الثلاثاء: 27. 09. 2005


كتب : سامى قمحاوى:

كثيرون هم اليهود الذين نجوا من الموت في المعتقلات النازية خلال الحرب العالمية الثانية سواء بالهروب من تلك المعتقلات والتخفي أو بتحرير قوات التحالف لهم بعد هزيمة ألمانيا‏,‏ لكن قليلين من هؤلاء الناجين استطاعوا أن يستثمروا فترات اعتقالهم تلك ويكتسبوا شهرة واسعة كمناضلين ضد النازية ومحاربين لمعاداة السامية‏,‏ وقد كان سايمون فيزنتال الملقب بـ‏'‏ صائد النازيين‏'‏ الذي توفي الأسبوع الماضي في فيينا عن‏96‏ عاما أحد الذين حملوا علي عاتقهم مهمة تذكير العالم بما يعرف باسم جرائم الرايخ الثالث‏,‏ وظل يلاحق مجرمي الحرب النازيين لأكثر من ستة عقود ونجح في تقديم‏1100‏ منهم إلي المحاكمة‏.‏

وكان سايمون فيزنتال الذي ولد في الحادي والثلاثين من ديسمبر‏1908‏ معتقلا في معسكر موثوسن في النمسا في الوقت الذي دخلت فيه القوات الأمريكية لتحرير ذلك المعسكر في مايو‏1945,‏ حيث ولد فيزنتال في مدينة بوتشاتش التي كانت تحتلها النمسا في ذلك الوقت بينما تتبع الآن غرب أوكرانيا‏,‏ وهو ابن لعائلة يهودية تجارية تخرج في الجامعة التكنولوجية ببراج عام‏1932,‏ وعمل مهندسا معماريا وأسس شركة في هذا المجال‏,‏ وفي يونيو‏1941‏ عندما شنت ألمانيا هجومها علي الاتحاد السوفيتي تم أسر فيزنتال وعائلته‏,‏ فسجن هو وزوجته أولا في معسكر جانوسكا في أوكرانيا وأجبرا علي العمل في السكة الحديد‏,‏ لكن أعضاء في حركة المقاومة البولندية ساعدوا زوجته علي الهرب‏,‏ بينما هرب هو في أكتوبر‏1943‏ قبل أن يبدأ النازيون في قتل كل سجناء المعسكر‏,‏ لكنه تم القبض عليه مرة أخري ليرسل إلي معسكر آخر‏,‏ وكان فيزنتال وقت تحريره قد تنقل بين‏12‏ معتقلا نازيا كان بينها خمسة من معسكرات الموت لينجو من الإعدام بأعجوبة في كل مرة‏.‏

وبعد تحريره عمل فيزنتال في الجيش الأمريكي الذي أوكلت إليه قيادته أمر البحث عن النازيين لأنه يعرف العديد منهم‏,‏ وأسس مع ثلاثين متطوعا مركز التوثيق اليهودي في لينز بالنمسا عام‏1947‏ ليجمع المعلومات والوثائق حول جرائم النازية بهدف استخدامها لاحقا في محاكمات جرائم الحرب‏,‏ وبدأ هذه المعلومات بتسجيل أسماء‏91‏ من مسئولي المعسكرات النازية ولاحق سبعين منهم‏,‏ وبرغم النجاح الذي حققه في محاكمات نورمبرج‏,‏ بقي العديد من مسئولي النظام النازي غير مذكورين ومع بداية الحرب الباردة بين الشرق والغرب سقطت مطاردة النازيين من الأجندة السياسية‏,‏ مما جعل فيزنتال مكرها يغلق مركز لينز عام‏1954‏ ويعطي كل الملفات التي جمعها إلي معهد ياد فاشيم في إسرائيل‏,‏ و يركز عمله في معاهد في النمسا من أجل تأهيل اللاجئين اليهود الذين لا يملكون مهنة من أجل تحضيرهم للسفر إلي إسرائيل‏.‏

