تقرير واشنطن - محمد فايز فرحات


في دراسة جديدة صدرت عن مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية CSIS بواشنطن في صورة كتاب قام بتأليفه الباحثان الأمريكيان حاييم مالكا وجون ألترمان بعرض نتاج دراسة قام بها فريق من المختصين ممن قاموا بزيارة للمغرب وبعض العواصم الأوروبية.

ويناقش الكتاب إحدى الإشكاليات الرئيسية التي شغلت الباحثين والمحللين العرب وهي مسألة دور الخارج في الإصلاح، وهي المسألة التي لقيت خلافا شديدا بين مختلف التيارات السياسية في العالم العربي. ويبدأ الكتاب بتناول الخبرات الأمريكية والأوروبية في تشجيع الإصلاح ونشر الديمقراطية في بعض الأقاليم، خاصة التجربة الأمريكية في نشر الديمقراطي في أمريكا اللاتينية، والخبرة الأوروبية في نشر الإصلاح والديمقراطية في وسط وشرق أوروبا، ثم ينتقل لمناقشة الرؤى والمبادرات الأمريكية والأوروبية لتشجيع الإصلاح ونشر الديمقراطية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ويحاول الكتاب تقييم تلك الرؤى والمبادرات من خلال تجربة محددة وهي التجربة المغربية في الإصلاح، ومحاولة استخلاص عدد من الدروس استنادا إلى تلك التجربة.

أولا: تشجيع الإصلاح في العالم العربي

1- المبادرات الأمريكية

رغم أن مسألة الإصلاح ونشر الديمقراطية ليست جديدة في السياسة الخارجية الأمريكية وتعود إلى عقود سابقة، إلا أنها اكتسبت أبعادا وأهمية خاصة بعد أحداث سبتمبر 2001، فلم تعد قضية تخص أحد مكاتب وزارة الخارجية بل قضية وزير الخارجية والرئيس الأمريكي، والإدارة الأمريكية ككل.
طرحت الإدارة الأمريكية إطارين رئيسيين لإدارة مسألة نشر الديمقراطية والإصلاح في المنطقة، الإطار الأول هو quot;مبادرة الشراكة مع دول الشرق الأوسطquot; MEPI والتي طرحت في ديسمبر 2002. وقد تأثرت المبادرة بتقرير التنمية الإنسانية العربي الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، خاصة التركيز على نشر الإصلاح من أسفل من خلال دعم المجتمع المدني. وشملت مجالات عمل المبادرة الإصلاح الاقتصادي، والإصلاح التعليمي، والإصلاح السياسي، بالإضافة إلى تمكين المرأة. كما ركزت المبادرة على الشركاء المحليين من المنظمات غير الحكومة وقطاع الأعمال والجامعات والمؤسسات الدولية بالإضافة إلى حكومات المنطقة. ولضمان ربط المبادرة بالأرض تم تأسيس عدد من المكاتب الإقليمية في تونس وأبو ظبي.

وقد تعرضت المبادرة لعدد من الانتقادات، أهمها ضعف الموارد المالية المخصصة للمبادرة بالمقارنة ببرامج المساعدات الاقتصادية والعسكرية، فقد بلغت موازنة المبادرة خلال السنوات المالية (2002- 2005) حوالي 300 مليون دولار فقط توزعت على 350 برنامجا في 15 دولة، بالإضافة إلى ما واجهته من صعوبات في التمويل المباشر للشركاء المحليين بسبب حساسية بعض الحكومات العربية، فضلا عن رفض عدد من مؤسسات المجتمع المدني العربية الحصول على تمويل من المبادرة لأسباب أيديولوجية. وقد أدت تلك المشكلات إلى خلق صعوبات عملية في وصول المبادرة إلى شركاء محليين فاعلين، وإضعاف فلسفة العمل من أسفل. وإزاء هذا الوضع ذهبت نسبة مهمة من أموال المبادرة لتمويل برامج ومشروعات ذات صلة بالأجهزة الحكومية، وهو ما أدى بدوره إلى انتقاد المبادرة من قبل بعض الشركاء المحليين بأنها تهدف في التحليل الأخير إلى الحفاظ الوضع القائم وليس الإصلاح الحقيقي.

