عصام الخفاجي
أخي الكريم رئيس الوزراء
أرجو أن يتّسع صدرك ووقتك لقراءة هذه الرسالة. ولأنني أدرك ضيق وقتك، ولا أشك في اتّساع صدرك، فاسمح لي بتجاوز الديباجة المعهودة في مثل هذه الرسائل عن الظروف المأسوية التي يمر بها وطننا، وأنت أعرف مني بها، أو عن دوافعي laquo;المنزّهةraquo; وراء كتابة هذه الرسالة، إذ أترك تقدير ذلك لحكمتك وحكمة القارئ، التي لا أشك بها.
فاسمح لي إذن بالدخول فوراً في صلب الموضوع!
يبدو التذكير بما قبل ثلاث سنوات، ناهيك عن التذكير بعهد الطاغية، كما لو كان دعوة للعودة إلى عصور سحيقة، لشدّ ما مر علينا من أحداث جسام خلالها. لكنك لا بد تتذكّر موجة التفاؤل التي سادت العراق إثر سقوط نظام الإرهاب. وما كان منبع ذلك التفاؤل أو مآله، ترحيباً بالأميركي، كما ظن المحتل، أو سذاجة، بل كان أملاً من جانب الغالبية الساحقة من العراقيين بأن بوسعهم إعادة بناء وطنهم المدمر واسترجاع استقلاله على أسس جديدة ما إن يتفق القادة ، الذين وعدوا الشعب طوال سنوات بالديموقراطية والتداولية وحرية التعبير والتجمع والتظاهر، على السير قدماً في تنفيذ مشروعهم العتيد.
يومها، أيها ألأخ الكريم، كان العراق لا يزال يئن من حرائق ونهب المجرمين، وخدماته ودولته، كما اليوم، معطلتين ومخربتين، ونسب العطالة فيه، كما اليوم، تثير الرعب، وأمنه، كما اليوم، بيد عصابات تتخذ ألواناً ومضامين شتى، لكنها تبقى، وفقاً لأي تعريف نتبنى، عصابات.
ومع هذا كان الناس، عموم الناس أقصد، يجدون الأعذار للقادة الجدد ويبررون تفاؤلهم بأن البدء بإزالة تركة عقود من الإستبداد والنهب المنظميّن، ناهيك عن الحروب والدمار والحصار، لا بد أن تتطلّب بعض الوقت.
في ذلك العهد السحيق، لخّص لي سائق سيارة أجرة، ولست ألوم قادتنا الجدد إن لم يركب أي منهم سيارة أجرة، هذا التفاؤل الحذر ببلاغة شديدة بالقول أن الأميركان قد يكونون مدفوعين برغبة سرقة بعض من نفطنا، لكن ذلك أفضل من سرقة صدّام وعائلته وطغمته لكل نفطنا!
وفي ذلك العهد السحيق سمعت مناضلين دينيين وعلمانيين يقولون لي: في ظل إرهاب صدام وزبانيته كان التعبير عن أدنى احتجاج يودي إلى الموت البشع للمحتج وعائلته وأقربائه. في ظل الإحتلال، على الأقل بات بوسعنا تأسيس جمعيات تناهض الإحتلال، وتنظيم التظاهرات والتجمعات، ونشر المعلومات والمطالبة بها. ولم يكن القائلون بهذا، بالطبع، أنصارا للإحتلال، أو حالمين بالمنّ والسلوى القادمين مع أميركا، بل كانوا يقارنون، ببراءة نفتقد لها نحن المثقفون أو السياسيون، بين عهد بشع وآخر أقل بشاعة.
وفي ذلك العهد السحيق، أيها الأخ الجعفري، شعرت بالفخر يوم بينّت استطلاعات للرأي العام العراقي، أياً يكن رأينا في دقتها من وجهة النظر التقنية، فضلاً عن المشاهدات الحياتية والمقالات والبرامج الصحفية والإعلامية، أنك كنت الشخصية الأكثر شعبية من بين القادة السياسيين الجدد للعراق. وكنت أكثر فخراً، بشعبنا وبك، إذ اختارك أبناء الرمادي، تلك المحافظة التي يراد لنا اليوم نسيان تعرضها للقصف المدفعي البشع على يد طغمة صدام في عام 1995، الشخصية ألأكثر شعبية من بين هؤلاء القادة.
