيث خفت حدة القتال هناك، لكن الوضع الاقتصادي بقي في وضع ليس جيدا بأي حال من الأحوال بعد خضوع سوريا لعقوبات اقتصادية غربية أدت إلى انخفاض قيمة الليرة السورية إلى حد كبير وضعف القدرة الشرائية لدى المواطنين السوريين إضافة إلى عدم توفر السلع والخدمات الأساسية.
التغيير في سوريا
استمر الوضع على هذا الحال حتى حدث التغير المفاجئ في الوضع السوري مطلع شهر ديسمبر/كانون الأول 2024 ونتج عنه انهيار حكم بشار الأسد واستيلاء المعارضة السورية على مقاليد الحكم في سوريا ليجد العراق نفسه في وضع يحتم عليه اتخاذ رد يبين موقفه من التغيير الذي حدث في سوريا.
على المستوى الشعبي، ينقسم العراقيون إلى فريقين، الأول هو الفريق المرحب بالإطاحة بحكم بشار الأسد والذي يعتبر نظامه نظاما استبداديا قامعا للحريات وأن نهايته تفتح باب الأمل في مستقبل أفضل للسوريين. الفريق الثاني هو الفريق المؤيد لحكم بشار الأسد والذي، بنظر هذا الفريق، كان يواجه مجاميع إرهابية متشددة تهدد ليس فقط سوريا وإنما دول الجوار أيضا.
السوريون الموجودون في إقليم كردستان العراق يمثلون الثقل الأكبر من السوريين الموجودين في العراق والذين فروا من سوريا خلال سنوات الأزمة السورية هربا من العنف هناك، وكان أولئك السوريون الوحيدون في العراق الذين أعلنوا عن فرحتهم واحتفلوا في شوارع إقليم كردستان ابتهاجا بالتغيير الذي حصل في سوريا، أما في باقي مدن العراق فقد اقتصر التعبير عن الفرحة على مواقع التواصل الاجتماعي.
أما فيما يخص الشارع العراقي فلم يظهر العراقيون أي رد فعل علني من أي شكل من الأشكال وكأن شيئا لم يحدث في سوريا، لكن في المجالس الخاصة كان كل فريق يعبر عما يدور في خاطره، سواء أكان ذلك رضًا عم حصل في سوريا أم غير ذلك.
أما على المستوى السياسي والرسمي فجاءت ردود الفعل على الإطاحة بحكم الرئيس السوري السابق بشار الأسد محايدة ومقتضبة وتحدثت بالعموميات ولم تتحدث عن الحكام الجدد، لا من قريب ولا من بعيد.
يقول الدكتور هاشم الكندي رئيس مجموعة النبأ للدراسات الاستراتيجية، في حديث لبي بي سي، إن قسما من مجموعات المعارضة السورية كانوا قد قاتلوا في العراق قبل سنين وإن عددا منهم كانوا سببا في قتل العراقيين لا بل إن منهم من لا يزال موجودا على قوائم الإرهاب العالمية، لذا ربما يتوجب الانتظار قليلا لكي تتضح الصورة أكثر لمعرفة نوايا الحكام الجدد في سوريا وكذلك لمعرفة رد فعل المجتمع الدولي بشأن سوريا قبل أن يستطيع العراق أن يشكل موقفا واضحا بشأن التغيير في سوريا.
في هذه الأثناء أغلق العراق حدوده مع سوريا بشكل كامل وعزز قواته الماسكة للحدود والتي تتشكل من ثلاثة خطوط دفاعية، توجد قوات حرس الحدود في خط الدفاع الأول تليها قوات الجيش العراق ومن بعدها قوات الحشد الشعبي في خط الدفاع الثالث.
كما قوّى العراق خط الحدود بالسواتر الترابية والخنادق والأسلاك الشائكة لمنع الدخول غير الشرعي من سوريا وإليها بالإضافة لمراقبة الشريط الحدودي بالكاميرات الحرارية والطائرات المسيرة.
أما فيما يخص الفصائل العراقية المسلحة التي كانت تقاتل في سوريا فقد انسحبت تلك القوات من سوريا قبل حوالي سنتين كما يقول الشيخ كاظم الفرطوسي المتحدث باسم كتائب سيد الشهداء وهي إحدى الفصائل العراقية التي قاتلت في سوريا خلال السنين الماضية دعما لحكم الرئيس السابق بشار الأسد.
يضيف الشيخ الفرطوسي أثناء مقابلة أجرتها معه بي بي سي أن الفصائل العراقية كانت قد انسحبت من سوريا قبل حوالي سنتين بسبب عاملين رئيسيين، أولهما أن الوضع كان قد استتب لصالح الأسد بعد انكفاء المعارضة السورية، والعامل الثاني هو أن القوات الأمنية العراقية قد أصبحت أكثر قوة بعد تراجع التهديد الذي كان يشكله تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وأصبحت تمسك الشريط الحدودي بكفاءة تجعل أي تهديد أمني يمكن أن يأتي من سوريا إلى العراق احتمالا ضعيفا.
ومع أن الفصائل العراقية قاتلت إلى جانب نظام بشار الأسد فإن الشيخ كاظم الفرطوسي يرى بوجوب احترام رغبة السوريين في التغيير وأن يقيموا نظاما لا يشكل تهديدا للمواطنين السوريين ولا لدول الجوار على حد سواء.
وعند حديثنا معه حول إمكانية نزع سلاح الفصائل العراقية بعد انتفاء الحاجة للقتال في سوريا وكذلك بعد أن أصبحت القوات الأمنية العراقية أكثر قوة، قال الفرطوسي إن عددا من القوات الأمريكية لا يزال موجودا في العراق لذلك لا بد من وجود رادع لتلك القوات لتنهي وجودها في العراق سريعا.
وعندما ذكّرناه بأن الحكومة العراقية منخرطة الآن بمحادثات مع الجانب الأمريكي لإنهاء الوجود العسكري الأمريكي في العراق، قال الشيخ كاظم الفرطوسي إن الفصائل لا تثق بالجانب الأمريكي وإن إصبعها سيبقى على الزناد حتى يغادر آخر جندي أمريكي العراق وعند ذاك سيكون لكل حادث حديث على حد تعبيره.
التعليقات