وبالإضافة إلى مبادرة الشراكة مع الشرق الأوسط هناك هيئة المعونة الأمريكية USAID التي تمتلك خبرة طويلة في تقديم مساعدات التنمية في المنطقة، والتي تركز على تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة من خلال تشجيع النمو الاقتصادي والمساعدات الإنسانية بالإضافة إلى تشجيع الديمقراطية. وتحت تأثير أحداث سبتمبر اتجهت الهيئة إلى التركيز على قضايا الحكم الرشيد ونشر الديمقراطية والإصلاح القضائي وزيادة الشفافية ودعم المجتمع المدني. وقد أدى هذا التحول إلى ظهور حالة من الازدواجية بين الوكالة ومبادرة الشراكة، أو التناقض بينهما في بعض الحالات، خاصة في ضوء عمل الهيئة مع الحكومات والنظم الرسمية التي قد تكون هدفا للتغيير من قيل مبادرة الشراكة. فضلا عن حالة التنافس واختلاف ثقافة عمل الإطارين.

2- المبادرات الأوروبية

على الجانب الأوروبي هناك إطارين رئيسيين. الأول هو quot;الشراكة الأوروبية- المتوسطيةquot; EMP والتي انطلقت في عام 1995 وأسست لما عرف بعملية برشلونة. وتركز الشراكة على ثلاثة مجالات أساسية، هي الشراكة السياسية والأمنية، والشراكة المالية والاقتصادية، وأخيرا الشراكة الثقافية والاجتماعية. وتستند الشراكة إلى افتراض التنمية الاقتصادية والاجتماعية هي شروط أساسية لبناء السلام والاستقرار في المنطقة. وإضافة إلى العلاقة الثنائية المباشرة بين الاتحاد الأوربي ودول جنوب المتوسط، أولى الاتحاد اهتماما كبيرا بالعمل الإقليمي الجماعي مع المنطقة ككل من خلال مشروع منطقة التجارة الحرة التي سيتم اكتمالها بحلول عام 2010.

ورغم أهمية مبادرة الشراكة تلك إلا أنها تعرضت هي الأخرى لانتقادات عدة، أهمها النقد الموجه للفلسفة الرئيسية، فالتنمية الاقتصادية لا تقود بالضرورة إلى تحقيق الديمقراطية والاستقرار السياسي والاجتماعي، وافتقاد المبادرة لفلسفة العمل من أسفل أو العمل المباشر مع المجتمعات المحلية. ورغم نجاح المدخل الاقتصادي للاتحاد الأوروبي في وسط وشرق أوروبا إلا أنه لم يكن فاعلا في حالة الشرق الأوسط لأسباب عديدة أهمها اختلاف حوافز ودوافع الدول المستهدفة في الحالتين، فقد شكل الالتحاق والاندماج في الاتحاد الأوروبي دافعا قويا لتطبيق الإصلاح السياسي في حالة دول شرق ووسط أوروبا، وهو ما لا يتوفر في حالة دول الشرق الأوسط. أضف لذلك عدم قدرة المبادرة على التعامل مع الصراعات الأساسية فجنوب المتوسط خاصة الصراع العربي- الإسرائيلي، والصراع المغربي- الجزائري.

الإطار الثاني هو ما عرف بسياسة الجوار الأوروبي ENP التي تبناها الاتحاد الأوروبي في عام 2004 كإطار للتعامل مع دول الجوار بعد التوسع الذي شهده الاتحاد. وتهدف تلك السياسة إلى خلق حوار سياسي واجتماعي مع دول الجوار مع التركيز بشكل خاص على العلاقات التجارية والاقتصادية. وعلى العكس من الطابع الإقليمي الجماعي لعملية برشلونة، تقوم سياسة الجوار على العلاقة الثنائية المباشرة بين الاتحاد وكل دولة على حدة وفقا لقدرة كل شريك على أقلمة سياساته مع توقعات الاتحاد الأوروبي في مجالات القانون والحكم الرشيد وحقوق الإنسان واقتصاد السوق. والهدف الأساسي من سياسة الجوار هو التمييز بين عملية التكامل الأوروبية- المتوسطية والصراعات الإقليمية القائمة، وتحييد تأثير هذه الصراعات على عملية التكامل. ورغم أن هذه السياسة تمثل فصلا جديدا في العلاقات الأوروبية المتوسطية إلا أنها لم تستطع التغلب على المشكلات الأساسية للمنهج الأوروبي ومشكلات عملية برشلونة، خاصة التركيز على مشكلات الاقتصاد الكلي والإرهاب والهجرة غير الشرعية، ولازالت مسائل حقوق الإنسان والديمقراطية تحتل أهمية متأخرة في أجندة سياسة الجوار تجاه دول جنوب المتوسط. كما أن تركيز سياسة الجوار على خلق quot;دائرة من الأصدقاءquot; حول الاتحاد الأوروبي الموسع تعكس تركيزه على أمنه الخاص أكثر من التركيز على التعاون الإقليمي في منطقة البحر المتوسط.