كان هذا برهاناً جديداً على أن العراقيين، وبرغم حملات التجهيل المكثفة التي تعرضوا لها طوال عقود مديدة، لم يركنوا إلى الإنتماء الطائفي في تحديد من يثقوا بهم، بل إلى الإعتقاد بعدالة وعدم تحيز من يطرح نفسه قائداً. أقول، برهاناً جديداً، لأنها لم تكن المرة الأولى التي تصرّف بها الشعب هكذا في منعطفات خطيرة مرّ بها، وما أكثرها. يكفي التذكير بدور مدينة الثورة الشيعية في الدفاع عن القائد laquo;السنيraquo; عبد الكريم قاسم ضد انقلاب قاده حزب البعث، الذي يراد لنا، وبخاصة للأجيال الشابة، اليوم أن ننسى أنه بعنصريته وعدوانيته النازيتيين، كان يخضع بشكل شبه كامل لقيادة أفراد من الشيعة.
قبل أن تتخّذ الأحداث هذا المنحى الخطير، لم ير الدليمي ضيراً في التصويت لإبراهيم الجعفري كأفضل سياسي، وكان الترحيب الشعبي بانتخاب مام جلال الطالباني رئيساً للجمهورية معلماً مشرقاً على طريق بناء عراق جديد ناضلنا من أجله جميعاً. وتعرف، أخي الجعفري، الجهد والدم الذي بذله مفكرون ومناضلون مسيحيون وأيزيديون وصابئة عراقيون في إعداد مسودات القوانين والدستور وترسيخ دولة القانون والمساواة برغم شراسة من يريدون تهميش مكونات لا يمكن للعراق أن يبقى عراقا من دونها.
ومضت ثلاث سنوات فقط، هي ومضة في عمر التأريخ، لا في معايير عراقنا المبتلى.
فكيف صار الجعفري، الشخصية الأكثر قبولاً بين العراقيين آنذاك، سبباً رئيساًِ، ولا أقول السبب الرئيس، لأزمة تكاد تعصف بالعراق كله؟
من حقك الإفتراض، هنا، أن كاتب السطور مدفوع بموقف سياسي أو فكري ينحاز فيه إلى جهة سياسية أو كتلة نيابية، وهو من حقي بالطبع. لكن الأسطر القليلة الآتية قد تقنعك بأن تفكر في ما ستقول لنفسك، وللناس وللتاريخ، يوم تكتب مذكراتك مفسّراً، وأتمنى ألاّ أقول مبرراً، اسباب تفتت بلد في ظل رئاستك للوزارة.
لو حصلت هذه الكارثة، لا قدّر الله، فلن يفتقر المبررون الى سلسلة طويلة من العوامل والأسباب. ولكن من بوسعه أن ينكر آنذاك دور رئيس الوزراء الذي حصلت الكارثة أثناء حكمه؟
وأعود إلى laquo;أجندتي السياسيةraquo;، فأجدني مضطرّاً، بعد تردد طويل، إلى البوح بما لم أتحدّث به من قبل، وعما كنت أظن أنني لن أتحدّث به قط، أقصد دوري المتواضع يوم كنت، كما لا شك تعلم، العراقي الوحيد المتفرغ للعمل مستشاراً للسيد الأخضر الإبراهيمي مندوب الأمين العام للأمم المتحدة المكلف بتشكيل حكومة تتسلم إدارة البلاد من سلطة التحالف الموقتة بقيادة بريمر في أيار (حزيران) 2004.
لم يأتِ اختياري من فراغ، وما كنت جاهلاً بمشقة المهمة التي كلفت بها، ولا كنت غافلاً عن حقيقة أن للأميركان مرشحهم الذي صارعوا بضراوة لفرضه، وللسيد الإبراهيمي الذي يفترض أنه وسيط محايد، مرشحيه الذين بذل جهداً لفرضهم، ولبلدان الجوار وما ورائها مرشحيها الذين عملوا على فرضهم، كل وفق نفوذه في العراق.
لعل الوقت سيأتي للحديث عن هذه القضايا وغيرها، لكن ما يعنيني هنا شرح الأسباب التي دفعتني للإستماتة في الدفاع عن توليك رئاسة الوزارة التي كانت مهمتنا، أو بالأحرى مهمة الإبراهيمي، تشكيلها.
