الأربعاء: 2006.02.22

العين الثالثة


حسن أحمد عبدالله

أقدمَ المحرر الثقافي في صحيفة gt;يولاندز بوسطنlt; الدنماركية على نشر رسومات كاريكاتيرية مسيئة للرسول (صلى الله عليه وسلم) في سبتمبر الماضي، والآن يغلي العالم الإسلامي غضباً من الفعل المشين الذي تبنته الصحيفة ومن بعدها العديد من الصحف الأوروبية (غربية وشرقية) وأميركية وبعض العربية. في المقابل يوم الاثنين الماضي جرت محاكمة ديفيد ايرفينغ، هذا المؤرخ البريطاني المعتقل في النمسا، استناداً الى قانون يعود إلى العام 1947، يمنع نكران المحرقة التي تعرض لها بضعة من مئات الآلاف من اليهود إبان الحكم النازي في ألمانيا وأثناء الحرب العالمية الثانية، والأسبوع الماضي افتتح المحامي الفلسطيني خالد المحميد في مدينة الناصرة المحتلة منذ العام 1948 متحفاً لتخليد المحرقة المذكورة.
وإذا كان المحميد يعتبر ان gt;المتحف هو لتبيين آثام أوروبا في حق اليهود (...) ولولا المحرقة لما وجدت دولة إسرائيلlt;، فإن القراءة التاريخية للمكونات الثقافية للهوية الإنسانية الحديثة تستوجب التوقف مطولاً عند مناطق هبوط الرسالات السماوية الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام) والبيئة التي انطلقت منها هذه الأديان إلى العالم أجمع، ومتى بدأت حركة التقاتل البشري تحت يافطات الأديان، وكيف ترجم أبناء البيئة الأولى التعاليم الدينية إلى سلوك يومي اجتماعي؟
والظروف الثقافية الراهنة تفرض إعادة قراءة متأنية لمفهوم الآخر في الرسالات السماوية الثلاث والذي أنتجته حركة البحث التاريخي في التعاليم وتفسيرها، في كل عصر حسب الفهم والإدراك الاجتماعيين في ذلك العصر، بالاضافة إلى العلاقة التي نشأت (نظرياً) بين الالتزام بالتعاليم الدينية والتعايش الإنساني المشترك على هذا الكوكب الذي يكاد ينفجر من حركة الانزياح العلمية، المقصودة، نحو الجانب التدميري من البحث العلمي.
ففي السنوات الأخيرة كتب الكثير وقيل الكثير... الكثير عن ضرورة احترام الأديان وبث روح التعايش السلمي بين أتباعها، حتى عندما خرج علينا صموئيل هنتنغتون بنظرية صراع الحضارات كانت نظرية مبنية على رؤية عنصرية طاردة حتى لأتباع الدين المسيحي الذي اعتبره مهدداً من قبل الإسلام، إذ هو جعل المسيحية العربية في الخندق المعادي.
وفي ظل كل ما يجري، لا تزال مسألة المحرقة النازية الشغل الشاغل للدوائر السياسية في أوروبا، ولا تزال مسألة التشكيك في عدد من أحرقوا فيها تعتبر من الآثام التي يعاقب عليها المرء بالسجن بين 10 و20 عاماً، كما هي الحال الآن مع البريطاني ديفيد ايرفينغ الذي يحاكم على بعض الكتب التي شكك فيها بعدد الذين أحرقوا... وليس بالمحرقة ككل.
ربما، ومن وجهة النظر الأوروبية، من حق دول اوروبا تحريم المس بالمحرقة حتى لا يصار إلى فتح ملف gt;الآثام الأوروبية بحق اليهودlt;، ما يعني نبشاً في تاريخ تحاول كل أوروبا دفنه ونسيانه بعد حمل النظام الهتلري وزر بشاعة الجرائم الأوروبية كلها، وبعدما دفعت ألمانيا التعويضات إلى إسرائيل عن جرائم الحقبة النازية. وربما من حق أوروبا ان تدعو، وعلى خجل، إلى احترام الإسلام في المحافل الرسمية وتبقي في الوقت ذاته على الاشتباه بالمسلمين كمصدر للإرهاب، نقول ربما استناداً إلى وجهة النظر الأوروبية، وذلك لأن الحروب الصليبية لا تزال طازجة في الذاكرة الثقافية الأوروبية، ولأن غياب العدو يؤدي في بعض النواحي الاقتصادية الى كساد وبطالة، والى استرخاء فكري في الأوساط المتطرفة (عرقياً ودينياً)، لكن أليس من واجب العقل المسلم أن يعمل على إنتاج لغة قادرة على محاورة الآخر، أوليس ذلك ايضاً من واجب العقل العربي، وهو الذي يتمتع بما لا يتمتع به العقل الأوروبي من حيث المكونات الثقافية، إذ في بيئته هبطت الرسالات السماوية الثلاث؟ أليس من واجب الثقافة الديموقراطية الغربية، وحرية الاعتقاد والتعبير التي ينادي بها الغرب، ان تأخذ في الاعتبار ان العصر لم يعد يقبل إقصاء ثقافة لتحل مكانها ثقافة أخرى؟
أياً كانت الأسئلة والإجابات، أياً كانت الأسباب الدافعة إلى إغماض العين الديموقراطية الأوروبية، القائمة على احترام حقوق الإنسان، عن الإساءة إلى دين وثقافة أتباعه، وفي الوقت نفسه رصد كل رمشة جفن بالنسبة إلى جريمة ارتكبها نظام يتحمل المسؤولية الكاملة في العديد من الجرائم ضد الإنسانية، وليس مسؤولية المحرقة فقط، فإن الضرورة الثقافية في هذه المرحلة تفرض على العقل العربي بخاصة، والعقل المسلم بعامة، البحث في لغة قادرة على إفحام الفكر المتطرف في الداخل والخارج، لغة يفهمها الآخر ولا تستفز فيه أعصاب الخوف والحذر.

[email protected]