3- التعاون الأمريكي- الأوروبي

رغم أهمية قضية الإصلاح في السياستين الأمريكية والأوروبية إلا أنهما ظلا يعملان بشكل منفصل خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات. ولكن أحداث سبتمبر 2001 أكدت للطرفين ضرورة التنسيق بينهما. وقد نجم عن هذا الإدراك طرح quot;مبادرة الشرق الأوسط الموسعquot; BMENA من خلال مجموعة الثماني في يونيو 2004. وقد استحدثت المبادرة quot;منتدى المستقبلquot; كمنتدى سنوي يشارك فيه بالإضافة إلى المسئولين الحكوميين على المستوى الوزاري، ممثلون عن المجتمع المدني وقطاع الأعمال والمؤسسات الأكاديمية.

ويؤخذ على هذه المبادرة تركيزها على القضايا الاقتصادية التقليدية على حساب قضايا الإصلاح السياسي، إذ اكتفت المبادرة في هذا المجال بدعم الحوار في إطار quot;منتدى المستقبلquot; حول قضايا الإصلاح. كما كشف الاجتماع الثاني للمنتدى الذي عقد في البحرين في نوفمبر 2005 عن فجوة كبيرة بين الأطراف المشاركة، حالت دون تطوير رؤية مشتركة بين الدول العربية والأطراف الخارجية، خاصة حول العلاقة بين المنتدى وقوى المجتمع المدني، ورفض بعض الدول العربية آلية الدعم المالي المباشر لمنظمات المجتمع المدني. كما تعرضت المبادرة والمنتدى لعدد من الانتقادات الأخرى المهمة مثل ضعف القدرات المالية للمبادرة، خاصة التمويل الأمريكي، إذ أن تمويل المبادرة لا يأتي عبر التخصيص المباشر من الكونجرس ولكنه يعد تمويلا فرعيا من quot;مبادرة الشراكة مع الشرق الأوسطquot;.

وبالإضافة إلى الانتقادات الموجهة لهذه المبادرات، فإن نجاح أي منها يتوقف على مواجهة عدد من التحديات على الجانبين الأمريكي والأوروبي. فعلى الجانب الأمريكي هناك حالة من الانقسام والتنافس الشديد، وربما الصراع، حول قضية الإصلاح بين وزارة الخارجية ووزارة الدفاع والبيت الأبيض والكونجرس. وفضلا عن الانعكاسات السلبية لهذا الخلاف على فعالية المبادرات الأمريكية فإنه يثير تساؤلات لدى الشركاء المحليين في الشرق الأوسط حول جدية المبادرات الأمريكية وأهدافها النهائية. وعلى الجانب الأوروبي، هناك انقسام عام بين دول الاتحاد الأوروبي حول مسائل الإصلاح، فبينما تولي دول الشمال أهمية أكبر لمسألة الديمقراطية، تولي دول الجنوب اهتماما أكبر بقضية الاستقرار وتطبيق معايير أكثر مرونة فيما يتعلق بتوزيع المساعدات الاقتصادية. وبينما تركز دول الشمال على تحرير التجارة باعتباره المجال الأهم للتعاون مع دول جنوب المتوسط، تركز دول الجنوب على الحوار الثقافي وترى في فتح الأسواق الأوروبية أمام منتجات جنوب المتوسط (خاصة الزراعية) أحد مصادر تهديد اقتصادياتها الوطنية.

وسيتناول تقرير واشنطن الأسبوع القادم تجربة المغرب في الإصلاح، و الجهود الأمريكية والأوروبية لدعم الإصلاح في المغرب