كانت وجهة نظري، ببساطة، أن الوضع يبدو هادئاً على السطح إثر القمع الدموي لانفجار الفلوجة الأول. إلا أن العراق مقبل قريباً على انفجارات عنف هائلة في مناطق شتّى، وبالتالي فإن الحكومة الإنتقالية المطلوبة يجب أن تمتلك القدرة على إطفاء الحرائق التي ستحدث بالتأكيد. أبدى السيد الإبراهيمي شكّه العميق من تشاؤمي laquo;المميز للمثقفينraquo;. وتمسكت برأيي الذي أترك لكم تقدير صوابه أو خطئه.
لِمَ كنت أرى فيكم المرشح الأكثر ملاءمة لتولي رئاسة الوزارة في ذلك الظرف الهادئ على السطح، والعصيب، كما اعتقدت؟
أقتطف من مذكرة بالغة السرية كتبتها آنذاك للإبراهيمي: laquo;بينّت سلسلة من الإستشارات واستفتاءات الرأي العام، على نواقصها، أن الشخصيتين العربيتين الشيعيتين الأكثر حظوة بين العراقيين من مختلف الإنتماءات القومية والطائفية هما الدكتور إبراهيم الجعفري و...
إن الشخصية الشيعية المطلوب ترشيحها يجب أن تمتلك مصداقية بين جمهورها، بحيث تستطيع استخدام هيبتها وثقلها الإجتماعي، وليس الحزبي فقط، لكي تقنع من يحمل السلاح بأن اللجوء إلى النشاط السياسي السلمي ليس تواطؤا مع الإحتلال. وينطبق هذا أيضا وبشكل أكبر على المرشحين العرب السنة. وفي الظرف العراقي القائم، تتوافر للدكتور الجعفري تلك المواصفات.
إذا وافقتموني على أن العراق مقبل على انفجارات وشيكة أكثر عنفاً مما شهدته الفلوجة، فإن البديل، الذي يبدو أن السفير (...) يريد فرضه لن يكون أمامه سوى اللجوء إلى القوة الغاشمة لإطفاء حرائق ستزداد اشتعالاً، لأن حملة السلاح ستكون أمامهم فرصة ذهبية لتصوير الحكومة دمية بيد الأميركان، خصوصاً أن القوات التي ستلجأ لها الحكومة ستكون أميركية....
يضاف إلى كل ما تقدم، أن الدكتور الجعفري يقود حزباً تحوّل بحزم، مثل حركات سياسية عراقية عدة، إلى تبني مبدأ الديموقراطية البرلمانية، والإيمان بالتعددية والتداول السلمي للسلطة. وهو حزب لا يمتلك ميليشيا يمكن أن يهدد الولاء لها عملية بناء المؤسسات العسكرية والأمنية المستقلة للدولة. وفوق ذلك كله، فقد أثبت حزب الدعوة الذي يقوده الجعفري أنه برغم منطلقاته العقائدية، ليس مستعداً للتفريط باستقلاليته عراقياً لصالح أممية مذهبيةraquo;.
معاذ الله أن يفهم من قولي السابق، تفضّلاً عليكم، أو إيحاءً بأهمية دور لم ألعبه في الواقع. فدور المستشار في نهاية المطاف، لا يقرر النتائج. والحكم على موضوعيته، سواء أخطأ أم أصاب، ليس صعباً. وفي حالة كاتب هذه السطور، تعرفون أنني برغم نشاطي المكثف والمتواضع في صفوف المعارضة طوال أكثر من ربع قرن تشرفت خلالها بمزاملة عشرات القادة والكوادر والمناضلين المستقلين مثلي والمنتمين لمعظم فصائل المعارضة، أقول برغم ذلك، لم ألتقِ بكم شخصياً. ومع هذا، كانت تلك قناعتي في حزيران 2004.
في 28 حزيران 2004، تشكل نظام الحكم الجديد، وتم اختيار أخ آخر لرئاسة الوزارة، فيما تم الأخذ بكثير مما اقترحت أو اقترحنا، كيف حدث ما حدث؟ أزعم معرفتي بكثير مما حصل، وجهلي بقدر ليس بالقليل! لكنني، وبالمسعى نفسه الرامي إلى التمييز بين الأفراد ومدى قربي الفكري أو الشخصي بهم، وبين الظرف الموضوعي الذي يقودني تحليلي إلى استشراف تأثيره عليهم، عبّرت منذ اليوم الأول عن رأي مفاده أن هذه ستكون حكومة مجابهة عسكرية مع شعبها.