وقد واصل فيزنتال جمع المعلومات بشكل شخصي إلي أن استعاد نشاطه مع اعتقال أدولف إيخمان مهندس ما عرف بـ‏'‏ الحل الأخير‏'‏ أو الحل النهائي أي إبادة النازيين لليهود في أثناء الحرب العالمية الثانية‏,‏ حيث كان إيخمان مسئولا عن تنظيم وتنسيق تسفير اليهود إلي معسكرات الموت في أوروبا الشرقية‏,‏ وعندما استسلم النازيون عام‏1945‏ هرب إلي أمريكا الجنوبية لكنه طورد وقبض عليه عام‏1960‏ في الأرجنتين من قبل عملاء المخابرات الإسرائيلية الموساد وحوكم في القدس بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وأعدم عام‏1962,‏ وكان ذلك هو حكم الإعدام الأول الذي تم تنفيذه في إسرائيل ومن أهم الشخصيات التي تم العثور عليها إلي جانب إيخمان القيادي في قوات اس اس راجوكوفيتش وكان ممثل إيخمان في هولندا وفرانس شتانجيل قائد معسكر الإبادة تريبلنيكا وذلك في شهر مارس عام‏1967‏ في بيونس أيرس بالأرجنتين وحكم عليها بالسجن المؤبد‏,‏ واستطاع فيزنتال بمساعدة سلطات بلدان كثيرة خاصة في أمريكا الجنوبية اقتفاء أثر‏1100‏ نازي وكشف النقاب عن أماكن اختفائهم علي الرغم من تنكرهم بشخصيات أخري ومثولهم أمام المحاكم ومنها محاكم إسرائيلية كما تم التحقيق مع‏6000‏ شخص بناء علي معلومات منه‏,‏ وكان من أكبر إحباطات فيزنتال عدم تمكنه من إلقاء القبض علي رئيس الجستابو هاينريش مولر وطبيب معسكر اعتقال أوشفيتس يوزف مينجله‏.‏

وفي عام‏1977‏ تم اطلاق اسم فيزنتال علي أحد المتاحف التي تذكر بالهولوكوست‏,‏ وحمل اسمه كذلك أحد أكبر مراكز الدفاع عن اليهودية ومقره الولايات المتحدة الأمريكية‏,‏ وتحريك الحملات ضد كل معاد للسامية حسب المنظور الإسرائيلي‏,‏ بل ورفع دعاوي قضائية ضد الكتاب والمفكرين والمؤرخين الذين يحاولون الاقتراب والتشكيك في أرقام ضحايا الهولوكوست‏,‏ ووصل نشاط هذا المركز في مطاردة أعداء السامية حسب تصورهم إلي حد قيامه بحملة تطالب بسحب رواية كتبتها فتاة إيطالية من أصل مصري تصور فيها مأساة الشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال الإسرائيلي بعد صدور ترجمتها الفرنسية عن دار‏'‏ فلاماريون‏'‏ علي اعتبار أن الرواية تمجد العمليات الانتحارية‏'‏ الاستشهادية‏',‏ وكان المركز سببا في عدد من المحاكمات الشهيرة ومنها محاكمة المفكر الفرنسي روجيه جارودي وغيرها‏,‏ وهو ما حول الضحية بشكل ما إلي جلاد جديد أصبح سيفه مسلطا علي رقاب كل من يحاول انتقاد إسرائيل وسياساتها علي اعتبار أنه معاد للسامية‏,‏ وفتح الباب كذلك أمام كثيرين استفادوا من هذه الأجواء باختراع حكايات غير حقيقية عن تعذيب تعرضوا له ومنهم الإسباني إنريك ماركو‏-84‏ عاما‏-‏ الذي أعلن في مايو الماضي أنه كذب لمدة ثلاثين عاما حينما ادعي أنه كان معتقلا في معسكر فلوسنبيرج النازي في النمسا وجاء اعترافه بعد كشف أحد المؤرخين لكذبه‏.‏