أطلت عليك، أخي الكريم الجعفري! لكن من حقك أن تسأل: أفهل انقلبت على قناعاتك اليوم؟
الحق أقول، أن قناعاتي نفسها التي دفعتني للإستماتة في ترشيحك في صيف 2004، قادتني إلى القلق من قبولك رئاسة الوزراء إثر الإنتخابات المجيدة أوائل 2005، وهي التي تحثّني إلى مناشدتك بالتنحي اليوم يا دولة الرئيس. وإليك الأسباب:
في عام 2004، وضعت مخططاً، أرفقته بأربعة جداول يقترح حكومة (تشمل رئاسة الجمهورية والوزارة، وفيما بعد، أعضاء الجمعية الوطنية الإستشارية) راعيت فيها إشراك عراقيي laquo;الداخلraquo; و laquo;الخارجraquo; كما باتوا يعرفون، والمرشحين بسبب كفاءاتهم المهنية إلى جانب المرشحين لاعتبارات سياسية، وتمثيل النساء والرجال، والتوزيع العادل، غير الشكلي للمناصب بين الطوائف والقوميات والأديان التي يتكون منها الشعب العراقي، وأخيراً، وبالدرجة الأولى، العراقيين الذين يحظون فعلاً، لا ادعاءً، بحظوة وهيبة اجتماعية في بيئاتهم المحلية، بغض النظر عن تعاطفنا الشخصي مع آرائهم أو مواقفهم، بل بالإحتكام فقط إلى سلطة القانون التي تمنع المجرم من تولي مناصب عامة.
أما في عام 2005، وبخاصة اليوم، فإني أدعوك يا دولة الرئيس إلى النظر إلى القيود التي كبّلتك وستكبّلك بإحكام أشد لو أصررت على اللهاث وراء إغراء منصب لن يكون إلا زبداً سيذهب جفاءً، فيما نريد لك بصدق أن تنفع الناس فتمكث في الأرض.
هل سيكون بوسعك السعي الجاد الى بناء دولة القانون، التي تعرّف الجماعات المسلحة خارج الدولة كعصابات؟ ألست، إن حكمت، مندوباً عما لا يقل عن ميليشيتين مسلحتين؟
ولو اعتبرنا قفزك فوق وصف العراق laquo;فيديرالياًraquo; زلّة لسان يوم أقسمت يمين تولي المسؤولية في العام الماضي، هل بوسعنا انتظار حل فدرالي مشرف لشعبينا العربي والكردي، فضلاً عن التركمان والكلدو-آشوريين، وأنت ممثل ائتلاف يخوّن نصفه الفيديرالية، فيما يربط النصف الآخر موافقته عليها بمشروع يحيل العراق إلى اقطاعيات لأمراء حرب؟
ولو افترضنا، وما أصعب الإفتراضات حين يتعلق الأمر بمصائر شعوب، إنك رئيس وزراء العراق حتى 2010، لأن الشعب صوّت للإئتلاف، وأن الإئتلاف صوّت لك، فأنت إذن الرئيس المنتخب ديموقراطياً، هل بوسعك السير ببرنامج يتقاطع مع مواقف معروفة لأطراف في الإئتلاف نفسه، بوسعها حجب الثقة عنك في منتصف الطريق، بل أوله؟
ولو افترضنا، أن كل الأزمات التي تسبّب بها تمسكك بالمنصب، تم تجاوزها، وتم تنصيبك رئيساً للوزراء بالفعل، فهل ستشعر حقاً، أخي الجعفري، بأنك تحكم باسم الشعب، إذ رفضك صراحة 140 من مندوبي الشعب، وصوّت ضدك، في الإئتلاف الذي تنتمي إليه، نصف النواب؟ أي أن 203 من مجموع أعضاء البرلمان الـ 275 قد صوتوا ضدك، بحساب بسيط.
أخي دولة الرئيس، لهذه الأسباب، أناشدك بقلب عراقي جريح: إعرض عن الترشّح للرئاسة، وقاوم إغراء السلطة. وإن كنت صاحب برنامج ورسالة، وأنا واثق من ذلك، فبدل مساجلات سياسية وبرلمانية، لا بد وأن تحيلك واحداً من المتنافسين على منصب مغر، وقد تنتهي إلى رفضك أو إقرارك رئيساً ضعيفاً لوزارة ضعيفة، فإن خطاباً من الدكتور الجعفري، يعلن فيه أنه امتثل لإرادة مندوبي الشعب، حتى لو لم يتفق معهم، ستضعك في موقع القادة الكبار الذين سأكون أول من يفخر بهم.
ولك جزيل احترامي.
كاتب ومفكر عراقي.
التعليقات